منذ اندلاع الحرب الأرمينية الأذربيجانية لاقت أرمينيا هزائم عسكرية كبرى على يد القوات الأذربيجانية، عكس الحرب السابقة وعكس الخطاب العدواني الواثق من النصر الذي بدأت به يريفان الحرب، فما هي أبرز أخطاء أرمينيا في حرب القوقاز التي أدت لهذه النتيجة.
إذ لم تخسر أرمينيا الأراضي الأذربيجانية التي احتلتها في 1993 فقط، بل توغلت القوات الأذربيجانية في ناغورنو قره باغ، وسيطرت على مدينة شوشة الاستراتيجية في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني.
ويبدو أن أرمينيا أُخذت على حين غرة، وهذا محير نظراً للخطاب العدواني الواثق ضد أذربيجان في الأعوام الماضية. فلماذا لم يسِر النزاع على النحو الذي تخيله القادة الأرمن؟
يكمن السبب في مجموعة من الحسابات بالغة الخطأ، التي أساءت فيها القيادة الأرمينية قراءة كل المؤشرات الخاصة بالنزاع: الوضع العام على الساحة الدولية، الرد الروسي، دور تركيا في النزاع، وكذلك الديناميكيات الداخلية عند الخصم، أذربيجان، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
أبرز أخطاء أرمينيا في حرب القوقاز
تجاهل القانون الدولي وعدم التجاوب مع مبادرات أذربيجان الدبلوماسية
أولًا، استعمال أرمينيا في خطاباتها لمصطلح "الأراضي المحررة" في الإشارة إلى الأراضي الأذربيجانية المحتلة يُظهر محاولة عن عمدٍ لاستغلال الضعف المتزايد في المؤسسات الدولية والقانون الدولي. على مدار عامين، تركزت جهود أذربيجان على استعمال الدبلوماسية والضغط الدولي في عكس محاولة أرمينيا تغيير الحدود الدولية باستعمال القوة العسكرية. وقد بدا وكأن النظام الدولي يُطلق يد أرمينيا لتحافظ على سيطرتها على تلك الأراضي إلى أجلٍ غير مسمى.
ما أهمله قادة الأرمن هو أن هذا النظام الدولي هو ما كان يردع أذربيجان من التخلي عن الدبلوماسية وتبني الحل العسكري. في 2019، أشار الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف إلى أن عالماً جديداً يظهر حيث "القوة هي الحق"، مُلمحاً إلى أن أذربيجان ستتصرف بما يقتضيه هذا العالم الجديد إن لم تتمكن من تحقيق أهدافها بالوسائل الدبلوماسية.
وبالمثل، لم تدرك أرمينيا عواقب فشلها في انتزاع الاعتراف الدولي باحتلالها للأراضي الأذربيجانية. وكما أظهرت وقائع سابقة، طالما أن القتال يدور على أرضٍ أذربيجانية معترف بها دولياً، لن تفعل القوى الغربية ولا الشرقية الكثير سوى إصدار دعوات لضبط النفس والجلوس على مائدة المفاوضات.
الفهم الخاطئ للأهداف الروسية
ثانيًا، وربما الأكثر أهمية، هو أن أرمينيا فشلت في فهم حقيقة أنها لا يمكنها الاعتماد على الدعم الروسي. فالنفوذ الروسي على أرمينيا طاغٍ لدرجة أن فلاديمير بوتين لم يرَ مشكلة كبيرة في التودد لإلهام علييف وجر أذربيجان إلى دائرة النفوذ الروسي.
ولطالما فهم دارسو الاستراتيجية الروسية أن الكرملين يرى السيطرة على أرمينيا أفضلية تمكنه من بسط نفوذه على جورجيا وأذربيجان، وكلتاهما لها أهمية جيوسياسية أكبر بكثير من أرمينيا.
قبل بضعة أعوام، بدأت موسكو في بيع كميات كبيرة من الأسلحة إلى أذربيجان. وصحيحٌ أن باكو دفعت أسعاراً أعلى من يريفان، لكن هذه الخطوة كان ينبغي أن تدفع القادة الأرمن إلى التشكيك في استراتيجية التبعية لروسيا، إذ إن الأخيرة بذلت الكثير من الجهود لإغراء باكو بالانضمام إلى المنظمات التي تتزعمها روسيا، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
لكن لم تُعد يريفان التفكير في استراتيجيتها، حتى بعد امتناع روسيا عن التدخل في التوترات التي وقعت في 2016.
الفشل في تقدير التغير في سياسة تركيا، وتحليل تجاربها في ليبيا وسوريا
ثالثًا، فشل قادة أرمينيا في تحليل الروابط المتنامية بين دور القوقاز الجنوبية والشرق الأوسط، وبالأخص دور تركيا في المنطقة. منذ 2015، صعدت قوة قومية بالغة القوة داخل الدولة التركية، ووضعت معايير السياسة الخارجية التركية. والرئيس رجب طيب أردوغان، وهو إسلامي أكثر منه قومي، تم دفعه إلى توجهٍ أكثر قومية، أدى إلى مواجهة أنقرة لموسكو في سوريا وفي ليبيا.
وبالنسبة لأرمينيا، فإن حقيقة أن المسيرات التركية تفوقت على الدفاعات الجوية الروسية، على الأقل في حالة ليبيا، كان ينبغي أن تسبب الكثير من القلق والحذر.
بل أظهرت أطماعاً في أراضي تركيا
ورغم الكثير من العلامات المقلقة الواضحة، ومن بينها تصريح أردوغان في فبراير/شباط 2020 بأن قره باغ مهمة لتركيا بقدر ما هي مهمة لأذربيجان، فشل زعماء الأرمن بالكامل في توقع التحول في موقف تركيا من الصراع.
وفي حقيقة الأمر، بخطوات مثل تبني معاهدة سيفر هذا الصيف، سرع الأرمن من تحول الموقف التركي.
فقد أثارت تصريحات صادرة عن السلطات الأرمينية في المئوية الأولى لمعاهدة سيفر (10 أغسطس/آب 1920) غضب تركيا التي سارعت إلى وصف معاهدة سيفر بأنها أصبحت مرمية في مزابل التاريخ، وهذه المعاهدة التي انتهت بفضل حروب الاستقلال التركية، تمنح أرمينيا أجزاء من شرق تركيا.
ولم ينتبهوا لهذه التغييرات التي أحدثها علييف داخل البلاد
وأخيرًا، لم يفهم قادة الأرمن التحولات الداخلية الراهنة في أذربيجان. على مدار أعوام، كان إلهام علييف مقيداً بوجود حفنة من كبار رجال الأعمال حوله.
لكنه في الأعوام القليلة الماضية، عكف على تطهير واسع النطاق بهدف جعل الدولة أكثر كفاءة.
حرر علييف نفسه من قيود النظام الذي ورثه عن أبيه قبل 17 عاماً. ويبدو أن زعماء الأرمن لم يفهموا أن نهج علييف الواثق سيؤثر على أكثر مشاكل أذربيجان إلحاحاً، وهي الصراع على الأراضي الأذربيجانية واحتلالها من جانب الأرمن، مع أن علييف عبر مراراً عن سخطه على الوضع القائم.
لقد صدق قادة أرمينيا الدعاية التي يروجون لها
لماذا إذن ارتكب قادة الأرمن هذه الأخطاء الجسيمة في حساباتهم؟ تبرز عدة أسباب، من بينها أن العالم تغير سريعاً في الأعوام الماضية، وصار يتطلب مرونة وقدرات تحليلية معتبرة لمعالجة تبعات التفاعل بين العمليات الدولية والإقليمية.
ويبدو أن زعماء الأرمن اقتنعوا بالدعاية التي حاولوا الترويج لها. لكن هذا لا يكفي لتفسير الفشل المدوي، ولا يمكن تفسيره على نحوٍ كامل إلا بتحليل أعمق للسياسة الداخلية الأرمينية.
صار من الواضح الآن أن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان، الذي افتقر إلى الخبرات السياسية قبل وصوله إلى السلطة على رأس احتجاجات الشارع في 2018، فشل في فهم الوضع الجيوسياسي لبلاده في المنطقة.
لكنه تم إضعافه أيضاً على يد القيادة الأرمينية السابقة، التي انحازت إلى القيادة في قره باغ، وحافظت على علاقاتها الوطيدة بموسكو.
ولقد استفز ذلك أذربيجان
خلق هذا وضعاً غير مستقر، سعى فيه باشينيان إلى التفوق على خصومه عبر تبني موقف قومي متشدد من أجل تعزيز سلطته. لكن دعواته إلى توحيد البلاد كانت تستهدف قيادات قره باغ بصورة رئيسية على الأرجح، من أجل زيادة شعبيته بين الأرمن في تلك المنطقة. وإن كان ذلك صحيحاً، فقد استهان بأثر كلماته وخطاباته في باكو.
في الوقت الحالي، وقع الجانبان اتفاقاً لوقف إطلاق النار يثبت الانتصار العسكري الذي حققته أذربيجان، بينما يحافظ على بعض السيطرة الأرمينية على مناطق من ناغورنو قره باغ. والضرر طويل المدى الذي تسببت فيه حسابات أرمينيا الخاطئة واضح للعيان. جزء منه مادي، لكن الأهم هو الضرر المعنوي، فإحساس أرمينيا بالتفوق العسكري تحطم، وإحساسها بالعزلة تضخم. وصار من الواضح الآن أن أرمينيا لم تنعم بالأمن إلا إن توصلت إلى سلامٍ دائم.