بينما تبدو أحداث كثيرة متكررة في الأزمة الليبية، منها تهديد حفتر بالحرب على حكومة الوفاق، وزيارة لوفد تركي لتخريج دفعة من العسكريين الجدد، وسط حشد شعبي واسع في نفس المعسكر الذي قصفته طائرات إماراتية وراح ضحيته أكثر من ثلاثين من الطلبة المتدربين قبل أقل من سنة.
لكن الحدث الذي خرج عن السياق حقاً هو زيارة وفد مصري للعاصمة طرابلس؛ هذا التغير في السياسة المصرية ومد جسور التقارب مع حكومة الوفاق قد أحدث تبايناً كثيراً في إدراك مسارات الأزمة الليبية؛ لذا فإن هذا النمط المختلف الذي خرج عن الانقسامات المعروفة بين تركيا من جانب وروسيا والإمارات وفرنسا ومصر من جانب آخر، بدا وكأن الجمود الذي عاشته الأزمة الليبية يحمل في طياته الكثير.
هناك معلومات كثيرة لم تظهر في الإعلام عن تقارب روسي تركي حقيقي في الأزمة الليبية، وروسي مع حكومة الوفاق بعد تسليم جاسوس روسي ومصور قبض عليهما أثناء حرب طرابلس، كما أن هناك أنباء متطابقة عن تغيير في المجلس الرئاسي وعن محاولات تجري من قبل عقيلة صالح في الشرق الليبي للتواصل مع تركيا… المعادلات المألوفة في الأزمة الليبية بدأت تتغير، وهذا يحتاج لتتبع هذه المتغيرات على الأنماط التي تشكلت من خلال تتبع الجديد في هذه الأزمة، لمعرفة ما إذا كان المسار يتحرك نحو التأزيم، أم أن انفراجاً حقيقياً ستتجه إليه الأزمة مع بداية العام الجديد؟
زيارة تاريخية
اعتبر بعض المراقبين المصريين زيارة وفد مصري للعاصمة طرابلس زيارة تاريخية، فرغم أن التمثيل الدبلوماسي الذي زار طرابلس حمل في الغالب صفة أمنية من وكيل الاستخبارات المصرية ومسؤول الملف المصري، ووكيل وزارة الخارجية المصرية إلا أن الرمزية التي أخذتها الزيارة تؤكد أن ما كان يتردد عن محاولات حثيثة من بعض الأجهزة المصرية في مد الجسور للحكومة المصرية مع حكومة الوفاق في العاصمة الليبية طرابلس كانت صحيحة، خاصة بعد زيارة وزير الداخلية الليبي فتحي باشاغا لطرابلس للقاهرة، وأن مخرجات هذه الزيارة التي كانت في الغالب قضايا تتعلق بعودة السفارة الليبية للقاهرة، وتفعيل بعض الاتفاقيات السابقة حول حرية التنقل والعمل بين البلدين الشقيقين، إلا أن المعلومات تتحدث عن وضوح وصراحة من الطرفين في التعامل بجدية لتجاوز الخطأ الفادح الذي وقعت فيه مصر بدعم عملية حفتر العسكرية على العاصمة طرابلس، لكن يبدأ السؤال عن الأسباب التي دعت القاهرة لهذه الخطوة التي فيما يبدو أنها استراتيجية وليست تكتيكية، يمكن إجمال هذه الأسباب لثلاث قضايا أساسية:
- ارتدادات هزيمة حفتر في طرابلس، وفشل الرهان العسكري.
- تغيّرات إقليمية منتظرة بعد الانتخابات الأمريكية.
- تغيّرات جيوسياسية في شرق المتوسط.
حفتر: ساعة صفر جديدة
لم تلق التهديدات التي أطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر أصداءً في الصحافة الدولية، ورغم الاستعدادات التي دعت لها قوات حكومة الوفاق فإن الاعتقاد السائد هو صعوبة تكرار تجربة حفتر للاعتداء على طرابلس، وذلك لأسباب كثيرة، منها جاهزية قوات حكومة الوفاق، حيث إن حفتر فقد تماماً عنصر المفاجأة الذي نفذ به عدوانه السابق، كما أن قوات الوفاق ولاسيما دفاعاتها الجوية باتت جاهزة كما لم تكن من قبل، وقد فقد حفتر أي سردية تبرر عدواناً جديداً على طرابلس. هنا يبدو أن الزيارة المصرية لطرابلس تعد انتصاراً لبعض الجهات في الدولة المصرية، التي كانت تعارض التوجه العسكري وتشكك في قدرات حفتر على إدارة المعركة، أو على أقل تقدير كانت ترى ضرورة أن يكون هناك توازن في السلوك المصري.
هزيمة طرابلس لحفتر لم تكن مجرد هزيمة عابرة، أو خطوة تكتيكية من قوات حفتر وقوات الفاغنر، بل هزيمة حقيقية ليس لأنها تمت بشكل سريع بل باستخدام الطائرات المسيرة بشكل أعاد حسابات كثيرة في الأوساط الدولية، فقد نشرت مجلة الفورين أفير تقريراً في عدد يناير الأخير، عن قدرة الطائرات المسيرة على تغيير معادلات كبيرة في المعارك التي تدور في المنطقة كما حدث في حرب طرابلس، فهي طائرات رخيصة من حيث الثمن، لذا فإنها كبدت قوات حفتر خسائر كبيرة ليس في الأرواح فحسب، بل في العتاد أيضاً، إذ دمرت الطائرات المسيرة 9 من مضادات الطائرات بانتيسير، والتي تعد تكلفة الواحدة منها ما يقارب 9 ملايين دولار، وهذا جعل التفكير في تكلفة الحرب وما يعرف بالحرب الذكية، يؤكد أن قيادة عسكرية مثل قيادة حفتر -الذي تقاعد لمدة قاربت 30 سنة- أو جيش غير ذكي كالجيش المصري لا يمكنهما بأي شكل من الأشكال أن تهزم قوة مثل القوة التركية، فضلاً عن تزاحم القوات المتواجدة في الشرق الليبي.
فالمعلومات المؤكدة أن قوات روسية (متمثلة في قوات فاغنر) وإماراتية، فضلاً عن الميليشيات من إفريقيا موجودة في الشرق الليبي، الشرق لم يعد مصرياً خالصاً، والتكلفة والدعم اللوجيستي سيؤثر بلا شك، ربما هذا أحد الأسباب الذي جعل مصر تعيد النظر في الأزمة الليبية، وهذا له بعداً سياسياً إقليمياً.
العلاقات المصرية الإماراتية وتأثيرها على حكومة الوفاق
متغير آخر بدا ظاهراً على سطح الأزمة الليبية، وهو الدعم المصري للحل السياسي المتزايد، وإصرار الإمارات على الحرب والحل العسكري، وإذا تجاوزنا السردية التي ترى أن المواقف بين البلدين هي من باب سياسة العصا والجزرة، فإن دعم مصر لطرف عقيلة صالح على حساب حفتر في الجوانب السياسية واضح للعيان. في الأيام القليلة الماضية كانت هناك زيارة من عباس كامل، رئيس جهاز المخابرات المصري، لا تعترض مع هذه الحقيقة، لأن الملف الأمني ربما لا يزال لحفتر دور أساسي فيه، لكن الانفتاح المصري على الشرق فضلاً عن معلومات مؤكدة عن دعم مصري لعقيله صالح والدفع به للاستمرار في سدة رئاسة البرلمان، والذي أكدته مصادر متطابقة في حوارات بوزنيقة في المغرب أو في حوارات تونس، يُظهر أن الخيار العسكري إن لم يكن قد انتهى فإن خطوات حذرة تتخذها مصر لتمسك بأطراف الأزمة الليبية.
هذا الخيار المصري سيجعلها في مأمن من تغيرات إقليمية قد تحدث، بعد تواتر التقارير عن تغير في سياسة الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن للمنطقة، ما يجعل مصر قد تبدو معرضة لتغيرات دراماتيكية جراء اتباعها سياسة الإمارات في المنطقة، خاصة أن تداعيات هذه السياسة أوقعت مصر في إشكال يبدو أنه سيكلفها الكثير.
هذا الإشكال هو إدخال روسيا لمنطقة شمال إفريقيا، الأمر الذي يعده كثير من السياسيين الأمريكيين سواء من خلال التواصل الشخصي للكاتب أو من خلال بعض التقارير المنشورة هو خطيئة ستكلف مصر الكثير، لأن المساحة التي خلقها ترامب لدولة كالإمارات للتحرك في أكثر من مسار عبر خلق شبكات مع روسيا وفرنسا وحتى إيران قد لا تستمر، وهذا قد يكلف مصر الكثير، وهذا ما يجعلها تحاول أن تنسج سياسة خاصة بها في الأزمة الليبية، وهذا قد يفسر التقارب التركي المصري من الناحية الاستخباراتية.
مصر وتركيا في شرق المتوسط
ليس سراً أن هناك تقارباً مصرياً تركياً على المستوى الأمني، تأكد هذا باتصالات في شؤون استخباراتية بين الطرفين، الأزمة الليبية وقضية شرق المتوسط هما جوهر الخلافات التركية المصرية. تركيا قوة صاعدة في المنطقة، وتمددها في شرق المتوسط بعد الاتفاقية الليبية التركية لترسيم الحدود البحرية خلق مجالاً حيوياً عليه نزاع بين دول كمصر واليونان وإسرائيل ولبنان وتركيا وقبرص الرومانية واليونانية وأخيراً ليبيا.
هذا التغير الدراماتيكي الثوري في المنطقة، والذي يعيد المنطقة لخلافات تاريخية منذ القدم، جعل مصر تبحث عن تواجد استراتيجي لها في هذا المعترك السياسي الدولي، فرغم التقارب المصري اليوناني فإن اليونان بدت هزيلة ضعيفة حين أخفقت في الوصول إلى أي قرار من الاتحاد الأوروبي يؤثر في سياسة تركيا في شرق المتوسط، كما أن التفاعل الأمريكي مع هذا المعسكر لا يزال محل نقاش بين هذه الدول.
بوجود بايدن في سدة الحكم يبدو أن الأمر سيصعب على القاهرة وأثينا، كما أن عودة حلف الناتو لقوته التي ضعفت منذ تولي الرئيس ترامب سدة الحكم قد جعل مصر تعيد حساباتها، فإن تركيا بتعاونها مع روسيا ونجاحها الكبير في قضية إقليم قره باغ، والنجاح النسبي في تخفيض مستوى العنف في سوريا، والاتفاق الذي عزّز المسار السياسي في ليبيا، كل ذلك جعل مصر تدرك خطورة العداء مع تركيا، وهذا سيجعلها تستفيد من خطوة مد اليد لحكومة الوفاق على مستويين، الأول يتعلق بالتقارب مع تركيا، المستوى الآخر مستوى التنافس والعمل الاستخباراتي لمعرفة ما الذي يجري في الغرب الليبي.
المسار الدولي للأزمة الليبية
الأزمة الليبية الآن أزمة دولية، ليس لأنها حرب بالوكالة وتدخل دول خارجية فيها وحسب، بل إن المتغير الظاهر الآن هو غياب أدوار الفاعلين تحت الدولة كالمنظمات الإرهابية والميليشيات، كما هو الحال مع قوات حفتر، في المستقبل القريب سيكون التفاعل مع الأزمة الليبية تفاعلاً دولياً، من خلال لقاءات وظهور القوة الاستراتيجية لكل دولة في الأزمة الليبية، وربما هذا سيكون أقرب للواقعية السياسية، ستسقط كثير من السرديات عن الإرهاب ونحوه، ويبدأ الحديث عن نظام سياسي يمكن أن يحقق مصالح هذه الدول المتدخلة في ليبيا، سيكون على الليبيين إدراك كل هذه المتغيرات، وسيكون الفعل الأمريكي حاسماً في تنظيم هذه الحرب غير المتماثلة استراتيجياً بين شركاء متشاكسين، كل يريد ليبيا أن تولد كما يحب ويشتهي.