السودان سيحدد نتيجة الحرب الأهلية الإثيوبية، التي أشعلها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ضد منطقة تيغراي الشمالية، بينما كان العالم يستعد للانتخابات الأمريكية في وقتٍ سابق من هذا الشهر، نوفمبر/تشرين الثاني.
تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، كشف المواقف الحقيقية للسودان في ظل خلافات كبيرة بين البلدين لا تقتصر فقط على أزمة سد النهضة.
بدايات الأزمة
وتُعَدُّ المنطقة موطناً لجبهة تحرير شعب التيغراي- الحزب الذي هيمَنَ على السياسات الإثيوبية لعقودٍ من الزمن وتعرَّضَ للتهجير والتهميش بينما سعى آبي لتوطيد سلطته وإقامة السلامة مع إريتريا، العدو اللدود لجبهة تحرير تيغراي، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لكن جبهة تحرير تيغراي لم ترحل بهدوء. في سبتمبر/أيلول، أجرت الحكومة الإقليمية التي تقودها الجبهة انتخاباتٍ محلية رفضت الحكومة المركزية الاعتراف بها في أكتوبر/تشرين الأول. ثم في 3 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد استفزازاتٍ من آبي أحمد، سيطرت الجبهة على الأفراد والمعدَّات العسكرية من القيادة الشمالية للجيش الفيدرالي، مِمَّا دَفَعَ أديس أبابا إلى إعلان الحرب ضد المنطقة التي لا تزال موطناً لجزءٍ كبيرٍ من ترسانة وقوات الجيش الفيدرالي الإثيوبي، بالنظر إلى موقعه على طول الحدود غير المُحدَّدة والمُتنازَع عليها منذ فترةٍ طويلة مع إريتريا.
ولطالما اتَّهَمَ آبي أحمد الحرس القديم في جبهة تحرير تيغراي بالسعي لتخريب حكومته وإصلاحاته المزعومة. لكن الآن، في مواجهة حربٍ شاملةٍ ضد عدوٍ شرس، ستحدد النتيجة عبر خيارات جيران إثيوبيا- السودان وإريتريا.
250 ألف مقاتل.. إقليم صغير ولكن مسلح جيداً
ورغم صغر حجم تيغراي، فإنها مُسلَّحةٌ جيِّداً وقواتها ذات خبرة بالمعارك. وهناك القوات الخاصة الإقليمية لتيغراي، التي يقول دبلوماسيٌّ إثيوبي رفيع المستوى إنها نمت إلى 20 ألف مقاتل على الأقل- بقيادة كبار ضباط تيغراي الذين أجبرهم آبي على التقاعد، بالإضافة إلى مجموعةٍ دائمةٍ من القوات الخاصة الاحتياطية المُكوَّنة من ميليشياتٍ مُدرَّبة عسكرياً ومزارعين مُسلَّحين- كلُّ ذلك يُقدَّر في الإجمالي بـ250 ألف مقاتل مُسلَّح.
ومع ذلك، كانت القوات الخاصة الإقليمية تفتقر حتى وقتٍ قريب إلى الأسلحة الثقيلة اللازمة لمواجهة فرقةٍ كاملة التجهيز مباشرةً.
ومنذ الأسبوع الماضي، سيطرت جبهة تحرير تيغراي على نصف الجنود من الفِرَق الخمس التابعة للقيادة الشمالية لقوات الدفاع الوطني الإثيوبية التي لا تزال في تيغراي- ما يعني أنها اكتسبت 15 ألفاً من الجنود، وذلك وفقاً لثلاثة مصادر: دبلوماسي إثيوبي رفيع المستوى قدَّم إحاطةً بالتطوُّرات الأخيرة، ومسؤول استخباراتي كبير متقاعد في تيغراي يواصل العمل لصالح جبهة تحرير تيغراي، ومصدر في تيغراي يراقب الموقف.
لكن الاستيلاء على المعدَّات العسكرية الإثيوبية زاد من أهمية الإمدادات اللوجستية لجبهة تحرير تيغراي، والتي ستعتمد حتماً على موقف السودان.
الخرطوم لديها أسباب كثيرة لدعم التيغراي.. قصة الإقليم السوداني الذي يزرعه الإثيوبيون
ولدى السودان عددٌ من الأسباب الاستراتيجية لدعم- أو على الأقل أن يُنظَر إليها على أنها تدعم- الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في الحرب الأهلية ضد الحكومة الإثيوبية.
بينما أغلق السودان الحدود رسمياً بين تيغراي وولايات كسلا والقضارف السودانية الحدودية- وهما الرابطان اللوجستيان الوحيدان اللذان يربطان تيغراي بالعالم الخارجي من حيث الوقود والذخيرة والغذاء- فقد يستخدم السودان تهديد دعم جبهة تحرير تيغراي لانتزاع تنازلاتٍ من أديس أبابا بشأن مثلث الفشقة المُتنازَع عليه.
وتبلغ مساحة الفشقة ما يقرب من 100 ميل مربع من الأراضي الزراعية الرئيسية على طول حدودها مع ولاية أمهرة الإثيوبية، ويطالب بها السودان بموجب اتفاقيةٍ وُقِّعَت عام 1902 بين المملكة المتحدة وإثيوبيا في ظلِّ حكم الإمبراطور منليك الثاني، وعزَّزَها بعد ذلك موقف العديد من القادة الإثيوبيين، بمن فيهم قادة جبهة تحرير تيغراي.
حكومة إثيوپيا (الرسمية) تعترف قانونياً باتفاقية الحدود لعام 1902، أي اتفاقية (هارنجتون – مينليك) وكذلك تعترف ببروتوكول الحدود لسنة 1903، واتفاقية عام 1972 مع حكومة السودان المستقلة بأن منطقة الفشقة أرض سودانية. لكن على أرض الواقع يبدو الأمر ليس كذلك، فلا تزال أجزاء من الفشقة تحت سيادة إثيوبية فعليِّة، وسيادة سودانية (معترف بها من إثيوپيا) لكنها معلقة.
وفي 28 مايو/أيار 2020، أعلن الجيش السوداني، أن ميليشيات إثيوبية مسنودة بالجيش الإثيوبي، اعتدت على أراضي وموارد البلاد، وأشار إلى أن الاعتداءات أسفرت عن مقتل ضابط سوداني وإصابة 7 جنود، وفقدان آخر، إضافة إلى مقتل طفل وإصابة 3 مدنيين.
ولا يزال الخلاف حول الفشقة يمثِّل أحد المطالب الأساسية لمزارعي الأمهرة الإثيوبيين الذين يسعون لحرث الأرض بالقرب من الحدود.
يعتقد الشعب الأمهري الإثيوپي، اعتقاداً راسخاً وجازماً، أن هذه أراضيه وأراضي أجداده، وأنه لن يتركها حتى ولو منحها منليك الثاني للإنجليز 1902، وبالتالي كلما حل خريف– وهذا الأمر مستمر منذ الخمسينات – يأتي مزارعو أمهرة بدعم من عصابات – (ولجاييت) التي تسمى بالأمهرية شفتا، ويزرعون الأراضي السودانية المعترف بها دولياً وإثيوپياً.
ويشكِّل الخلاف أيضاً عقبةً في المفاوضات بشأن سدِّ النهضة الإثيوبي الكبير.
ومثل مصر، رَفَضَ السودان اقتراح إثيوبيا بشأن المبادئ التوجيهية التي من شأنها ترسيخ سيطرة إثيوبيا المستقبلية على إدارة التدفُّق السنوي للنيل الأزرق على أساسٍ تقديري، وتستخدم الخرطوم بالفعل هذه القضية كوسيلة ضغطٍ على آبي بشأن الفشقة، إذ تستمر إثيوبيا والسودان في الحفاظ على وجودٍ عسكري.
السودان سيحدد نتيجة الحرب الأهلية الإثيوبية
إذا أيَّدَ السودان تيغراي، التي تحدُّ إريتريا أيضاً، ستصبح الحرب الأهلية أمراً مُطوَّلاً بالتأكيد.
وقد تكون التداعيات الاستراتيجية كبيرة على علاقات الخرطوم مع أديس أبابا وأسمرة.
وفي الواقع، يمكن للمنطقة أن تعود بسرعةٍ إلى حالة الصراع بالوكالة التي سبقت صعود آبي وانهيار نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير- أو التعجيل باندلاع صراعٍ إقليمي أوسع.
ومنذ الأسبوع الماضي، شهد السودان فرار آلاف الأشخاص بالفعل من إثيوبيا، بمن فيهم ضباط من قوة الدفاع الوطنية الإثيوبية، وفقاً لمصدرٍ تحدَّثَ مع رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك حول هذه المسألة.
وبينما تحالَفَ البشير سابقاً مع النظام الإثيوبي السابق بقيادة جبهة تحرير تيغراي، صار نفوذ جبهة تحرير تيغراي في السودان محدوداً منذ الإطاحة بالبشير من السلطة، ولأن الجبهة لم تعد تسيطر على الدولة الإثيوبية.
وحالة السودان حالياً هشَّةً بالفعل، وتريد الخرطوم التأكُّد أنها على الأقل تحظى بعلاقاتٍ مقبولة مع جيرانها.
ما هي التعليمات التي صدرت للجيش السوداني؟
حتى الآن، تركِّز التعليمات من الخرطوم على عدم التحيُّز لأديس أبابا أو لأسمرة– وهي رسالةٌ شقَّت طريقها إلى القوات المُسلَّحة السودانية، التي انتشرت على الحدود مع إثيوبيا، بحسب قول ضابط عسكري سوداني كبير.
وليس السودان هو البلد المجاور الوحيد الذي لديه اهتمام كبير بنتائج الحرب الأهلية.
فقد سافر مبعوثو الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، لمقابلة رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، الفريق عبدالفتاح البرهان، على الأرجح لمطالبة الجيش السوداني، الذي يتمتَّع بالسلطة الحقيقية، بقطع أيِّ احتمالٍ للدعم اللوجستي للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي.
آبي أحمد بدأ بالاستفزاز، وكان يعد العدة للحرب
ومنذ البداية، كان من الواضح أن آبي كان ينوي الاستفزاز، لكنه لم يتوقَّع أن تحل جبهة تحرير تيغراي محل قيادة عسكرية كاملة.
وفي أواخر أكتوبر/تشرين الأول، قبل أسبوعٍ من سيطرة جبهة تحرير تيغراي على القيادة الشمالية المتبقية في تيغراي، أنشأ آبي قيادةً إقليمية جديدة في ولاية أمهرة الإثيوبية، حيث من المُقرَّر نقل فرقتين من القيادة الشمالية المتمركزة بالفعل في أمهرة إلى صفوفها.
وتتألَّف القيادة الشمالية من ثماني فِرَق من أصل 32 تابعة لقوة الدفاع الوطني. تمركزت ثلاث منها خارج تيغراي لمدة عامين، منذ أن وسَّع آبي منطقة عمليات القيادة الشمالية، وهذه الفِرَق الثلاث هي فرقة دبابات في شمال ولاية عفار الإثيوبية وفرقتان في أمهرة. وتجري الآن المناورات العسكرية ضد تيغراي على ثلاث جبهات: من إريتريا وعفار وأمهرة، مع استخدام إريتريا وأمهرة في محاولةٍ لفصل جبهة تحرير تيغراي عن السودان.
في 1 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد أيامٍ قليلة من إنشاء آبي القيادة الجديدة، سافَرَ البرهان لرؤيته في أديس أبابا مع المدير العام لجهاز المخابرات السوداني ورئيس المخابرات العسكرية. وأُعلِنَ أنهم سيعزِّزون السيطرة على الحدود السودانية الإثيوبية، ما يشير إلى أن آبي أحمد كان يحاول تطويق تيغراي بالكامل قبل مواجهةٍ مع سبق الإصرار مع جبهة تحرير تيغراي.
ولدى كل من آبي أحمد وأسياس أفورقي، ثأر مع جبهة تحرير تيغراي، حيث أشعل قادة الجبهة صراعاً دموياً بين إثيوبيا وإريتريا استمرَّ 20 عاماً متقطِّعاً (حينما كانت الجبهة تحكم إثيوبيا).
وهذا العداء المشترك ضد النظام الإثيوبي السابق- وليس الحب الأخوي- هو الذي يُعَدُّ دافعاً رئيسياً لبدء العلاقات الدبلوماسية بين إثيوبيا وإريتريا قبل عامين، تلك العلاقات التي من أجلها كُرِّمَ آبي بجائزة نوبل للسلام العام الماضي، في حين لم تلحظ لجنة نوبل النرويجية أن الجائزة تكافئ على عملية سلام كانت تهدف حقاً إلى إنهاء حربٍ وتمهيد الأرض لأخرى.
ما موقف جنود الجيش الإثيوبي في الإقليم؟
ووفقاً لمصادر في كلٍّ من تيغراي والحكومة الإثيوبية، فقد انقسم الجنود في فِرَقٍ من القيادة الشمالية لقوة الدفاع الوطني في تيغراي الأسبوع الماضي إلى ثلاث مجموعات: نصفها متحالف مع جبهة تحرير تيغراي، وربعها موالٍ لآبي أحمد ومعظم هذا الربع من ضباط أمهريين في إريتريا، فيما رَفَضَ الباقون القتال ضد الجيش الفيدرالي وجرى احتواؤهم في الثكنات.
وتمكَّنَت المصادر في تيغراي من التحدُّث إلى مجلة Foreign Policy الأمريكية بشكلٍ مُتقطِّعٍ عبر الإنترنت، متحايلين على إغلاق الاتصالات الذي فرضه آبي هناك.
وفي حين أن جبهة تحرير تيغراي قد حقَّقَت نجاحاً كبيراً الأسبوع الماضي في السيطرة على الأفراد والمعدات العسكرية التي تحتفظ بها القيادة الشمالية التابعة لقوة الدفاع الوطني، فإن استمرار النجاح في حربٍ أهليةٍ طويلة الأمد سيعتمد في نهاية المطاف على الدعم المُقدَّم من السودان.
وللسودان تاريخٌ طويلٌ من التدخُّل في الشؤون الإثيوبية والإريترية. وحتى قبل وصول جبهة تحرير تيغراي وأسياس أفورقي إلى السلطة في التسعينيات، دَعَمَ السودان سراً كلاً من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وجبهة تحرير إريتريا في السماح بمرور الخدمات اللوجستية العسكرية والإنسانية عبر حدوده.