فوق السهول المرتفعة القاحلة في غرب أفغانستان، على طول أحد الطرق جنوبي مدينة هيرات، توجد مجموعة من الأكواخ الطينية المتينة المعروفة باسم "قرية الأرامل".
اختفى معظم رجال القرية من أباء أو أبناء، الذين قُتِلوا أثناء محاولتهم تهريب الأفيون عبر الحدود المقفرة إلى الجارة إيران. وتُرِكَت الأرامل ليَعُلن أنفسهن وأطفالهن، الذين مات بعضهم أيضاً خلال نقلهم المخدرات عبر الحدود من منطقة أدراسكان الوعرة في ولاية هيرات.
لا خيار آخر في أفغانستان.. تهريب المخدرات أو الانضمام لطالبان!
يقول أحمد علي فقيريار، حاكم المنطقة، لمراسل صحيفة The New York Times الأمريكية، إنَّ المنطقة فقيرة للغاية لدرجة أنَّ الرجال الباحثين عن عمل هناك أمامهم خياران: "بإمكانهم تهريب المخدرات أو الانضمام لحركة طالبان".
ويمكن لمُهرِّبي الأفيون والهروين ومخدر الميثامفيتامين جني 300 دولار أو أكثر في كل رحلة تهريب، وهو ما يمثل ثروة بالنسبة لمثل هذه القرية الفقيرة. لكنهم يخاطرون بالتعرُّض للاعتقال والمحاكمة والإعدام في محاكم إيران الإسلامية، أو التعرّض للرصاص والقتل على يد حرس الحدود الإيرانيين.
كانت أفغانستان حتى عام 2018 أكبر منتج للأفيون في العالم، ويُعَد "الخشخاش" أكثر المحاصيل النقدية ربحية في البلاد. تغذي هذه الأرباح الشبكة المالية لطالبان، وقوَّضت طوال سنوات عمليات إعادة الإعمار المستدامة والجهود الأمنية من جانب الولايات المتحدة وحلفائها.
ويبدو المسؤولون الأفغان بلا حول ولا قوة لإيقاف هذه التجارة المربحة، وحقق الكثيرون ثروة من خلال تواطئهم في تسهيل التهريب. والنتيجة دائرة مفرغة من زراعة الأفيون ومعالجته وتهريبه، الأمر الذي غالباً ما يترك أفغانستان أكثر عرضة لمواجهة العواقب الوخيمة لهذه التجارة غير المشروعة، كما تقول الصحيفة الأمريكية.
وقال فقيريار إنه حاول، وفشل في الحصول على تمويل حكومي لبرامج من أجل مساعدة الناس على تربية ماشيتهم وزراعة القمح والأرز والحبوب في المناطق القاحلة التي لا ترحم.
ما قصة قرية الأرامل مع الأفيون؟
تعيش الأرامل على الغذاء الذي يشترينه من أقواتهن التي يكسبنها من تجارة معالجة الصوف، ومن التبرعات من أقاربهن ومجموعات الإغاثة الدولية. ويرتاد بعض الأطفال مدرسة إسلامية يديرها "مُلَّا" بمسجد صغير في إحدى التجمعات السكنية القريبة. ويقع أقرب مركز سكاني في مدينة هيرات، عاصمة الولاية، على بُعد 45 ميلاً (72.4 كيلومتر) شمالاً.
قالت نيك بيبي، وهي أرملة قالت إنها تبلغ قرابة 50 عاماً: "كانت الحياة طيبة لوقتٍ طويل، وكان أبنائي الثلاثة يجنون الكثير من المال من نقل الأفيون. لكنَّهم قُتِلوا جميعاً بعد ذلك".
وأضافت أنَّ ابنها الأكبر، غلام رسول (20 عاماً)، اعتُقِلَ قبل بضع سنوات ثُمَّ أُعدِمَ في إيران. وقالت إنَّ الابنين الآخرين –عبد الغفور (15 عاماً) وعبد الظريف (14 عاماً)- أُرديا قتيلين على يد حرس الحدود الإيراني فيما كانا يحاولان نقل الأفيون من أفغانستان.
وقالت بيبي إنَّ إيران لم تُعِد جثث أبنائها قط، وهي الشكوى التي تشاطرها فيها نساء أخريات في القرية. وأضافت بيبي أنَّ زوجها تُوفي مؤخراً نتيجة المرض، وتركها لترعى أرامل أبنائها وأحفادها الثمانية. وتكسب عيشاً هزيلاً من معالجة الصوف الخام يدوياً وتحويله إلى ألياف لغزل السجاد.
ظروف قاسية فوق طاقة نساء القرية المنكوبة
تجتاح القرية هذه الأيام رياح شديدة البرودة تؤدي إلى تعالي أصوات ثغاء الخِراف القابعة في حظائر قاسية بجوار أكواخ الأرامل. ولا توجد كهرباء ولا مياه جارية، ولا توجد تدفئة باستثناء تلك الناتجة عن الأغصان الجافة التي تجمعها الأسر أو تشتريها لتحرقها. وتُضيء بعض الأرامل مصباحاً واحداً بالليل باستخدام الطاقة التي تُولِّدها ألواح شمسية صغيرة خلال النهار.
كانت الظروف قاسية جداً هذا الخريف لدرجة أن الكثير من النساء غادرن القرية وتوجَّهن إلى بيوت أقاربهن أو نحو مخيمات للنازحين تديرها منظمات إغاثية. قال محمد زمان شكيب، مدير التنمية بمجلس المنطقة، إن القرية كانت حتى وقتٍ قريب موطناً لثمانين أرملة وأسرة. لكنَّها اليوم تضم 30 فقط. وقال: "البرد والجوع دفعهن للانتقال".
قالت فاطمة (40 عاماً): "لا شيء لنا هنا، قد نموت جوعاً هذا الشتاء". وأضافت فاطمة أنَّ زوجها كان يكافح لكسب عيشه من جمع وبيع الأغصان للطهي والتدفئة. وقالت إنه قَبِلَ، بدافع من اليأس، عرضاً لتهريب الأفيون مقابل 200 دولار في الرحلة.
وأضافت أنَّه هرَّب المخدرات لثلاث سنوات، حتى أرداه حرس الحدود الإيراني قتيلاً قبل خمس سنوات. وهي الآن تعتني بأبنائهما الخمسة.
قرية بلا رجال تواجه مصيراً مجهولاً
مع ذلك، لم تؤدِ قلة الرجال في القرية إلى تحرير النساء من "القيود القاسية للثقافة الأبوية" في أفغانستان. يقول المسؤولون الأفغان إنَّ هيرات تُعَد واحدة من ثلاث ولايات غربية توفر قناةً منتظمة لتصدير المخدرات، وتمثل إيران وجهة رئيسية للأفيون الأفغاني.
وقال الحاكم فقيريار إنَّ القرية برزت باعتبارها مركزاً للمنطقة في تهريب المخدرات بعدما بدأ رجلٌ محلي عملية لتهريب الأفيون هناك قبل ثلاثة عقود. ويقول إنَّ نفس هذا الرجل يقود الآن ميليشيا موالية للحكومة في هيرات.
وقال الحاكم إنَّ تهريب المخدرات في المنطقة منتشر جداً لدرجة أن إيران تُسيِّر مركبات دورية بطول الحدود المفتوحة مع منطقة أدراسكان. مع ذلك، يتمكَّن المهربون من إدخال ما يكفي من الأفيون إلى إيران لاستيعاب خسارة الشحنات التي يجري اعتراضها على الحدود معها.
وخَلُص المفتش الأمريكي العام المعنيّ بجهود إعادة إعمار أفغانستان في تقرير صدر عام 2018 إلى أنَّ الولايات المتحدة أنفقت 8.62 مليار دولار على الجهود الفاشلة لمكافحة المخدرات في أفغانستان بين عامي 2002 و2017. مع ذلك، تزايد إنتاج الأفيون من 3400 متر طني في عام 2002 إلى 9000 متر طني في عام 2017.
وبالنسبة لأرامل القرية والمستوطنات الأخرى في ولاية هيرات، الحرب ليست بعيدة أبداً. إذ تهاجم طالبان بصورة منتظمة المواقع الحكومية القريبة. وقال فقيريار إنَّ دوريات الشرطة تُطهِر الطريق السريع في مدينة هيرات يومياً من القنابل التي يزرعها المسلحون ليلاً.
الأبناء على درب الأباء
وقال إنَّ الحكومة أغلقت مؤخراً نقطة حدودية صغيرة بعدما هُوجِمَت وتعرَّضت للضرر، ليس من جانب طالبان، بل مهربي مخدرات متحالفين مع المسلحين بغرض تطهير الطريق أمام التهريب.
ولذلك تعاني الأرامل، اللاتي يكسب معظمهن القليل من تجارة معالجة الصوف، التي تؤدي إلى تغيُّر لون أياديهن واخشوشان بشرتها. وفيما يكافحن لتربية أبنائهن، يخشى الكثيرات منهن أن يسير أبناؤهن على خطى آبائهن في تجارة تهريب المخدرات.
قالت فاطمة عن أبنائها الخمسة: "لن أسمح لهم، سيتعرضون للقتل مثل أبيهم. سأمنعهم، حتى لو كان ذلك يعني موتنا جوعاً".