الصين تحصل على أموال الغرب رغم أنفه، يبدو أنه هذه النتيجة الفعلية للسياسات المالية والنقدية الغربية التي قد تطلق دورة جديدة من الأدوات المالية التي سينتهي بها المطاف إلى تمويل اقتصاد الصين عبر سياسات البنوك المركزية الأوروبية تحديداً لإصدار قروض ذات فائدة سلبية.
إذ تضرب بكين بواشنطن وأوروبا ضد بعضهما البعض، وتدفع البنوك والمستثمرين ودافعي الضرائب في نهاية المطاف إلى الاستثمار لديها بأموال كانت مخصصة في الأصل لإنعاش الاقتصادات الغربية، لاسيما الأوروبية، حسبما ورد في مقال في مجلة The National Interest الأمريكية كتبه أندرس كورب، الباحث في الشؤون الآسيوية ومحرر كتاب "القوى العظمى والاستراتيجيات الكبرى: اللعبة الجديدة في بحر الصين الجنوبي.
سندات سلبية وباليورو
في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2020، اقترضت الصين 4 مليارات يورو بأسعار فائدة منخفضة للغاية. تم بيع بعض الديون كسندات مدتها خمس سنوات عند -0.152%، ما يعني أن المقرضين اضطروا إلى الدفع للصين من أجل إقراضها، أي أنهم سيقرضون الصين وعند السداد سيحصلون على أموال منها أقل مما دفعوا لها.
عادةً، يكون الأمر على العكس، يتعين على الصين أن تدفع فائدة للمقرضين.
ولكن كانت هذه هي المرة الأولى التي يبيع فيها الصينيون ديوناً بأسعار فائدة سلبية، ولا شك أن الصينيين كانوا يضحكون لأن هذه السندات تم شراؤها من قِبل جهات محسوبة على الحكومة الصينية.
كان الهدف من هذه العملية أن تنضم الصين لسوق السندات ذات الفائدة السلبية مع ازدياد التوجه للفوائد السلبية في الغرب.
لماذا يجب على الغرب الحذر من الاستثمار في الصين؟
يرى الكاتب أن الصين تعد مكاناً محفوفاً بالمخاطر وغير شفاف بشكل خاص لممارسة الأعمال التجارية، كما أن تدفقات رأس المال إلى خارج البلاد مقيدة.
إذ يتمتع الحزب الشيوعي الصيني بسيطرة شبه شمولية على الاقتصاد، وهو خصم معلن للقيم التي يعتز بها الغرب وحلفاؤه، وهي الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يمكن على الأرجح استخدام كل دولار تقترضه الصين لتحسين اقتصادها وتمكين جيشها، الأمر الذي يهدد بشكل متزايد المُثل العليا للديمقراطيات التي يقرض مستثمروها الأموال للصين.
ما الذي يفسّر هذه العلاقة الوثيقة بين المقرضين في الديمقراطيات والحكومة الصينية الاستبدادية؟
بكل بساطة، فإن الانكماش العالمي يجعل من الصعب العثور على أي مكان لتخزين الأموال بحيث لا تفقد قيمتها.
تقدم البنوك المركزية في أوروبا أسعار فائدة سلبية لإجبار المستثمرين على توظيف أموالهم في الاقتصاد الأوروبي، ما يعزز فرص العمل والناتج المحلي الإجمالي خلال فترة الانكماش.
تريد البنوك أيضاً زيادة التضخم إلى هدفها البالغ 2% سنوياً حتى لا تغوص في ركود انكماشي، وهو بالضبط المكان الذي تجد أوروبا نفسها فيه الآن.
لإخراج نفسها من الرمال الاقتصادية سريعاً، أدت السياسة النقدية الأوروبية إلى دفع معدل إيداع البنك المركزي الأوروبي إلى -0.5%.
فقد انخفض عائد السندات الألمانية لمدة خمس سنوات على سبيل المثال إلى -0.749% في 19 نوفمبر/تشرين الثاني. وكانت السندات المقومة باليورو التي قدمتها إسبانيا والمستحقة في أكتوبر 2026 تحقق -0.319% في 18 نوفمبر/تشرين الثاني.
لذلك كان بعض المستثمرين على استعداد لقبول مخاطر الصين وفضلوا الدين الصيني (باعتبار الاقتصاد الصيني أقوى من الإسباني على سبيل المثال).
في 30 نوفمبر/تشرين الثاني، أوصى صندوق النقد الدولي بخفض إضافي لسعر الفائدة على ودائع البنك المركزي الأوروبي.
لكن أسعار الفائدة للبنوك المركزية في أوروبا منخفضة للغاية لدرجة أنها تلحق خسائر لرأس المال عبر معدلات فائدة سلبية بشكل يضر الغرض من هذه السياسة التي يفترض أنها تهدف لتعزيز الوظائف والناتج المحلي الإجمالي في أوروبا، وتفيد الصين في المقابل.
تمويل اقتصاد الصين من قبل الغرب
نحو 9% من إجمالي ديون الحكومة المركزية الصينية الداخلية مملوكة للمستثمرين الأجانب. وحالياً، يسعى المستثمرون إلى الحصول على أعلى عائد يمكنهم العثور عليه في استثمار سائل يمكن تداوله بسهولة مقابل النقود.
والآن بعد أن أصدرت الصين السندات ذات العائد السلبي، فقد انضمت الصين لأسواق العوائد السلبية.
ولكن لماذا يضخ بعض المستثمرين أموالهم في السوق الصيني رغم أنها قد تؤدي إلى عوائد سلبية (أي أن أموالهم سوف تنقص).
وفقاً لبعض المحللين، يرغب المستثمرون في التعرض لأسواق الصين المالية، لأنهم يرون أنها هزمت فيروس كورونا وأعادت الاقتصاد إلى النمو الإيجابي.
سيتضمن مؤشر MSCI للأسواق الناشئة ومؤشر Barclays Global Aggregate Bond الآن الأسهم الصينية A والسندات الصينية، التي ستجذب المستثمرين إلى الصين.
"تتحدث وول ستريت وغيرها من الشركات المالية الغربية بحماس عن التدفقات التي من المحتمل أن تأتي إلى الصين، والتي تقزم قروض اليورو الأخيرة التي طرحتها الصين (ذات العوائد المنخفضة والسلبية)"، وفقاً لجورج ماجنوس من مركز الصين بجامعة أكسفورد البريطانية.
لكن الواقع ليس وردياً بالنسبة لاقتصاد الصين كما يبدو من الوهلة الأولى، فمن المتوقع أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين في العام الجاري 2.3% فقط، وبالتالي هو بعيد عن المعدلات الواعدة المعتادة التي تعودت عليها الشركات والحكومات التي كانت أعلى من 6%.
علاوةً على ذلك، يعتمد المستثمرون على التقارير الذاتية للصين عن الاقتصاد والأداء في مواجهة فيروس كورونا، والتي قد تكون غير دقيقة.
إذ يمنع الحزب الشيوعي الصيني المراسلين الغربيين من الحصول على الكثير من المعلومات، والصحافة الصينية هي مجرد أدوات دعاية تسيطر عليها الدولة.
ومع ذلك، يبدو أن المستثمرين عندما يشترون ديوناً صينية ذات معدل فائدة سالب، يصدقون قصة التأثير الضئيل لفيروس كورونا في الصين، وعودة الاقتصاد القوي.
هذا خطأ، بحسب ماغنوس. فبينما تحاول الحكومات الغربية إضعاف تأثير الصين، وتقليل الاعتماد الغربي على اقتصادها فإن شركات التمويل الغربية تبدو وكأنها تسير في الاتجاه الآخر.
وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، "فإن مديري الصناديق الاستثمارية على استعداد لشراء السندات التي تقدم عوائد سلبية جزئياً؛ لأنهم يراهنون على أن البنك المركزي الأوروبي سيواصل تحصيل الديون، ما يسمح لهم ببيع الأوراق المالية من أجل الربح.
أي أن البنك المركزي الأوروبي يدفع للصين مقابل الاحتفاظ باليورو، وتجني البنوك بضعة يوروهات من خلال عملهم كوسطاء. (لأن الصين باعت سنداتها ذات العوائد السلبية باليورو).
ومن غير الواضح ما إذا كان البنك المركزي الأوروبي يعتقد أن الصين ستستخدم هذه اليورو لشراء السلع الأوروبية، وبالتالي تعزيز الاقتصاد الأوروبي.
لماذا تريد الصين الاقتراض باليورو؟
قيل إن هدف الصين من طرح السندات باليورو أنها تريد تقليل اعتمادها على أسواق الدولار الأمريكي حتى في الوقت الذي تسعى فيه للحصول على مساعدة وول ستريت.
وبالتالي تضرب الصين الولايات المتحدة وأوروبا ضد بعضها البعض، والبنوك والمستثمرون ودافعو الضرائب في النهاية يدفعون للصين عبر شراء سنداتها السلبية.
من الممكن أيضاً أن تحتفظ الصين باليورو لزيادة احتياطياتها من العملات الأجنبية، بينما تحصل على فائدة سلبية (أي تربح من هذه الأموال).
ربما تستخدم الصين الأموال لإنشاء منحنيات عوائد فعالة، أو إنشاء معايير تسعير قوية للمقترضين من الشركات من الصين (تقليل الفوائد على القروض التي تقدم لشركاتها)، أو تطوير أسواق خارجية، أو تحسين العلاقات مع المصرفيين الأجانب اليائسين والراغبين في وضع أموالهم في أي مكان لتحسين صورتها المالية.
مهما كان المنطق، فإن الصين تحصل على أموال مقابل أخذ اليورو من الغرب (أي أنها بسندات اليورو ذات الفائدة السلبية تحصل على أموال الغرب لأنها ستسدد أقل مما نالت).
يتم تداول ما مجموعه 16.9 تريليون دولار من الديون بأسعار فائدة سلبية على مستوى العالم، وهو ما لن يكون سيئاً للغاية إذا تم استخدام هذه الأموال فقط في الاقتصادات الأوروبية والأمريكية والحليفة، حسب كاتب التقرير.
لكن سخاء البنوك المركزية الغربية يتسرب إلى الصين، ما سيعزز اقتصاد الصين، ويزيد عوائد الضرائب لديها، وبالتالي الأموال الحكومية المتاحة لنفقات الدفاع الصينية.
المستثمرون لا يهتمون بالسياسة، والصين تجرُّ الغرب نحو فخ
يتجه الجيش الصيني بشكل متزايد نحو إجبار الولايات المتحدة على الخروج من آسيا، بما في ذلك من خلال تحديث أسطولها البحري الأزرق وتوسيع مخزونها من الأسلحة النووية. وهذا سيعرض الحلفاء الديمقراطيين في آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا وتايوان والفلبين، لخطر متزايد.
لا يأخذ الاقتصاديون عادةً هذه المتغيرات السياسية والعسكرية في الاعتبار عند وضعهم نماذجهم المالية.
سوف يجادل الاقتصاديون بأن سندات اليورو ذات الفوائد السلبية التي طرحتها الصين تبلع 4 مليارات يورو، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بالاقتصاد الكلي للصين.
ولكن هذه ليست سوى جزء من كومة هائلة من الديون ذات العائد المنخفض والأسهم من الديمقراطيات التي تغذي الآن الاقتصاد الصيني.
فكلما تم ضخ الأموال الغربية في الصين فإن هذا يعني أن الدائنين الأجانب يعرضون أصولهم للخطر في الصين، وكلما أصبحت الصين أكبر من أن تفشل، ما يحفز هؤلاء الدائنين الغربيين على العمل كجماعات ضغط في أوطانهم لتشجيع السياسات الحكومية التي تضمن قدرة الصين على سداد ديونها.
شركات صينية تتخلف عن السداد
كان هناك ما لا يقل عن سبع حالات تخلف عن سداد سندات رئيسية في الشركات المملوكة للدولة في الصين في عام 2020 بالفعل، دون تدخل الحكومات المحلية.
وقد أدى ذلك إلى زعزعة سوق ديون الشركات الصينية التي تبلغ قيمتها نحو 4 تريليونات دولار، تم إقراض حوالي نصفها لشركات مملوكة للدولة.
ويبلغ إجمالي سوق السندات في الصين الآن أكثر من 15 تريليون دولار، أي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة.
وتعتمد الحكومات المحلية والشركات المملوكة للدولة على القروض المصرفية أكثر بخمس مرات من اعتمادها على سوق السندات، وهو أمر يود نائب رئيس الوزراء الصيني ليو هي، مستشار شي جين بينغ، تغييره. "لتقليل هذا الاختلال -والأهم من ذلك تقليل المخاطر الناشئة عن الروابط بين الحكومات المحلية وبنوك الدولة والشركات المملوكة للدولة- يحتاج ليو إلى مساعدة وول ستريت لزيادة حجم وتعقيد سوق السندات في الصين".
ربما حان الوقت للولايات المتحدة والبنوك المركزية الأوروبية للقيام بالعكس: رفع أسعار الفائدة بما يكفي حتى لا تمتص الصين كل فائض رأس المال اللازم في الاقتصادات الديمقراطية لتعزيز الوظائف والناتج المحلي الإجمالي بعد ويلات فيروس كورونا.
هل يجب منع الاستثمار في الصين؟
ويمضي كاتب المقال إلى تقديم اقتراحات حادة ضد الصين.
إذ يقول: "قد يتطلب التنشيط الاقتصادي للديمقراطيات حظر الإقراض والاستثمار في الصين، والمزيد من الإنفاق على البنية التحتية الحكومية، والاستثمارات الحكومية في الصناعات الإستراتيجية مثل صناعة الرعاية الصحية، والأدوية، والسلع الطبية، والصلب، وبناء السفن، والطاقة النووية، والإنتاج الدفاعي.
إذا لم تطالب الديمقراطيات باستعادة رؤوس أموالها ووظائفها وتصنيعها الاستراتيجي من الصين، فستستمر الصين في استخدام اقتصادها الذي يحركه النمو الموجه على حساب الدول الغربية.
فقد فشلت التجارة الحرة مع الصين منذ السبعينيات من القرن الماضي في وقف الخسائر الاقتصادية والصناعية في أوروبا والولايات المتحدة وحلفائهما.
ويختتم الكاتب مقاله قائلاً حان الوقت لعكس التدفق النقدي نحو الصين بأي وسيلة ضرورية.