حتى الآن، تبدو الخرطوم في موقف المستعد لبذل جهود للوساطة بين طرفَي النزاع في جارتها إثيوبيا، مع لعب دور إنساني باستقبال وإغاثة آلاف اللاجئين الفارين من الحرب بين الجيش الإثيوبي و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" في الإقليم الحدودي مع السودان.
وهو دور يبدو حذِراً حتى الآن من جانب الخرطوم، التي ترتبط بعلاقات جيدة مع رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد.
ودعا مجلس الدفاع والأمن السوداني (أعلى هيئة أمنية)، في 9 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، كل الأطراف في إثيوبيا إلى التعامل بالحكمة والاحتكام إلى الحل السلمي وضبط النفس.
وعقب اجتماع للمجلس، قال وزير الدفاع السوداني، اللواء ياسين إبراهيم، إن "السودان سيواصل مجهوداته لدعوة الأطراف (الإثيوبية) للتوافق عبر التفاوض".
وتتواصل مواجهات مسلحة بين الجيش الإثيوبي الفيدرالي و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" منذ 4 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري.
وهيمنت الجبهة على الحياة السياسية في إثيوبيا لنحو 3 عقود، قبل أن يصل أبي أحمد إلى السلطة عام 2018، ليصبح أول رئيس وزراء من عرقية "أورومو".
و"أورومو" هي أكبر عرقية في إثيوبيا بنسبة 34.9% من السكان، البالغ عددهم نحو 108 ملايين نسمة، فيما تعد "تيغراي" ثالث أكبر عرقية بـ7.3%.
وتتهم الجبهة السلطات الفيدرالية بتهميشها، ورفضت الانضمام إلى حزب "الازدهار"، الذي حل محل الائتلاف الحاكم، وتحدت أبي أحمد بإجراء انتخابات إقليمية، في سبتمبر/أيلول الماضي، اعتبرتها الحكومة "غير قانونية"، في ظل قرار فيدرالي بتأجيل الانتخابات بسبب جائحة "كورونا".
مناورات سودانية – مصرية
ظاهرياً، وفق محللين، تبدو الحكومة الانتقالية في السودان ذات علاقة جيدة مع حكومة أديس أبابا، لكن ذلك قابل للتغير وفق مقتضيات المصلحة.
فالحكومة السودانية، ورغم عدم تدخلها المباشر حتى الآن في صراع إقليم تيغراي، فإنها تلوح بملفات، منها منطقة "الفشقة" السودانية وسد "النهضة" الإثيوبي، حيث تأمل بالحصول على تنازلات من أديس أبابا مقابل دعم الخرطوم لها في الحرب.
والفشقة منطقة سودانية حدودية، تبلغ مساحتها 251 كيلومتراً، وتشهد خلال فترتي الإعداد للموسم الزراعي والحصاد، هجمات دموية تشنها جماعات إثيوبية مسلحة غير خاضعة لسلطة أديس أبابا.
ويرى محللون أن توقيت المناورات العسكرية الراهنة بين السودان ومصر هو بمثابة إشارة إلى أديس أبابا بأن الخرطوم قادرة على تحقيق مصلحتها بتحالفات مع جيرانها.
ويُجري الجيشان السوداني والمصري مناورات عسكرية هي الأولى من نوعها في قاعدة جوية في منطقة مروي السودانية (شمال)، تحت اسم "نسور النيل".
وتأتي هذه المناورات في ظل مخاوف مصرية وسودانية من تأثيرات سلبية محتملة لسد "النهضة" على حصة البلدين من مياه نهر النيل، خاصة مع توقف مفاوضات الحل.
ففي 8 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أعلنت الخرطوم عن اتفاق وزراء الري في السودان ومصر وإثيوبيا على إنهاء جولة مفاوضات حول السد، انطلقت في الأول من هذا الشهر، وإعادة الملف إلى الاتحاد الإفريقي، في ظل عدم تحقيق اختراق.
وتصر أديس أبابا على ملء السد لتوليد الكهرباء، حتى لو لم تتوصل إلى اتفاق مع القاهرة والخرطوم، فيما ترفض الأخيرتان حدوث ذلك قبل التوصل إلى اتفاق ثلاثي.
موقف قوة
تكمن قوة السودان في ملف الصراع الإثيوبي الجاري في أن حدود إقليم تيغراي المتاحة حالياً لـ"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي" هي الأراضي السودانية.
فالسودان هو المنفذ الوحيد للجبهة؛ لأن بقية حدود إقليم تيغراي مشتركة مع أعدائها، سواء حكومة أبي أحمد أو دولة إريتريا ذات العداء التاريخي مع تيغراي، حين كانوا يهيمنون على السلطة في أديس أبابا ويناصبون أسمرا العداء.
ويقع الإقليم المتاخم لحدود السودان، شمالي إثيوبيا، ويحده من الشمال إريتريا، ومن الغرب السودان، ومن الشرق إقليم عفر الإثيوبي.
ومبكراً، فطنت الخرطوم لهذا الوضع، فأغلقت الحدود مع إثيوبيا، ونشرت الجيش على الحدود، في إجراء احترازي، لمنع تسرب مقاتلين إلى داخل السودان أو دخول مسلحين إلى الإقليم.
انشغال بالداخل
وفق ماجد محمد علي، وهو صحفي سوداني مختص بشؤون القرن الإفريقي، فإن "الحكومة الانتقالية (في الخرطوم) تبدو غير قادرة حالياً على تمرير أي قضية لصالح السودان، سواء بشأن أراضي الفشقة أو دفع إثيوبيا إلى تقديم تنازلات في تسوية سد النهضة؛ لأن الحكومة غارقة في أزمات الشأن الداخلي".
وتعمل حكومة الفترة الانتقالية، برئاسة عبدالله حمدوك، على إحلال السلام في كافة أرجاء السودان، ومعالجة الوضع الاقتصادي المتردي.
وأضاف "علي" للأناضول أن "الصراع في إثيوبيا هو صراع قوميات، ولا تستطيع الخرطوم الدخول مع أي طرف فيه، فعدوى القوميات قد تنتقل إلى أراضيها، لا سيما شرقي السودان".
وشهد شرقي السودان صراعات قبلية بين "الهدندوة" و"البني عامر"، اتخذت شكلاً آخر من الصراع السياسي وصل إلى رفض مسار الشرق في مفاوضات السلام بجوبا، وكذلك مطالبات من تيارات بحكم ذاتي للإقليم.
وهو ما دعا الحكومة الانتقالية إلى الدعوة إلى مؤتمر جامع لشرقي السودان، في محاولة لمعالجة كل إشكاليات الإقليم.
وإذا دعمت الخرطوم، بحسب محللين، إقليم تيغراي في حربه ضد الحكومة الإثيوبية، فإن النتائج ستكون وخيمة، حيث ستدفع بإريتريا إلى أتون الصراع، في ظل العداء التاريخي مع تيغراي.
وبذلك ينتقل الصراع من إقليم تيغراي إلى السودان وإريتريا، لتصبح المنطقة بأكملها في حالة حرب.
وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، نفت إثيوبيا صحة ما أعلنته جبهة تيغراي من أن إريتريا أرسلت قوات عبر الحدود، لدعم عمليات الجيش الإثيوبي في إقليم تيغراي.
كما أن الخرطوم طورت علاقتها مع أسمرا، منذ بدء المرحلة الانتقالية بالسودان في 21 أغسطس/آب 2019، ويتبادل مسؤولو البلدين الزيارات.
وأجرى يماني قبراب، مبعوث الرئيس الإريتري، ووزير الخارجية السوداني، عثمان صالح، الأسبوع الماضي، مشاورات لاتخاذ موقف موحد بشأن الصراع في إثيوبيا.
وساطة ومساومة
يرى محللون أن لدى الخرطوم ما يؤهلها للعب دور الوسيط، بفضل علاقتها الجيدة مع كل من الحكومة الإثيوبية الفيدرالية و"الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي".
ويستبعد هؤلاء أن تدعم الخرطوم أي طرف في النزاع، ويرجحون أن تحاول قدر الإمكان لعب دور الوسيط.
ويعتقدون أن التشكيلة الحالية لمجلسي السيادة والوزراء في الخرطوم قادرة على أن تقوم بمساومة لصالح السودان بشأن أراضي الفشقة، عبر دفع أديس أبابا إلى وقف تعدي جماعات إثيوبية مسلحة على الأراضي السودانية في الفشقة.
وقالت الخارجية السودانية، في مايو/أيار الماضي، إنه لا يوجد نزاع حول تبعية منطقة الفشقة للأراضي السودانية، وإن إثيوبيا لم تدَّعِ مطلقاً تبعية المنطقة إليها.
وربما تنجح مساومة الخرطوم لأديس أبابا في ملف الفشقة، وتكون أيسر من ملف السد، وذلك عبر استمرار إغلاق حدودها ومنع مقاتلي تيغراي من التحرك على الحدود أو التزود باحتياجاتهم من غذاء ووقود وسلاح.