التنافس بين الصين وأمريكا هو صراع بين قوة عظمى تسعى للحفاظ على مكانتها وأخرى صاعدة ترى الوقت مناسباً لفرض هيمنتها على الجميع، والتجسس في هذه الحالة هو كلمة السر، فكيف تفوقت الصين على المخابرات الأمريكية؟
كان المسؤولون الأمريكيون مصابين بحالة من الغيظ الشديد وهم يشاهدون الصين تنتج مقاتلات نفاثة وأنظمة تسليح جديدة مقلدة من تصاميم أمريكية مسروقة. وباستعمال إمكانات التجسس التكنولوجي، راقب ضباط الاستخبارات الأمريكية المعلومات المخترقة تنتقل من مراكز بيانات تسيطر عليها أجهزة الاستخبارات الصينية إلى شركات دفاعية شبه خاصة وشبه عامة، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية رصد الصراع في مجال التجسس ودور شركات التكنولوجيا فيه.
الصين تستغل شركات التكنولوجيا
مع بداية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حربه التجارية مع الصين، استعرت معركة أخرى خلف الكواليس. فالنزاع المشتعل الذي دام عقوداً على البيانات بين أجهزة الاستخبارات الأمريكية ونظيرتها الصينية ازدادت حرارته وحدَّته، بفعل طموحات بكين التي زادت ثقتها بنفسها، واقتنع لاعبون كبار بالإدارة الجديدة في واشنطن بأن الصين تمثل تحدياً للاقتصاد والسياسة والأمن الوطني الأمريكي على نطاقٍ لم تواجهه الولايات المتحدة منذ عقود، وربما على الإطلاق.
ومنحت بكين دعاة الحرب على الصين في الولايات المتحدة الكثير من الذخيرة؛ ففي عام 2017، خطط مخترقون تابعون لجيش التحرير الشعبي الصيني ونفذوا اختراقاً هائلاً لشركة Equifax، واحدة من كبريات شركات التقارير الائتمانية في الولايات المتحدة. وقد فر المخترقون المرتبطون بالجيش بكمية مهولة من البيانات الشخصية، ويشمل ذلك أرقام التأمين الاجتماعي، وعناوين المنازل، وتواريخ الميلاد، وأرقام تراخيص القيادة، ومعلومات بطاقات الائتمان. 145 مليون أمريكي تقريباً، تأثرت بياناتهم بذلك الاختراق.
وكانت سياسات إدارة ترامب تجاه الصين هي على الأرجح الأكثر عدائية من بين أي رئاسة أمريكية منذ ذروة الحرب الباردة في الستينات. لكن بالنسبة لبعض منتقديها، أدى التغيير المستمر في تبريرات الإدارة لسياستها الصدامية إلى تقويض مصداقيتها بخصوص الصين والمسائل التكنولوجية.
فقد شدد عدد من المسؤولين بإدارة ترامب على التهديد الذي تمثله شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة على الأمن القومي، في حين لمح آخرون، من بينهم ترامب نفسه، إلى أن وصول هذه الشركات للسلع والأسواق الأمريكية ورقة مساومة في الحرب التجارية الدائرة. فشركة ZTE، شركة الاتصالات الصينية الضخمة، كادت تفقد أعمالها كافة بعد أن حظرت الإدارة الأمريكية، متذرعة بالأمن القومي، الشركات الأمريكية من تزويدها بأي شيء، حتى جاء ترامب ومنح الشركة مساحة للتنفس، ضمن مفاوضات تجارية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ.
مخاوف أمريكية لها ما يبررها
قد تكون المخاوف من الشركات الصينية لها ما يبررها، إذ إنها لطالما خضعت، أو على الأقل تداخلت، مع دولة الحزب الشيوعي الصيني، غير أن جذور هذه الصلات بين الشركات والحزب غامضة. فقد كان جيش التحرير الشعبي لاعباً مهيمناً في الشركات الصينية لعقود، وامتلك أعمالاً تجارية من المستشفيات إلى مصانع الواقيات الذكرية.
لكن التشابك بين أجهزة الاستخبارات الصينية والشركات الصينية صار أشد، وفقاً لمسؤولين أمريكيين. في 2017، ضمن سلطوية بكين المتزايدة، أصدرت الصين قانوناً جديداً للاستخبارات الوطنية يجبر الشركات الصينية على التعاون مع أجهزة الاستخبارات والأجهزة الأمنية الصينية في أي وقتٍ يُطلب منها ذلك.
وفي الأعوام الأخيرة من إدارة ترامب، وجه مسؤولو الأمن القومي الأمريكي أجهزة الاستخبارات إلى زيادة جهودها لجمع المعلومات الاستخباراتية عن العلاقة بين الدولة الصينية والشركات الصناعية الخاصة الكبرى في الصين. وبحلول عهد ترامب، آتت هذه الجهود ثمارها، إذ جمع المجتمع الاستخباراتي الأمريكي أدلة كبرى على التنسيق بين الشركات الصينية الخاصة وأجهزة الاستخبارات، ويشمل ذلك نقل البيانات إلى أجهزة الاستخبارات.
استهداف البيانات الشخصية للجميع
ويقول ويليام إفانينا، المسؤول الأرفع عن الاستخبارات المضادة في الولايات المتحدة، إن ولوج الصين إلى، وقدرتها على تصفح، كميات ضخمة من البيانات المسروقة أو التي حصلت عليها بطرقٍ أخرى "يمنحان الصين فرصاً هائلة لاستهداف أشخاص في الحكومات الأجنبية والشركات الخاصة وقطاعات أخرى بأنحاء العالم، من أجل جمع معلومات إضافية مرغوب في الحصول عليها، مثل المعلومات البحثية والتكنولوجيا والأسرار التجارية وحتى المعلومات فائقة السرية. وتلعب شركات التكنولوجيا الصينية دوراً أساسياً في معالجة كتل البيانات وجعلها مفيدة لأجهزة الاستخبارات الصينية".
وباستغلال إمكانات معالجة البيانات في الشركات الصينية لصالحها، بإمكان أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وفقاً لمسؤولين أمريكيين، التدقيق بسرعة في كميات هائلة من المعلومات، والعثور على معلوماتٍ لها قيمة استخباراتية. على سبيل المثال، يمكنها أن تكشف عميلاً سرياً لحساب الاستخبارات المركزية الأمريكية عبر مقارنة المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بالسفر في الوقت الحقيقي بمصادر أخرى تجمعها وزارة أمن الدولة الصينية. وبإسناد مهام معالجة البيانات عالية التكلفة إلى شركات خاصة، يمكن أن تستغل أجهزة الاستخبارات الصينية هذه الإمكانات التجارية على نطاق لا يتوافر لهذه الأجهزة في المعتاد أو لا ترغب هي في بنائها داخلياً، وفقاً للمسؤولين.
لكن هذا التعاون لا يجري بسلاسة على الدوام. فكثير من شركات التكنولوجيا الصينية، وفقاً لإلسا كانيا، الخبيرة في شؤون الصين والزميلة الرفيعة بمركز الأمن الأمريكي الجديد، "على الأرجح ترغب في أن تكون شركات تقنية عادية، ولا ترغب في التعامل مع هذه التوقعات الأيديولوجية أو توقعات الأمن القومي. إن أكثر شركات التكنولوجيا الصينية لا تختلف إلى هذه الدرجة عن نظيراتها في سيليكون فالي. والفرق الوحيد هو أنها تحاول أن تعمل داخل نظامٍ توجد فيه حوافز وتوقعات متعلقة ببناء علاقات وثيقة مع الحكومة، واحتمالية الانتقام وإلحاق الأذى إن تعدت هذه الشركات حدودها".
التجسس الصناعي
وقد انتفعت الشركات الصينية لأعوام طويلة، من التجسس الاقتصادي الذي تنفذه أجهزة التجسس الصينية، إذ تندفع البيانات المُخترقة أو المسروقة بوسائل أخرى من أجهزة الاستخبارات إلى القطاع الخاص، لتمنح الشركات الصينية أفضلية على المنافسين. وفي حين أن سرقة الملكية الفكرية شائعة في الصين، وعادة ما يقودها القطاع الخاص، فقد لعبت الدولة بالصين دوراً محورياً في التجسس الصناعي.
يقول ستيف ريان، نائب مدير مركز عمليات المخاطر التابع لجهاز الأمن الوطني الأمريكي سابقاً، إن المسؤولين الأمريكيين منذ عام 2000 يراقبون العمليات السيبرانية التي تستهدف اختراق شركات التعاقدات الدفاعية الأمريكية، والتي بدأت تحدث "بصفة منتظمة" منذ عام 2006. كان الصينيون "يسرقون القاعدة الصناعية الدفاعية في قطاعات تكنولوجية بعينها سرقة بيِّنة. ثم نراهم يؤسسون شركةً تُنافس الشركة الأمريكية وتدفعها خارج السوق. رأينا هذا يحدث مراراً وتكراراً".
وتكررت هذه الاختراقات السيبرانية مراراً، ونجح مخترقون تابعون للدولة الصينية في الولوج إلى شبكات المتعاقدين مع قيادة النقل بالبنتاغون 20 مرة في عامٍ واحد، وفقاً لتقرير صادر عن لجنة الخدمة العسكرية بمجلس الشيوخ الأمريكي. وفي 2018، نجح الجواسيس الصينيون في اختراق شركة متعاقدة مع البحرية الأمريكية، واستخلاص معلومات بالغة الحساسية متعلقة بتطوير صواريخ الغواصات.
لكن قبل أعوام، كانت هذه البيانات المسروقة تبقى مع الشركات الصينية "لأغراض تنافسية"، وفقاً لمسؤول رفيع سابق بوكالة الأمن الوطني الأمريكية. لقد كانت "هدية ينبغي استعمالها بفاعلية" من الاستخبارات الصينية إلى الشركاء في قطاع الدفاع. لكن هذا النموذج الأوَّلي كان أحادي الاتجاه، إذ يمرر الجواسيس الصينيون البيانات إلى القواعد الصناعية؛ لتساعدها في سباق بكين من أجل التوصل إلى المساواة التقنية مع واشنطن.
لكن استغلال الشركات الصينية الخاصة في توفير الخبرة والإمكانات اللازمة لمعالجة البيانات للاستخبارات الصينية مرحلة جديدة في تطوير هذه العلاقة. يقول مسؤول سابق بجهاز الأمن الوطني في عصر ترامب: "إن الشركات التي تستغلها الحكومة الصينية تصور نفسها على أنها شركات ضخمة شرعية متعددة الجنسيات لها أثرها في مناطق عديدة. إنها ليست مجرد شركات تعاقد دفاعي صغيرة الحجم تعمل داخل الصين، لكنها شركات ضخمة متعددة الجنسيات في جميع أنحاء العالم".
لماذا لا تتبع المخابرات الأمريكية الأساليب نفسها؟
وتعني قيود قانونية وأعراف ثقافية أن أجهزة التجسس الأمريكية لا يمكنها أن تأمر الشركات الأمريكية بتحليل البيانات التي تحصل عليها من عمليات التجسس السيبراني، فعلى هذه الأجهزة أن تطور إمكانات تحليل البيانات بنفسها، وفقاً لمسؤولين أمريكيين.
ولا يمكنها، على سبيل المثال، أن تستغل قدرات معالجة البيانات بالشركات الأمريكية الخاصة لمساعدتها في تجميع صورة لما تعرفه الصين عن موظفي الحكومة الأمريكية مثلاً، بناءً على عمليات الاختراق السابقة. لكن تصنيع قواعد البيانات الموازية هذه بات ضرورة للمسؤولين بالولايات المتحدة، الذين عملوا جاهدين على صنع صورة معكوسة تُظهر على الأقل بعض ما تمتلكه الصين حسب معرفتهم، وفقاً لثلاثة مسؤولين سابقين وحاليين بمناصب رفيعة. وهذه عملية تطلبت جهداً كبيراً، "واستغرقت منا دهراً".
لكن حين انتهى المسؤولون الأمريكيون من تحليل كل البيانات، لم تكن الصورة جيدة على الإطلاق. "انظر إلى اختراق Equifax، وأضِف اختراق Anthem، والمعلومات المالية، وماريوت، وستجد أنه لا شيء عنا يجهلونه".
بالنسبة لمسؤولين رفيعين بقطاع الأمن القومي الأمريكي، ستؤثر مخاوف عميقة بشأن علاقة الحكومة بشركات القطاع الخاص المنتشرة في العالم بأسره- ومن بينها شركات الاتصالات العملاقة مثل هواوي، وشركات منصات التجارة الإلكترونية الضخمة مثل علي بابا، وشركات التواصل الاجتماعي مثل ByteDance التي تشغل منصة تيك توك- على العلاقة بين واشنطن وبكين. وقد نجحت الصين بالفعل في عزل إنسان من كل خمسة عن منظومة البيانات العالمية بالقيود التي فرضتها على مواطنيها في الصين، وبالمثل يسعى واضعو السياسات في الولايات المتحدة إلى فرض قيودٍ أكثر صرامة تهدف إلى فصل بيانات الأمريكيين عن الشركات الصينية، ومن ثم تأمينها من جهاز الاستخبارات القوي في الصين.
وقد قرر الحزب الشيوعي الصيني، مدفوعاً بمخاوف متعلقة بالاضطرابات الداخلية والتهديدات الخارجية، أن أمن البيانات من أمن النظام. لكن هذه الاستراتيجية سبَّبت لبكين توترات داخلية. ويقول محلل استخباراتي سابق: "إن نظام الأمن السيبراني الصيني اليوم يتطلب وضع أبواب تقنية خلفية تمكِّنه من ولوج أي شركة وأي شخص في الصين. وهم على استعداد للاعتراف بأن هذه الأبواب الخلفية يمكن أن تمكِّن المخترقين من مهاجمة هذه الشركات وإضعاف أمنها السيبراني".
إنها تضحية يبدو أن قادة الصين مستعدون لاتخاذها، على الأقل في الوقت الحالي، حتى وإن كانت هذه السياسات قد تسرّع الانفصال الاقتصادي عن أهم شريك تجاري للصين، أو تسرّع الاضطرابات الاقتصادية. وفي ذلك الحين، تتوطد العلاقة بين الاستخبارات والشركات الصينية أكثر وأكثر.