لم يمضِ على وجود أنور البني في ألمانيا بضعة أشعر حين دخل متجراً، ووجد نفسه وجهاً لوجه أمام الرجل الذي يظن أنور أنه استجوبه واحتجزه قبل قرابة عقدٍ من الزمان. كان الرجلان يبتاعان الخضراوات والبقالة من متجرٍ تركي بالقرب من بوابات مخيم مارينفيلده للاجئين في برلين، والذي صار موطنهم الآن. لمعت عيناهما ببريق التعرف على بعضهما البعض، لكن البني لم يستطِع تذكُّر من أين يعرف الرجل، كما يقول لصحيفة The Guardian البريطانية.
كان عام 2014، بعد عامٍ من قرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بفتح ألمانيا حدودها أمام اللاجئين، ما جذب أكثر من مليون شخصٍ فروا من الحرب والأوضاع الشاقة إلى البلاد. ومع ذلك، كان آلاف السوريين قد وجدوا طريقهم قبل القرار إلى برلين. والبني محامٍ لحقوق الإنسان تتجاوز خبرته ثلاثة عقود من مقاومة النظام السوري في المحاكم، وبضع أعوام في سجون النظام، وهو جزء من شبكة واسعة من الزملاء والعملاء والأصدقاء والخصوم القدامى.
المواجهة بين رجال نظام السوري ومضطَهديهم في ألمانيا
يتذكر البني: "كنت مع زوجتي حينها، وقت لها: "أعرف هذا الرجل" لكن لم يسعني تذكر من هو. ثم بعد بضعة أيام، قال صديق من أصدقائي: "هل تعرف أن أنور رسلان في مارينفيلده معك؟" حينها أدركت".
وُلد الأنوران بفارق أربعة أعوام، ودرس كلاهما القانون، لكنهما قررا استعماله على جانبين متقابلين في النظام السياسي السلطوي في سوريا. صار رسلان رجل شرطة، قبل انتقاله إلى جهاز الاستخبارات، حيث أسهم في اعتقال البني.
في ذلك الوقت، لم يفكر البني كثيراً في ذلك اللقاء، وعاد لينقب في ملفاته القانونية، ليشارك عن بُعد في الكفاح ضد النظام السوري ومنتهكيه، ذلك الصراع الذي استهلكه لعقود. ويقول عن رسلان: "لا أكرهه لشخصه. أعرف أن المشكلة هي النظام. لذا لم أشعر بأي شيءٍ في الحقيقة".
لكن في غضون أربعة أعوام، التقى الرجلان مرة أخرى، لكن الأماكن تبدلت مع تجهيز ألمانيا لقضية تاريخية. هذه المرة، تعاون البني مع السلطة وساعد المدعين الألمان، بينما واجه أنور الآخر احتمال أن يُلقى في السجن.
بعد مرور نحو عقدٍ على اندلاع الحرب في سوريا، صار رسلان أول من يُحاكم، في أي مكان في العالم، بتهمة التعذيب والقتل المدعوم من الدولة لمدنيين أثناء النزاع. وساعد البني، الذي كان شوكة في حلق المسؤولين بدمشق، في إيجاد الشهود المستعدين للإدلاء بشهادتهم أمام المحكمة.
رسلان أشرف على "عصرٍ من الرعب" في سجون النظام السوري
اتُّهم رسلان، العقيد السابق بالاستخبارات السورية، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الأعوام الأولى من النزاع، قبل انشقاقه في 2012. كان رسلان حينها يعمل بالاستخبارات العسكرية، ويُزعم أنه قائد وحدة تحقيق تابعة للفرع 251 سيئ السمعة، الذي له سجن منفصل. هناك، وفق مزاعم المدعين الألمان، أشرف رسلان على عصرٍ من الرعب، تعرض فيه السجناء للتعذيب بالصعق بالكهرباء والضرب والاعتداء الجنسي على مدار 16 شهراً. وتزعم صحيفة الاتهامات الموجهة إليه أن أكثر من أربعة آلاف شخصٍ تعرضوا للتعذيب في تلك الفترة، وأن 58 معتقلاً لقوا حتفهم.
بدأت محاكمة رسلان في 23 أبريل/نيسان في كوبلينز، المدينة التاريخية على ضفاف نهر الراين بين فرانكفورت وكولون، أمام هيئة من ثلاثة قضاة. ومن المتوقع أن تستمر أكثر من عام. وإلى جانبه يُحاكم إياد الغريب، الذي يُزعم أنه خدم في منصبٍ أدنى تحت قيادة رسلان في دمشق. كانت لحظة بدء المحاكمة لحظة تاريخية لعددٍ لا يُحصى من السوريين الناجين من غرف التعذيب الحكومية، ومن فقدوا أحباءهم فيها. وإن رأت المحكمة أنه مذنب، سيواجه رسلان حكماً بالحبس مدى الحياة.
لا أمل في تحقق العدالة في المحاكم السورية أو الدولية. فمع انهزام المعارضة داخل سوريا، لن يخضع الأسد وأعوانه على الأرجح لمحاكمة في المحاكم الداخلية. ولأن سوريا ليست من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، لا يمكن للمدعين في المحكمة توجيه اتهامات إلى حكومتها. ويمكن أن يطلب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إجراء تحقيق، لكن المحاولات لفعل ذلك أعاقتها روسيا والصين في كل مرة. كذلك الدعوات لتشكيل محكمة خاصة، مثل التي حققت في جرائم الحرب في يوغوسلافيا سابقاً.
وبهذا يصبح المسار الوحيد الممكن لمحاسبة رموز النظام السوري هو المحاكم الوطنية. تعتنق بلدان مثل ألمانيا مبدأ القضاء العالمي في قوانينها، ما يسمح للمحاكم بإدانة أشخاص بجرائم ارتكبوها في أي مكان في العالم، إن كانت جرائم بالغة الخطورة.
رحلة أنور البني في تحقيق العدالة.. من سوريا إلى ألمانيا
سبقت انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا اندلاع الحرب بكثير. ومع أن الكفاح الطويل الذي خاضه البني في سبيل سوريا أكثر ديمقراطية فشل في إيقاف النظام عن أفعاله، فقد كان أكثر من كافٍ لاعتقاله عدة مرات، من بينها مرة بعد حكمٍ بالسجن خمسة أعوام. يعرف البني خسارة الأحباء في سجون النظام المتشابكة. فقد قضت أخته وأشقاؤه الثلاثة وصهره وكنَّته ما يصل مجموعه إلى 73 عاماً مساجين سياسيين في السجون السورية.
وفي حين اشتهر عمل البني في سوريا ما قبل الحرب، عانت العائلة من الناحية المادية لأنه قبل الترافع في قضايا دون أتعاب. واضطهدت السلطات زوجته، التي خسرت وظيفة مساعدة هندسية في 2007، ومُنِعت من السفر.
يقول عنها البني، بابتسامة حزينة: "كانت ترى أصدقائي يعيشون في منازل فخمة ويركبون سيارات فارهة، مع أنها كانت تعرف أنني محامٍ أفضل منهم. لقد عانت كثيراً بسببي".
وحين سألته إن كانت قد طلبت منه تغيير مهنته، أبرز الضحك تجاعيد وجهه. قال: "إن الأمر معقَّد"، قبل أن يعترف أنها حاولت منع ولديه من السير على خطاه، وأنها طلبت منه ذات مرة أن يُنهي إضراباً عن الطعام في السجن، لأن طفليه أصابهما القلق لدرجة أعجزتهما عن المذاكرة.
وحين هرب البني أخيراً من وطنه في 2014، لابد أن السلطات السورية كانت تأمل في أن شهرته ستذوى ويصبح طيّ النسيان. لم يكن في أوروبا المتعبة من حرب سوريا وينصب تركيزها على محاربة داعش سبيل واضح لإكمال عمله. لكن تأثيره زاد في الغربة ولم ينقص.
البني ساهم في بناء أسوأ سجون النظام السوري قبل أن يتحول لمحامٍ
قرر البني أن يصبح محامياً بعد أن رأى أقاربه يختفون الواحد تلو الآخر في السجن بسبب ميولهم الشيوعية. لكن عائلته كانت لا تزال بحاجة إلى المال، لذا عمل في الإنشاءات في أوائل الثمانينات قبل أن يبدأ التدريب القانوني، وفي هذه الأعوام أسهم في بناء أسوأ السجون السورية سمعة: سجن صيدنايا، بالقرب من دمشق.
يقول البني عن المشروع، الذي كان مصمماً في البداية ليكون سجناً أكثر إنسانية، وكان يعرف أنه سيضم واحداً من إخوته المحبوسين على الأرجح: "كنت سعيداً حين رأيت المخططات. لم توجد فيه غرفٌ تحت الأرض، وكل الزنازين تدخلها الشمس والهواء، وهناك أماكن مخصصة للرياضة وكرة القدم وكرة السلة. لكن بحلول عام 2008، الذي حدث فيه تمرد من السجناء، كان سجن صيدنايا قد صار مضرب الأمثال في الانتهاكات والتعذيب.
لم يُشارك البني إخوته في ميولهم السياسية، إذ لم يؤمن قط بالأحزاب أو بالأديان، وآمن فقط بروح الإنسانية والحقوق الفردية، حسب تعبيره. والأنشطة التي أدت إلى دخوله السجن في 2006، ومن بينها وضع مسودة مع نشطاء آخرين لدستور ديمقراطي جديد لسوريا، كانت تحدياً ليس فقط للأسد، بل لخصومه أيضاً. "الكل يعِد بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن أغلبهم ليس لديه خطة عملية للتطبيق. أردت أن أعرف: ما برنامجكم لتحسين حيوات الناس؟".
ويقول البني عن الفترة المعروفة بربيع دمشق: "كان هناك الكثير من الكذب عندما تولى بشار السلطة. كانت كلها مظاهر سطحية – عاداته الغربية، وتصريحاته بأنه سيفتح الباب للديمقراطية والمجتمع المدني. لم نصدق الأمر، لكننا أردنا أن نجرب. ثم بدأوا في اعتقال الناس".
مساءلة حكومة الأسد وانطلاق الثورة السورية
ومع مجموعة من المحامين الشباب المتحمسين قرّر البني أن يبدأ في مساءلة الحكومة، "أسسنا لجنة للدفاع عن المعتقلين السياسيين". وأدى عملهم بصورة غير مباشرة إلى تأسيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، منظمة طموحة للدفاع عن حقوق الإنسان تأسست في دمشق في 2004.
يقول البني إن الهدف من الاسم الباهت للمركز هو تبديد مخاوف المسؤولين، غير أن عمل المركز أسهم في الحكم عليه بالحبس. في 2006، حُكم عليه بالسجن خمسة أعوام بتهمة "نشر أخبار كاذبة"، وتأسيس جماعة سياسية دون ترخيص، والتخابر مع جهات أجنبية.
وحين أُطلق سراح البني في 2011، بدا أن البلاد على شفا تغيرات كبيرة. في صحوة الربيع العربي، بدا وكأن الأسد سينضم إلى الحكام الدكتاتوريين المخلوعين والمنفيين على غرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، أو المسجونين مثل المصري حسني مبارك، أو حتى المقتولين مثل الليبي معمر القذافي. لكن ثورة سوريا انحدرت إلى حربٍ شاملة بعد تدخل إيران وميليشياتها، وكذلك روسيا، ومع تنازع الجماعات المعارضة التي استمرت في التكاثر، على السلطة.
وصارت سوريا مكاناً أكثر خطورة عن ذي قبل، وقُتل العديد من المدافعين المخضرمين عن حقوق الإنسان أو اختفوا بلا أثر، ومن بينهم اثنان من أقرب أصدقاء البني: خليل معتوق ورزان زيتونة، التي أسست مركز الدراسات القانونية معه. اختفى معتوق في منطقة خاضعة لسيطرة الحكومة في 2012، وأغلب الظن أن زيتونه اختُطفت على يد جماعة جيش الإسلام بعدها بعام، على مشارف دمشق.
الهروب من سوريا نحو ألمانيا
صبغ البني شعره بلون أشقر، وصبغ معه شاربه، فحلقه كان ليترك علامة اسمرارٍ لا تخطئها العين، وارتدى عدسات لاصقة زرقاء. وأعاره صديقٌ بطاقة هوية، وقاده آخر إلى الحدود مع لبنان وطلب منه أن ينتظر مكالمة. "أردنا أن نعبر في وقتٍ يصعب على الأعين الرؤية، لكن الناس لم يطفئوا الأضواء بعد. وقتٌ ليس بالمظلم لدرجة يتوجب معها استعمال المشاعل عند نقاط التفتيش. ذلك هو الوقت المثالي لعبور الحدود".
صلات البني الواسعة كفت عائلته المشاركة في الرحلة الطويلة براً أو بحراً التي خاضها سوريون كُثر في رحلتهم إلى ألمانيا. حصلت العائلة في بيروت على تأشيرات مكنتها من السفر بالطائرة مباشرة إلى برلين، حيث طلبت اللجوء، واستأنف البني القتال من أجل حقوق الإنسان.
وفي مارس/آذار 2015، بعد يومين من انتقاله من مخيم اللاجئين إلى أول منزل في ألمانيا، طار البني إلى نيويورك ليلقي كلمة في الأمم المتحدة. دعته منظمة العفو الدولية، وتحدث في ندوة عن الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في سوريا. وقال للأمم المتحدة إنه في غضون ذلك الاجتماع القصير قد مات معتقلون آخرون في السجون السورية، وفقاً للإحصاءات، وذكرت تقديرات أن 150 ألف سوري في عداد المفقودين.
البني أمام سجّانه.. "هدفي تحقيق العدالة لكل السوريين"
لكن في ألمانيا، لم يكن للبني مكتب ولا ترخيص لمزاولة المهنة. ورغم دعوة الأمم المتحدة له، لم يظهر قادة أوروبا اهتماماً كبيراً بالحرب السورية. "لم أتخيل أنهم سيرون كل هذه الأمور تحدث ويصمتون عنها. لم أُرِد أن أصدق أن أوروبا ستمضي كل هذا الوقت تقف ساكنة وتتفرج. صدمني هذا حقاً".
وربما ظنَّ أنور رسلان أن غياب الاهتمام بالحرب السورية، أو أن قراره بالانشقاق في 2012، سيحميه من العواقب. كان قد غادر سوريا بعد بضعة أشهر من مجزرة في الحولة، أحد معاقل المعارضين وبلدته الأم، واتجه إلى الأردن ثم إلى تركيا. وهناك، انضم إلى المعارضة وطلب اللجوء لاحقاً في ألمانيا. وفي 2017، استُدعي رسلان للإدلاء بشهادته في تحقيقٍ تناول جرائم الحرب السورية. وهذا اللقاء دفع المحققين إلى النظر في أنشطة رسلان نفسه، واعتقاله في 2019 واتهامه بجرائم ضد الإنسانية.
في المحكمة في مايو/أيار من العام الحالي، أنكر رسلان كل الاتهامات. وقال في بيانٍ قرأه محاميه إنه عامل المعتقلين كما نزل في الكتاب، "بل وقدمت لهم القهوة في بداية الاستجواب". وأضاف أن بعضهم التقى به في المنفى. وقال إن المعدل السريع الذي أطلق به سراح السجناء أدى إلى الإضرار بنفوذه، وفقاً لتفريغ المحاكمة الذي نشره المركز السوري للعدالة والمساءلة على شبكة الإنترنت.
وفي يونيو/حزيران، صعد البني إلى منصة الشهود ليصف بالتفاصيل أهوال سجون الأسد وغرف التعذيب، والبنى البيروقراطية بها، التي يعرفها عن قرب من تجربته الشخصية ومن أعوام ترافع فيها عن الناجين. ويقول عن القضية: "إنها ليست مسألة شخصية. إن هدفي هو تحقيق العدالة لكل السوريين".