في خضم تنامي العداء للهجرة بالدول الغربية، تفشَّت جائحة كورونا لتفتك بمواطني تلك الدول وتصيب بعض زعمائها الكارهين للمهاجرين، لكن بارقة الأمل جاءت على أيدي المكروهين، فهل يستوعب العالم الدرس؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "فيروس كورونا يقتل الغربيين والمهاجرون ينقذونهم"، تناول قصة العداء للهجرة ودور المهاجرين الحاسم في إنقاذ العالم من وباء كورونا.
اللقاح طوَّره مهاجر وزوجته
تشير النتائج المبكرة إلى أنَّ لقاح فيروس كورونا المستجد الذي طوّرته شركة "فايزر" الأمريكية بالتعاون مع شركة "بيونتيك" الألمانية، فعّال بنسبة تزيد على 90%. في الوقت نفسه، إذا ثبت أنَّ لقاح فايزر-بيونتيك آمن واعتمدته الجهات التنظيمية في وقتٍ قريب، فإنَّه سيساهم في إنقاذ كثير من الأرواح ويسمح للناس باستئناف حياتهم الطبيعية ويمنح الاقتصادات المتعثرة دفعة إيجابية، وسيتعيَّن عندئذ على العالم تقديم شكره إلى مهاجرين أتراك استقروا في ألمانيا قبل سنوات عديدة.
وصل أوغور شاهين، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة "بيونتيك" الألمانية الناشئة في مجال التكنولوجيا الحيوية، إلى ألمانيا عندما كان طفلاً، وكان والده يعمل بمجال السيارات وجاء إلى ألمانيا في إطار برنامج "Guest Worker" الذي أطلقته ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. كانت زوجة شاهين والمديرة الطبية لشركة "بيونتيك"، أوزليم توريغي، قد انتقلت أيضاً إلى ألمانيا مع والدها الطبيب التركي.
انخرط الزوجان في مجال البحث العلمي وأسّسا معاً شركتهما الناشئة، التي كانت تركز في السابق، على تطوير علاجات مبتكرة للسرطان. علاوة على ذلك، تأسست شركة "موديرنا" الأمريكية للتكنولوجيا الحيوية، التي أعلنت أيضاً عن لقاح واعد، على يد مجموعة تضم اثنين من المهاجرين -هما: عالم الأحياء الكندي ديريك روسي، والمستثمر والعالم اللبناني الأصل نوبار أفيان- أما رئيسها التنفيذي فهو فرنسي.
حظي إنجاز أوغور شاهين وأوزليم توريغي باحتفاء العالم أجمع حتى الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، الذي نادراً ما يكون لديه أي شيء جيد ليقوله عن المهاجرين، فضلاً عن المسلمين منهم، إضافة إلى أنَّ إسهاماتهما العلمية كشفت المغالطة في الخطاب المناهض للمهاجرين بأوروبا وأمريكا الشمالية.
في الواقع، وفقاً لسياسات الهجرة القائمة على استقبال ذوي المهارات العالية والتي باتت تفضّلها العديد من الحكومات في البلدان الغنية، كان شاهين سيُحرم من الانتقال إلى ألمانيا في طفولته ولم يكن العالم سيدرك الفرصة التي فوّتها على البشرية.
رغم النبوغ والذكاء الفردي لشاهين، فإنه على الأرجح ما كان سيستطيع تحقيق الكثير في مجال البحث العلمي لولا انتقاله إلى ألمانيا والاستفادة من التعليم المتميز والفرص البحثية والاستثمارية المتاحة هناك.
إنجازات لا تُحصى لمهاجرين
أدَّت جائحة فيروس كورونا إلى فرض قيود على حركة التنقل الدولية لأسباب تتعلق بالصحة العامة، إضافة إلى تصاعد أصوات أولئك الذين يجادلون بأنَّ الهجرة لم تعد ضرورية. خفَّض ترامب، تحديداً، عدد تأشيرات العمل التي تُقدّمها الولايات المتحدة، بدعوى الأوضاع الاقتصادية. ومع ذلك، تُعد المساهمة العلمية العظيمة لشاهين وأوزليم أحد الأمثلة الواضحة على مدى خطأ تبني مثل هذه السياسات والضرر الذي قد ينجم عنها.
أدَّت الشركات التي أسّسها رواد أعمال من أصل أجنبي دوراً رئيسياً في دعم الاقتصادات والمجتمعات هذا العام، في وقت اضطر فيه كثيرون إلى العمل من المنزل أو المكوث فيه لأسباب العزل الصحي. في هذه الأثناء، لجأ كثيرون بجميع أنحاء العالم إلى استخدام تطبيق محادثات الفيديو الجماعية "زووم"، الذي أسّسه مهاجر صيني إلى الولايات المتحدة يُدعى إريك يوان.
وهناك تطبيق "DoorDash"، وهو تطبيق توصيل وجبات الطعام الأكثرُ شهرة في الولايات المتحدة، والذي أسّسه مواطن أمريكي من أصل صيني يُدعى توني شو. في السياق ذاته، تأسست شركة "Babylon Health" البريطانية المتخصصة في مجال تقديم الاستشارات الطبية عن بُعد، على يد المواطن البريطاني من أصل إيراني، علي بارسا.
على نطاق أوسع، أدَّت جائحة فيروس كورونا إلى تسريع اعتماد الشركات والأسر على التقنيات الرقمية. شارك المهاجرون في تأسيس ما يقرب من نصف الشركات التقنية الناشئة في وادي السيليكون، من ضمنها شركتا "جوجل" و"تيسلا".
ويُقدّم المهاجرون إسهامات كبيرة أيضاً في مجال الرعاية الطبية، إذ ينتمي أكثر من نصف الأطباء الأستراليين إلى أصل أجنبي، وكذلك 38% من الأطباء في مستشفيات المملكة المتحدة وما يقرب من 30% من أطباء الولايات المتحدة كانوا مولودين في الخارج. تنتمي أيضاً العديد من ممرضات أوروبا إلى أصل أجنبي.
كان رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، قد أعرب عن امتنانه للعاملين بمجال الصحة في بلاده، لكنه خصَّ بالشكر ممرضة نيوزيلندية تُدعى جيني وممرضاً برتغالياً يُدعى لويس؛ على مساعدتهما في إنقاذ حياته عندما نُقل إلى المستشفى إثر إصابته بفيروس كورونا في أبريل/نيسان الماضي. وفي إيطاليا، يُشكّل المهاجرون أكثر من نصف القوى العاملة بمجال الرعاية الاجتماعية.
ولم تقتصر إسهامات المهاجرين في مساعدة المجتمعات، على فئة رواد الأعمال والعمال ذوي المهارات العالية فحسب، بل يؤدي العمّال المهاجرون ذوو الأجور المنخفضة أيضاً دوراً كبيراً في دعم مجتمعاتهم لمواجهة أزمة كورونا، إذ يقدمون خدمات تعبئة الطعام وتوصيل الطلبات إلى المنازل ويعملون ساعات طويلة في مستودعات شركة أمازون وينظّفون المستشفيات ووسائل النقل العام.
ماذا بعد كورونا؟
توقّفت حركة الهجرة والانتقالات عموماً هذا العام بسبب جائحة فيروس كورونا. لكن بفضل لقاح فايزر-بيونتيك ولقاحات أخرى، يُرجح أن تنشط الاقتصادات مُجدَّداً في عام 2021 وينشط معها الطلب على الهجرة. السؤال الكبير هو: هل تسمح الحكومات الغربية للأشخاص بالانتقال إليها؟ وإذا كانت الإجابة "نعم"، فمن الذين ستسمح باستقبالهم؟
غالباً ما يكون فرض القيود أسهل كثيراً من رفعها. قد تتباطأ العديد من الحكومات الغربية في إلغاء القيود المفروضة على حرية التنقل، لأسباب تتعلّق بالصحة العامة حتى بعد انتهاء الوباء. ومع ذلك، يُرجح أن تنتعش تدفقات الهجرة سريعاً بمجرد إنهاء إجراءات الإغلاق المحلي داخل دول الاتحاد الأوروبي، حيث يستطيع المواطنون التنقل بِحرية عبر جميع الدول الأعضاء البالغ عددها 27 دولة.
بالنسبة لبريطانيا، تنتهي حقوق حرية التنقل لمواطني الاتحاد الأوروبي على أراضيها بعد مغادرتها رسمياً الاتحاد الأوروبي. لذا، سيكون من عجيب المفارقات المُخزية أن تمنع سياسة الهجرة البريطانية الجديدة المنحازة إلى المهارات العالية دخول العديد من الممرضات الأجانب والعاملين في مجال الرعاية الصحية وغيرهم من العمّال ذوي الأجور المنخفضة، الذين خرج وزراء حكومة المملكة المتحدة إلى الشوارع لتحيتهم والإشادة بجهودهم خلال فترة الإغلاق الأولى.
كان ترامب في السنوات الأخيرة قد ضرب مثالاً مروّعاً للعالم بأسره على الخطاب اللاذع المناهض للمهاجرين والسياسات القاسية ضدهم، من بينها تشويه صورة المكسيكيين ووصفهم بأنَّهم "قتلة ومغتصبون"، وفرض حظر دخول مواطني العديد من الدول ذات الغالبية المسلمة إلى أمريكا، وفصل الأطفال عن والديهم على الحدود الأمريكية- المكسيكية واحتجازهم في أقفاص مثل الحيوانات.
ولحسن الحظ، وعد الرئيس الأمريكي المنتخب، جو بايدن، بتغيير هذا المسار، متعهداً بإلغاء العديد من الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب بشأن الهجرة، ومن ثمَّ إنهاء احتجاز الأطفال ورفع الحظر المفروض على دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة واستعادة حصة اللاجئين. ستُقدم حكومة الولايات المتحدة -لأول مرة منذ 4 سنوات- نموذجاً إيجابياً بمسألة الهجرة في حال نفّذ بايدن تعهداته، وستجني الفوائد الاقتصادية المترتبة على ذلك. في المقابل، إذا تبنّت دول مثل المملكة المتحدة نهجاً قائماً على إبعاد الأجانب، فسوف تحرم نفسها من جهود مُخلصة وإسهامات مُثمرة تدعم تعافيها في مرحلة ما بعد فيروس كورونا.