قد يبدو أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قد حقق نصراً سهلاً في الحرب التي كان يخشى أن تطول في تيغراي أقوى أقاليم البلاد، ولكن ما ماحقيقة هذا النصر، ولماذا تبدو النار تحت الرماد الإثيوبية مهددة بالاشتعال أكثر من أي وقت مضى؟
في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، بدأ رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد هجوماً عسكرياً ضد جبهة تحرير شعب تيغراي، وهي حكومة إقليمية منفصلة كانت تهيمن على الائتلاف الحاكم في إثيوبيا سابقاً، واستولت قوات آبي بسرعة على المدن الرئيسية في تيغراي.
وألحقت الحرب خسائر فادحة بجبهة تحرير شعب تيغراي، وأثارت مخاوف من صراع أوسع قد يمتد إلى ما هو أبعد من حدود البلاد.
والآن يصر آبي أنَّ الحرب في إقليم تيغراي انتهت.
كيف أخمد آبي أحمد تمرد تيغراي بهذه السرعة؟
الواقع في تيغراي مختلف جداً، فصحيح أنَّ القوات الإثيوبية تسيطر حالياً على جزء كبير من المنطقة، لكنها لا تتمتع بالسيطرة الكاملة، ولا يزال العديد من قادة ومقاتلي جبهة التحرير الشعبية طلقاء، حسب هذا الموضوع المترجم عن مجلة Foreign Affairs الأمريكية.
وكان أحد الأسباب التي جعلت القوات الإثيوبية قادرة على الاستيلاء على العاصمة الإقليمية ميكيلي بهذه السرعة هو أنَّ جبهة تحرير شعب تيغراي سحبت بالفعل العديد من مقاتليها ونشرتهم عبر المناطق الريفية والجبلية النائية في الإقليم.
كما أن إريتريا -وهي دولة شمولية تعتمد القوة العسكرية ونظام الحزب الواحد في إدارة الدولة- ساعدت إثيوبيا في قمع تمرد تيغراي، حيث اعترف آبي أحمد الحاصل على جائزة نوبل، بأن أسمرة "قدمت طعاماً وملابس عسكرية وأسلحة للجنود الإثيوبيين الذين انسحبوا عندما هاجمتهم جبهة تحرير شعب تيغراي، واستولت على قواعدهم في إقليم تيغراي، المحاذي للحدود الإريترية.
هل تجددت الحرب؟
من المستحيل استبعاد اندلاع تمرد دموي آخر، إذ يمكن أن تكون انتفاضة تيغراي معدية، وتشعل فتيل ثورات في أجزاء أخرى من البلاد أو حتى تلتحم معها. وحتى إذا نجحت القوات الإثيوبية في نهاية المطاف في القضاء على جبهة تحرير شعب تيغراي، فإنَّ الاستياء الشعبي العميق مما يُتصَوَّر أنه عدوان رئيس الوزراء على الإقليم سيستمر في التفاقم؛ ما يؤدي إلى ظهور جيل جديد من القادة المناهضين لآبي أحمد، الذين سيفعلون كل ما في وسعهم لمقاومة أديس أبابا.
وخارج تيغراي، سرّعت الحرب ما كان بالفعل أزمة شرعية تزحف باتجاه حكم آبي. بعد أقل من ثلاث سنوات من الشروع في الإصلاحات الديمقراطية، وبعد عام واحد من قبوله جائزة نوبل للسلام، يجد رئيس الوزراء الإثيوبي نفسه في حالة حرب، ويحكم بالإكراه أكثر منه بالتوافق.
وفي ظل غياب خطاب مُوحِّد لصفوف الشعب لإضفاء الشرعية على سلطته ومع تراجع الدعم الدولي، قد يجد آبي أنَّ السيطرة على تداعيات حرب تيغراي أصعب بكثير من الحرب نفسها.
كراهية عميقة وعنصرية منهجية
سارع آبي أحمد إلى الادعاء بأنَّ شعب تيغراي يحتفل بـ"تحريره" على يد القوات الإثيوبية. وفي الواقع، أذل الهجوم العسكري جبهة تحرير شعب تيغراي، وبفعله ذلك أذكى النزعة القومية لشعب الإقليم.
وطوال 28 عاماً قبل وصول آبي للسلطة، هيمنت جبهة تحرير شعب تيغراي على الائتلاف الحاكم في إثيوبيا، المعروف باسم الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي، وفي الوقت نفسه كانت تدافع بشدة عن الحكم الذاتي لإقليم تيغراي.
لكن أدى اختيار آبي رئيساً للوزراء في 2018 إلى كسر قبضة جبهة تحرير شعب تيغراي على السلطة وتجريدها من العديد من امتيازاتها. ونتيجة لذلك، أدت محاولات آبي إخضاع تيغراي عسكرياً وإخضاع حكومتها لسيطرته إلى نشوء كراهية عميقة تجاه الحكومة المركزية.
وزاد نظام آبي الأمور سوءاً بشن حملة تمييز منهجية، وبينما كانت تقتحم قوات آبي إقليم تيغراي، شرعت أديس أبابا في إقالة مسؤولين من عرقية تيغراي من السفارات، وبعثة الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام في الصومال، وحتى من شركة الطيران الوطنية.
ووفقاً لمنظمة Human Rights Watch، يزداد تعرض المنحدرين من عرقية تيغراي الذين يعيشون خارج الإقليم للمضايقات، بما في ذلك من خلال مداهمات قوات الأمن التعسفية لمنازلهم. وحتى لجنة حقوق الإنسان في إثيوبيا أعربت عن "قلقها البالغ" بشأن التنميط الإثني لتيغراي، "الذي يتجلى في الإجازة القسرية من العمل ومنع الناس من السفر إلى الخارج بما في ذلك في مهام العمل، وتلقي العلاج الطبي أو الدراسة".
وأعرب الدكتور تيدروس أدهانوم غبريسوس، مدير عام منظمة الصحة العالمية المنحدر من تيغراي، عن حزنه البالغ لما يجري في وطنه إثيوبيا، ودعا كل الأطراف إلى العمل من أجل السلام وضمان حماية المدنيين وإتاحة وصول المساعدات الطبية والإنسانية للمحتاجين.
ونفى تيدروس تقارير تزعم انحيازه إلى أحد أطراف الصراع الدائر في إقليم تيغراي، حيث قال"هذا ليس صحيحاً. ما أود قوله هو أنني لا أنحاز إلا إلى جانب واحد فقط وهو جانب السلام. العالم بأسره يحتاج إلى السلام من أجل الصحة، والصحة من أجل السلام".
التيغراي خبراء في حرب العصابات، ولكنهم محاصرون
ولا شك أنَّ التصور القائل إنَّ أديس أبابا تعاقب التيغرايين في جميع أنحاء البلاد سيؤجج التمرد. لكن جبهة تحرير شعب تيغراي قد تثير معركة شرسة ضد الدولة الإثيوبية.
وقد أصبح مقاتلو جبهة تحرير تيغراي خبراء في حرب العصابات خلال الصراع الذي أطاح بالديرغ (الحكومة العسكرية السابقة لإثيوبيا الاشتراكية)، لكن حكومة آبي هي خصم أقوى بكثير، إلى جانب أنَّ البيئة الدولية صارت أقل مواتاة لتيغراي مما كانت عليه في الثمانينيات، عندما كانت جبهة التحرير الإريترية حليفة للجبهة التيغرية.
إضافة إلى ذلك، يجد زعماء التيغراي أنفسهم محاصرين بين إريتريا والسودان، دون سهولة الوصول إلى حدود دولية يمكن من خلالها تأمين الوصول إلى الأسلحة والإمدادات.
خيارهم تمرد منخفض الكثافة طويل الأمد
بيد أنَّ هذه القيود لا تعني أنَّ جهود جبهة تحرير شعب تيغراي محكوم عليها بالفشل، بل تعني أنَّ التمرد من المحتمل أن يكون منخفض الدرجة وطويل الأمد، وأنَّ فاعليته ستعتمد جزئياً على قدرة جبهة التحرير على تشكيل تحالفات مع الجماعات المتمردة الأخرى من أجل التمدد داخل الجيش الإثيوبي.
ومن المرجح أن تمتد مقاومة تيغراي إلى ما وراء ساحة المعركة. وبغض النظر عمّا إذا كانت جبهة تحرير تيغراي قادرة على الحفاظ على تمرد قوي، فإنَّ حملة آبي العسكرية والتمييز الذي يمارسه نظامه ضد التيغراي سيعزز المقاومة السياسية لسيطرة الحكومة الفيدرالية على تيغراي لمدة جيل على الأقل. وفي حالة عدم وجود توافق سيتعين على أديس أبابا أن تحكم من خلال القمع.
ماذا سيحدث للانتخابات؟
إنَّ التمييز الذي تمارسه الحكومة الإثيوبية ضد أهالي تيغراي وجهودها لمركزية السلطة يهدد شرعية آبي في جميع أنحاء البلاد. وكانت الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي قد أعلنت أنها تحترم الحكم الذاتي لكل من المجموعات العرقية الرئيسية في إثيوبيا، وذهبت إلى حد تكريس حقوق المجموعات في تقرير المصير في الدستور، لكنها غالباً ما فشلت في الوفاء بهذا الوعد، مثلما أظهرت الاحتجاجات في أوروميا وأماكن أخرى في السنوات الأخيرة. لكن إلى جانب التنمية المثيرة للإعجاب التي تقودها الدولة، أعطى مبدأ الفيدرالية الإثنية للحكومة رواية قوية تروجها في الداخل والخارج.
وحل آبي الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي لصالح آلية سياسية جديدة تسمى "حزب الازدهار"، الذي كان أول عمل له هو قمع منطقة تطالب بقدر أكبر من الحكم الذاتي. وسعى رئيس الوزراء إلى تعزيز الدعم لهذا الهجوم من خلال تنظيم تجمعات حاشدة لعبت على الغضب الشعبي في سنوات صعود الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية.
وستؤدي هذه التكتيكات إلى تعقيد أي جهد يبذله رئيس الوزراء لإحياء مبدأ إضفاء الشرعية على تقرير المصير الإثني. ولا يزال بإمكان آبي محاولة إحياء أجندته الإصلاحية وإجراء انتخابات ديمقراطية تأخرت كثيراً بسبب الوباء، وربما أيضاً بسبب قلق آبي من احتمال ظهور نتائج غير محبذة.
وسيرحب المانحون الغربيون وبعض الجماعات الإثنية في إثيوبيا بخطوة الانتخابات وما ترمز له من إصلاح.
لكن آبي سيواجه صعوبة في استعادة رواية الإصلاح الديمقراطي بمصداقية بالنظر إلى أنَّ هجومه العسكري على جبهة تحرير شعب تيغراي جاء بعد أشهر فقط من اتهام قواته الأمنية بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان خلال العمليات الأمنية في منطقتي أمهرة وأوروميا.
علاوة على ذلك، فإنَّ الإصلاح المستمر – وتقليص سيطرة الحكومة المركزية الذي سيترتب عليه- من شأنه أن يترك آبي عرضة لتحديات إضافية من الجماعات المتمردة وأحزاب المعارضة.
العودة لهيمنة الدولة المركزية الأمنية
ومن ثم، يمكن أن يختار آبي بدلاً من ذلك إعادة تأكيد هيمنة الدولة المركزية وتوسيع قوات الأمن للقضاء على المقاومة.
وسيكون قادراً على الاعتماد على روايته المناهضة لجبهة تحرير شعب تيغراي لإضفاء الشرعية على مثل هذا النهج، لكن هذه المرة بحجة أنه لا ينبغي السماح لأية مجموعة بالتصرف كما لو كانت أكثر أهمية من الجماعة، وتصنيف أولئك الذين يفعلون ذلك بالإرهابيين.
ويعتقد العديد من منتقدي آبي أنه في أعماقه يرغب في مركزية السلطة، لكنه يعلم أن فعل ذلك من شأنه تدمير الصفقة التي وحدت الدولة معاً على مدى العقود الثلاثة الماضية؛ ما قد يؤدي إلى تمردات جديدة وتفاقم الصراعات القائمة.
ولكن قدرته على بسط سلطته على هذه الدولة الشاسعة مشكوك فيها
وحتى خارج تيغراي، من الواضح بالفعل أنَّ آبي فشل في بسط سيطرة فعالة على الأراضي الشاسعة لإثيوبيا.
فعلى الرغم من أنَّ رئيس الوزراء ينحدر من منطقة أوروميا، فقد فشل في إخماد الاضطرابات هناك أو في منطقتي ووليغا الغربية وبني شنقول-جومز.
وإلى جانب القتال المستمر في تيغراي، فإنَّ التمردات الطويلة والاشتباكات المنتظمة بين الجماعات العرقية المتنافسة في هذه المناطق تقدم تذكيراً مهماً بصعوبة الحفاظ على الاستقرار السياسي في إثيوبيا، وبحقيقة أنَّ كل حكومة سعت إلى الحفاظ على السلطة من خلال القوة وحدها أطيحت في النهاية.
حتى حدود اللحظة، منع التعتيم الإعلامي الحكومي الصورة الكاملة للأحداث في تيغراي من الوصول إلى العالم الخارجي. لكن التقارير المُسرَّبة، التي وردت من صحفيين أجروا مقابلات مع اللاجئين وتحققوا من صحة رواياتهم، تشير إلى أنَّ كلا الجانبين ارتكب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان.
وعندما تنقشع الغيوم ويصير الوضع أوضح، من المرجح أن تتدفق سيول من الأخبار السيئة؛ ما سيزيد الضغط على المجتمع الدولي لإعادة التفكير في دعمه لآبي وفتح تحقيق مستقل فيما إذا كانت قواته قد ارتكبت جرائم ضد الإنسانية.
وإذا أدى مثل هذا التحقيق إلى تخفيضات كبيرة في المساعدات الخارجية، يمكن للمستثمرين من القطاع الخاص البدء في تقليص مشاركتهم في إثيوبيا أيضاً. وستعمل هذه الخسارة، بدورها، على تعميق أزمة شرعية آبي؛ ما قد يهدد قبضته على السلطة بغض النظر عما إذا كان يرد بالقمع أو الإصلاح.