يفقد نظام تحديد المواقع العالمي "GPS" الأمريكي هيمنته تدريجياً لصالح نظام بايدو الصيني للملاحة عبر الأقمار الصناعية.
فهناك عواصم 165 دولة من إجمالي 195 دولة يتم رصدها بشكل متكرر بواسطة أقمار "BeiDou" الصناعية الصينية أكثر من أقمار "GPS" الأمريكية، حسبما تُظهر البيانات من شركة Trimble الأمريكية لأجهزة استقبال الأقمار الصناعية.
وكانت الصين قد أطلقت القمرَ الصناعي المُتمم لمنظومتها بايدو "BeiDou" للملاحة عبر الأقمار الصناعية، إلى مداره في أواخر شهر يونيو/حزيران، لتكمل بذلك أخيراً سعيها الحثيث لتصبح قوة فضائية عالمية. وكانت نظام بايدوا الصيني للملاحة عبر الأقمار الصناعية قُدّمت في عام 2015، بوصفها جزءاً من "طريق الحرير الرقمي"، وهو الممر الرقمي الخاص بمبادرة "الحزام والطريق" الصينية.
وكانت الصين قد أكملت منظومتها قبل ستة أشهر من الموعد المحدد، ليصبح نظام الملاحة الجديد بديلها عن نظام تحديد المواقع العالمي الأمريكي "جي بي إس" (GPS) ومنظومة "غلوناس" GLONASS الروسية و"غاليليو" Galileo الأوروبية للملاحة الفضائية، كما يقول موقع Al-Monitor الأمريكي.
وفقاً لتقرير في موقع Nikkei Asia الياباني، فإن ما يصل إلى 30 قمراً صناعياً بايدو ترسل إشارات مستمرة إلى أديس أبابا عاصمة إثيوبيا، أي ضعف ما هو موجود في نظام الولايات المتحدة.
ويقال إن خدمة Deliver Addis قد ارتفعت بشكل كبير في العاصمة الإثيوبية، حيث يرسل التطبيق الطعام إلى موقع العميل بدقة ملحوظة. ويرجع ذلك إلى تكنولوجيا الأقمار الصناعية الصينية المصممة أصلاً لدعم الجيش الصيني.
وقال ميوكي كوجا، مالك مطعم ياباني في العاصمة الإفريقية، لموقع Nikkei Asia الإخباري، إن معلومات تحديد المواقع على الهواتف الذكية من قبل النظام الصيني قد تحسنت بسرعة فائقة. يقول كوجا: "يمكننا حتى من إدارة عمليات الولادة في حالة جائحة فيروس كورونا".
ويسلط هذا الوضع الضوء على هيمنة بكين المتزايدة في المعركة العالمية من أجل البيانات.
قصة نشأة نظام بايدو الصيني للملاحة عبر الأقمار الصناعية
وتم إنشاء نظام تحديد المواقع العالمي "GBS" الأصل للتطبيقات العسكرية الأمريكية، بما في ذلك توجيه الصواريخ وتتبع مواقع القوات المعادية.
أطلقت الولايات المتحدة أول قمر صناعي خاص بها لنظام تحديد المواقع العالمي "GPS" في عام 1978، بينما أكملت الصين نظام بايدو في يونيو/حزيران 2020 بعد أن بدأ التطوير في الثمانينيات.
تعود نشأة نظام بايدو الصيني للملاحة عبر الأقمار الصناعية إلى حادثة عسكرية مهمة في تاريخ البلاد.
فلقد بدأت الصين هدفها في الحصول على نظام أقمار صناعية للملاحة العالمية "GNSS" مستقل تماماً خلال أزمة مضيق تايوان الثالثة، التي وقعت خلال عامي 1995 و1996.
خلال تلك الأزمة، أطلقت الصين ثلاثة صواريخ على مواقع بمضيق تايوان، كإشارة تحذير ضد تحركات الجزيرة من أجل الاستقلال ونيل وضع دولة معترف بها دولياً. وبينما ضرب الصاروخ الأول موقعاً يقع على بعد حوالي 18.5 كيلومتر من قاعدة كيلونج العسكرية في تايوان، فقدت الصين مسار الصاروخين الآخرين.
وأكدت الصين أن الولايات المتحدة قطعت إشارة GPS عن المحيط الهادئ، والتي كانت الصين تعتمد عليها في ذلك الوقت لتتبع الصواريخ. ومن ثم أصبحت حادثة عام 1996 الدافع لإنشاء بايدو.
والآن تبيع وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات الصينية ما تسميه "طريق حرير المعلومات"، بما في ذلك شبكات Beidou و5G، إلى الجماهير في دول العالم كبديل للأنظمة الأمريكية الحالية.
سفينة صينية تقترب من قاعدة أمريكية في قلب المحيط
ولكن أهداف بكين أكثر من مجرد أهداف اقتصادية، حسب موقع Eurasian Times.
فنظام الأقمار الصناعية المتقدم لبكين، والذي يمكنها من خلاله تعزيز قدراتها العسكرية، لا يهدد واشنطن عسكرياً فحسب، بل يتحدى أيضاً مكانة الولايات المتحدة بلا منازع، باعتبارها القوة الدافعة في الفضاء الإلكتروني.
ويتيح نظام الملاحة وتحديد المواقع الخاص بالصين للصواريخ والطائرات بدون طيار الصينية وغيرها من الآليات العسكرية الاعتمادَ على تكنولوجيا صينية دون قلق من فقدان الإشارة، كما يمكن أن يساعد الجيش الصيني على تحسين الإعدادات المتعلقة بنشر القوة وتقديم الدعم اللوجستي"، بحسب المحلل العسكري الصيني تشو تشينمينغ.
وتتكون البنية التحتية للمعلومات الصينية من كابلات تحت البحر، كما تمتلك الصين روابط مهيمنة مدعومة من الفضاء، وغيرها من الروابط الأرضية.
وأفادت شركة Nikkei Asia أنها قامت بفحص أنشطة 34 سفينة حكومية صينية عبر موقع MarineTraffic، الذي يتتبع تحركات السفن في جميع أنحاء العالم بناءً على البيانات العامة من أنظمة التعرف الآلي.
كما فحصت حادثة غوام في شهر مايو/أيار 2020، عندما ظهرت سفينة الأبحاث التابعة للحكومة الصينية، شيانغ يانغ هونغ 01، فجأة قبالة الساحل الشمالي الشرقي لغوام، حيث يوجد للولايات المتحدة قاعدة عسكرية، في عمق المحيط الهادئ.
وخلص التقرير إلى أن السفن المكلفة بمسح الموارد البحرية قد تقوم سراً بجمع البيانات للاستخدام العسكري، مثل رسم خرائط المسارات المستقبلية للغواصات. وجد مؤشر Nikkei Asia أن السفينة شيانغ يانغ هونغ 01 قام برحلات إلى غوام وجزر ماريانا الشمالية في أنماط منتظمة.
واشنطن قلقة على نظام تحديد المواقع العالمي "GPS" الأمريكي
بالنظر إلى أن معظم ميزات منظومة "بايدو" متداخلة في طبيعتها، فإن ممر الحزام والطريق الرقمي قد يزيد من تعقيد الأمور بين واشنطن وبكين. خاصة أن ثمة مخاوف من أن المشروع الصيني القائم على تكنولوجيا الفضاء قد تكون له آثار على المصالح الأمريكية في مجالات أمنية واقتصادية ودبلوماسية.
وفق تقرير للكونغرس الأمريكي صدر عن لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين في عام 2019، فإن أي خدمات ضمن "طريق الحرير الرقمي عبر الأقمار الصناعية" يمكن أن تعمق الاعتماد على الصين في الخدمات الفضائية على حساب النفوذ الأمريكي.
بايدو في الدول العربية.. مخاطر وفرص
عرضت الصين تغطية منظومة "بايدو" للملاحة الفضائية على الدول المشاركة في مبادرتها العملاقة "الحزام والطريق"، وكانت الدول العربية من بين الدول الأولى التي دخلت إلى المنظومة لأنها أيضاً دول أعضاء في منتدى التعاون الصيني العربي والحوار الاستراتيجي بين الصين ومجلس التعاون الخليجي.
وفي الأساس، وفقاً لبكين، "يمكن اعتبار أي نوع من التعاون الثنائي مع [الصين] جزءاً أو مشاركة في مبادرة الحزام والطريق".
وأصبحت عديد من دول مجلس التعاون الخليجي مثل الإمارات والسعودية، إلى جانب مصر، جزءاً من مبادرة طريق الحرير الرقمي التي أطلقتها الصين العام الماضي.
كانت السعودية من أوائل الدول التي انضمت رسمياً، ووقعت الرياض وبكين مذكرةَ تفاهمٍ لضم السعودية إلى ممر الحرير الرقمي، وإنشاء منصات التبادل الفني في ثلاث مدن في كل من البلدين. كما يتوافق ممر الحرير الرقمي ويقع في بعض الخطط والمشروعات المستقبلية لدولة الإمارات.
يمكن لبكين من خلال تلك المنظومة مراقبة حركة المرور عبر الإنترنت أو حتى قطع الروابط مع مناطق أخرى إذا رغبت في ذلك.
كما أن البيانات والمعلومات المتراكمة من المستخدمين يمكن أن تساعد في توفير نظرة ثاقبة لحيازة حصص أكبر في السوق، وهذا أقل ما في الأمر.
إضافة لذلك فإن الجائحة المستمرة تتيح نشر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتقنيات تعيين المصابين بالفيروس بدرجة أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط بواسطة مبادرة الحزام والطريق الرقمية.
الأخطر أن الاستخدام واسع النطاق للتكنولوجيا الرقمية الصينية يمكن أن يمنح بكين مزيداً من التأثير والنفوذ، فبعد أن كان لها حضور اقتصادي فقط في الشرق الأوسط، ولم تشارك الصين أبداً في أي جوانب أمنية في المنطقة، فإنه بواسطة هذه الشبكة الشاملة لكابلات الألياف الضوئية على الأرض ووصلات الإنترنت تحت البحر وأقمار منظومة بايدو الصناعية في الفضاء، فرضت الصين واقعاً جديداً على الأرض.
يهدد نظام بايدو الصيني الدول العربية وغيرها من الدول التي تعتمد عليه لخطر التبعية.
إذ باعتماد كثير من الدول على الصين في الملاحة عبر الإنترنت وتكنولوجيا الأقمار الصناعية، ستدير عديد من البلدان عملياتها من خلال طريق الحرير الرقمي المرتبط بالصين، ويمكن أن يشمل ذلك العديد من الاستخدامات المدنية والعسكرية.