على مدار عقود طويلة تسعى الصين لمحو هوية مسلمي الإيغور باستخدام أساليب قمعية غير مسبوقة، والآن باتت لغة الإيغور وأشعارهم وثقافتهم نفسها مهددة بالفناء، فكيف تحافظ تلك القومية على وجودها؟
صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "الشِعر، روح الثقافة الإيغورية، على حافة الفناء في شينجيانغ"، ألقى الضوء على ثقافة وهوية مسلمي الإيغور في المهجر والتي باتت مهددة بالانقراض.
الإيغور في المهجر
قبل أسابيع، كان ماموتجان عبدالرحيم يحاول تذكُّر قصيدة استخدمها هو وزوجته لتعليم ابنتهما حين كانت تبلغ أربع سنوات. كان من السهل تذكُّر مقاطع القافية الدالة على آداب السلوك على مائدة العشاء -لقول البسملة قبل تناول الطعام والبدء باليد اليمنى. كان يأمل أنه بمساعدة ابنته على تلاوة القوشاق -وهي قصيدة شعبية للإيغور- يمكنها أن تتذكَّر من أين أتت حتى بينما تعيش العائلة في الخارج.
ذكرياتٌ مثل هذه عزيزةٌ علي عبدالرحيم، الذي لم يتمكَّن من رؤية عائلته أو التحدُّث إلى أيٍّ منها في شينجيانغ منذ ما يقرب من خمسة أعوام. تبلغ ابنته الآن 10 سنوات، وابنه على وشك إتمام عامه الخامس.
ويعتقد عبدالرحيم أن زوجته احتُجِزَت في معسكر اعتقال أو زُجَّت إلى السجن، وهي واحدةٌ من مليون شخص من الإيغور مُحاصَرين في حملة يقول عنها المدافعون عن حقوق الإنسان إنها حملة إبادة ثقافية بقيادة الدولة. وسأل عبدالرحيم أصدقاءه على منصة فيسبوك ما إذا كان أيُّ شخصٍ يعرف بقية القصيدة، لكن أحداً لم يتذكَّر.
قلةٌ من الثقافات هي من تبجِّل الشعر وتُدرِجه في الحياة اليومية مثل الإيغور، وهم مسلمون من سكَّان شماليّ غرب الصين، وتعود أبياتهم الشعرية المكتوبة إلى قرونٍ مضت، مِمَّا يجذب الأنظار إلى مقارناتٍ بين الثقافات الأخرى ذات التقاليد الشعرية الغنية من الفرس إلى الروس.
ووفقاً للشعراء والباحثين، أصبح شِعر الإيغور الآن على وشك الفناء، إذ تحتجز الحكومة الصينية الشعراء وتُسكِت أصواتهم. أما خارج الصين، فيكافح الإيغور في الشتات للحفاظ على شكل الفن على قيد الحياة، بينما تضاعِف السلطات حملتها لإدماج الأقليات في شينجيانغ في الثقافة الصينية الهانية السائدة.
تاريخ الصين في قمع الإيغور
ومنذ أن قامت الصين بغزو تركستان الشرقية وضمها لأراضيها عام 1950 تحت مسماها شينغيانغ أي "الحدود الجديدة"، اتبعت بكين سياسة قمعية صارمة تجاه الإيغور المسلمين استهدفت من خلالها ليس فقط محو هوية الإيغور المسلمة، ولكن أيضاً تغيير التركيبة الديموغرافية في الإقليم.
ونظراً لطبيعة النظام الشيوعي في الصين، كان ولا يزال من الصعب الوقوف على حقيقة الأوضاع على الأرض في شينغيانغ أو تركستان الشرقية، لكن منذ نهايات العام الماضي 2019 ظهرت تسريبات من مستندات حكومية صينية أثار ما فيها غضباً عالمياً من جانب الجماعات الحقوقية والأممية، وأصبحت قضية الإيغور تتصدر عناوين الأخبار حول العالم.
فكان أبرز ما قامت به الصين في الإقليم هو منع أي مظهر من مظاهر الإسلام، مثل بناء المساجد أو إطلاق اللحية للرجال أو تغطية كامل الجسد بالنسبة للنساء، إضافة لإجبار الإيغور على تنزيل تطبيق على هواتفهم يمكن للسلطات الصينية من خلاله معرفة مكان الشخص طوال الوقت.
ومن الناحية الديموغرافية، قامت الصين بنقل وتوطين ملايين من "الهان" أكبر الأعراق في الصين، وتشير التقارير الصادرة أخيراً إلى أن الإيغور في طريقهم لأن يصبحوا أقلية داخل إقليمهم الأصلي لصالح الهان.
الصين تقدر عدد الإيغور بـ15 مليوناً فقط، لكن التقديرات المستقلة لأعداد الإيغور تضع الرقم عند أكثر من 35 مليون نسمة، يقيمون في إقليم "شينغيانغ" الصيني الذي يعني باللغة الصينية "الحدود الجديدة"، بعد أن غيرته الصين من "تركستان الشرقية".
"تركستان" تعني أرض الأتراك، فالإيغور المسلمون عبارة عن قبائل تركية عاشت في ذلك الإقليم منذ قديم الأزل، وتميزت العلاقات بينها وبين الصين بالكر والفر على مدار قرون عديدة، واللغة التي يتحدثها الإيغور تكتب حروفها باللغة العربية حتى الآن.
"الشعر يجعلنا على تواصل"
لعقودٍ من الزمان، كان الشعر متشابكاً في الحياة اليومية للإيغور. كان الأطفال يتعلَّمونه في المدارس ويُشجَّعون على كتابته. وفي أسواق الكتب، غالباً ما تشكِّل مجلدات الشعر الجزء الأكبر من اختيارات المشترين. وتميَّزَت معظم صحف البلدات والضواحي بأقسامٍ فيها مُخصَّصة لنشر قصائد السكَّان. واعتاد الكُتَّاب على نشر أبياتهم على حساباتهم على تطبيق WeChat. ولا يزال الشعراء اليوم من أكثر الشخصيات نفوذاً واحتفاءً في عالم الإيغور.
قالت فاطمة عبدالغفور، الشاعرة الإيغورية والناشطة التي نشأت في كاشغر وتعيش الآن في أستراليا: "لكلِّ جيلٍ شعراؤه وأساليبه الخاصة. إنهم يخرجون بشيءٍ حديث. والشعر بالنسبة لهم يشبه موسيقى البوب تقريباً". وأضافت: "إذا كنت شاعراً جيِّداً حقاً، فأنت تقريباً تحظى بشعبيةٍ مثل المطرب الأكثر شعبية في البلاد".
نشأت شعبية الشعر جزئياً من قدرته على التهرُّب من الرقابة. ففي حين تعرَّض الكُتَّاب الإيغوريون لضغوطٍ من أجل الإشادة بالحزب الشيوعي خلال سنوات "القفزة العظيمة للأمام" لماو تسي تونغ والثورة الثقافية، سمحت فترة الانفتاح في الثمانينات بجيلٍ جديدٍ من الشعراء.
تفرَّعَ شعراء الإيغور المعاصرون، الذين استلهموا من الكُتَّاب الصينيين الذين خاب أملهم في الثورة الثقافية، إلى قصائد حرة مليئة بالرمزية. وازدهر الشعر في المنطقة خلال حملات القمع الدورية طوال عقد التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكَتَبَ شعراء الإيغور عن الاشتياق إلى الربيع، رمز الحرية أو الحياة الجديدة.
قالت عبدالغفور: "الشعر يجعلنا على تواصل. في سنِّ التاسعة، قرأت "أنا لست علماً أبيض" لأحد شعراء الإيغور المعروفين، وهو عبدالرحيم أتكور، ورأيت مقاومةً في وصفه لجبلٍ مهيبٍ مُغطَّى بالثلوج". وأضافت: "كان الأمر كامناً دائماً في الشعر؛ فقط في شكلٍ مخفي".
"الكثير من الناس تُسكَت أصواتهم"
في العام 2017، مع بدء حملة القمع الجديدة، أُغلِقَت متاجر الكتب وتوقَّفَت صناعة النشر التي كانت نابضةً بالحياة. كان طاهر حموط إيزجيل، الشاعر والمخرج السينمائي، يعيش في مدينة أورومتشي حين تلقَّى من عائلته في جنوب شينجيانغ نبأ اعتقالات الإيغور. بعد نشأته في كاشغر، واجَهَ العديد من الحملات العنيفة، لكن هذه المرة كانت مختلفة.
قال: "كنَّا نسمع كلَّ يومٍ عن أشخاصٍ يُأخَذون، ومدارس ومكاتب حكومية تتحوَّل إلى معسكرات، وجوازات سفر أشخاص تُصادَر".
يعرف إيزجيل، الذي فرَّ مع عائلته إلى الولايات المتحدة في أواخر عام 2017، ما لا يقل عن 20 شاعراً اعتُقِلوا. وهناك قائمةٌ تتألَّف من قرابة 400 كاتب ومعلم، إضافةً إلى علماء ومثقفين آخرين، أكثر من 33 شاعراً، وهم من أكبر الفئات في القائمة، ولم ترد السلطات في شينجيانغ ووزارة الخارجية الصينية على طلبات التعليق على الاعتقالات المزعومة.
وقال جوشوا فريمان، المؤرِّخ الذي يركِّز على الصين والداخل الآسيوي والذي يترجم الشعر الإيغوري: "أعتقد أنه من الواضح تماماً أن جريمتهم كانت أن وُلِدوا إيغوريين". وأضاف: "إن استهداف المثقفين والشخصيات الثقافية يبعث رسالةً واضحةً مفادها أن الحملة تهدف أساساً إلى إنهاء ثقافة الإيغور وهويتهم".