لماذا يلجأ الناس في جنوب إيطاليا للمافيا خلال الموجة الثانية من الجائحة؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2020/10/29 الساعة 16:00 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/29 الساعة 16:00 بتوقيت غرينتش
إيطاليا تواجه خطر العنف بسبب إغلاقات كورونا/رويترز

يحمل باسكوال تيليسي رقماً قياسياً في "موسوعة غينيس للأرقام القياسية" لأطول قطعة بيتزا مقلية بطول 7.15 متر.

كان تيليسي يسافر في مختلف أنحاء البلاد، في أيام ما قبل جائحة كورونا، مصطحباً معه فرنه المحمول، ناشراً أسرار مطبخ نابولي التقليدي عبر شبه الجزيرة الإيطالية، ولكن اليوم تهدد الموجة الثانية من جائحة كورونا مطعمه العريق.

يقول تيليسي، إن هناك "صقوراً" تنقضُّ على مطاعم البيتزا التي على وشك الإفلاس، مستغلةً الأوضاع الحالية لشرائها بأثمان بخسة، وإن تحركاتهم تلك تُنذر بإهلاك أحد أقدم فنون الطهي في إيطاليا.

يأتي ذلك في وقت أدت فيه إجراءات الإغلاق الجديدة التي فُرضت يوم الإثنين 26 أكتوبر/تشرين الأول، والتي تضمنت إغلاق جميع المحال التجارية في الساعة الـ6 مساء وإغلاق المسارح ودور السينما والصالات الرياضية لمدة شهر، إلى توجيه ضربة أخرى للعاملين وأصحاب الأعمال التجارية الذين ما زالوا يعانون تداعيات أحد أقسى تدابير الإغلاق التي فُرضت في أوروبا، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.

المافيا والمجموعات الفاشية تتقدم جراء الموجة الثانية من جائحة كورونا

والآن، يحذِّر بعض المراقبين من أنه مع تزايد معدلات الفقر وانهيار التحالفات السياسية، فإن جماعات الجريمة المنظمة ومجموعات الفاشية الجديدة المتعصبة قد تحاول اغتنام الفرصة لملء أي فراغ مالي أو سياسي، وهو ما قد تستمر تداعياته وآثاره السلبية على المدى الطويل بدرجة تفوق آثار الوباء نفسه.

مع اندلاع الاضطرابات العامة في الشوارع احتجاجاً على إجراءات الإغلاق الجديدة التي أعلنت الحكومة عنها في نهاية الأسبوع، هاجم سياسيون من جميع الاتجاهات حكومة رئيس الوزراء جوزيبي كونتي. وتعهد زعيم حزب "الرابطة" اليميني، ماتيو سالفيني، بالطعن في الإجراءات الجديدة أمام المحكمة، في حين دعا رئيس الوزراء السابق والزعيم اليساري، ماتيو رينزي، رئيسَ الوزراء كونتي إلى إدخال تعديلات على المرسوم، وذلك رغم أنه صوَّت لصالح إصداره، بوصفه جزءاً من الائتلاف الحاكم.

لماذا ندفع ضرائب بينما توقَّفنا عن العمل؟

وفي حين سخِرت الصحف من الاصطفاف السياسي غير الوارد عادة بين قوى اليمين واليسار، لم يكن لدى أولئك الذين يعانون بالفعل لإنقاذ أعمالهم أسباب تدعوهم إلى الضحك.

يقول باسكوال تيليسي، الذي يشغل أيضاً رئاسة اتحاد Little Naples لأصحاب المطاعم الصغيرة في نابولي وهو أحد منظمي الاحتجاجات على إجراءات الإغلاق، إن إغلاق المطاعم في الساعة الـ6 مساءً وإلغاء وجبات العشاء بالخارج، يعنيان الحكم على بعض المطاعم بخسارة ما يصل إلى 90% من إيراداتها، وهذا في حين تظل الضرائب والتكاليف الثابتة الأخرى بلا مساس إلى حد كبير.

وعلى هذا النحو، اشتكى نحو 200 من أصحاب المطاعم الذين يمثلهم الاتحاد اضطرارهم إلى ضخِّ أموال في أعمالهم لتنفيذ تدابير السلامة والتباعد الاجتماعي داخل مقراتهم، ومع ذلك فهم يُجبرون الآن على الإغلاق مرة أخرى.

كثيرون يلجأون إلى المافيا

كل ذلك دفع كثيرين في جنوب البلاد، ممن هم في حاجة ماسة إلى المساعدة، إلى اللجوء إلى مجموعات المافيا، التي يُعرف عنها أنها تقدم الدعم المالي للأسر التي تعاني ضوائق مالية. وهو ما جعل وزيرة الداخلية الإيطالية، لوسيانا لامورجيزي، تحذّر من أن "المافيا يمكن أن تستغل الفقر المتزايد، وتُسارع إلى تجنيد مزيدٍ من الناس في تنظيماتها".

كما وفّرت الاحتجاجات السلمية ضد حظر التجول فرصةً للجماعات اليمينية ومجموعات الفاشية الجديدة لكي تؤجج التوترات الاجتماعية وتعمل على استغلالها.

في نابولي، أشعل المحتجون النيران في صناديق القمامة وألقوا مفرقعات على مقر الإدارة الإقليمية. وشهدت روما وتورينو وميلانو أيضاً مصادمات بين بضع مئات من المتظاهرين العنيفين الذين طالبوا بـ"الحرية" من "ديكتاتورية القيود الصحية" وشرطة مكافحة الشغب. 

أقارب مسجونين من المافيا يشتبكون مع الشرطة الإيطالية بسبب إغلاقات كورونا/رويترز

وتعرضت متاجر السلع الفاخرة، مثل متجر أزياء "غوتشي"، للنهب بوسط تورينو، وفي الوقت نفسه ألقى مثيرو الشغب في ميلانو زجاجات فارغة وأخرى حارقة؛ ما أدى إلى إصابة شرطي، وفقاً لوسائل إعلام محلية.

ردَّت فرق مكافحة الشغب بوابل من الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود. وأكدت الشرطة اعتقال متشددين من اليمين المتطرف واتهمتهم بأنهم المسؤولون عن معظم أعمال العنف تلك إلى حد كبير.

ومع ذلك، فإن الجوع ليس أمراً مجازياً في مدينة نابولي الواقعة على الساحل الجنوبي للبلاد، حيث اشتدت وطأة الفقر بالفعل لتصبح أكثر ترويعاً من جائحة كورونا ذاتها. وقد أنشأ الاتحاد الأوروبي صندوق تعافٍ اقتصادي بقيمة 750 مليار يورو، هذا الصيف؛ لتجنب كساد دائم في إيطاليا يمكن أن يهدد بتمزيق الاتحاد الأوروبي. 

ارتفاع كبير للديون

وتعاني إيطاليا، صاحبة ثالث أكبر اقتصاد بالاتحاد الأوروبي، ارتفاعاً في ديونها حتى باتت صاحبة ثاني أعلى ديون عامة بعد اليونان، وكل ذلك يُنذر بحدوث اضطرابات اجتماعية إذا عجزت الشركات عن تجاوز تلك الأزمة واضطرت إلى إقالة مزيد من العمال، وهو الخطر الذي يبدو محتملاً للغاية الآن، وفقاً للخبير الاقتصادي أندريا فوماغالي.

وقال فوماغالي، أستاذ الاقتصاد في جامعة بافيا، لصحيفة The Independent، إن إيطاليا تتمتع الآن بسيولة نقدية أفضل مما كان عليه الأمر خلال الموجة الأولى من الوباء، ومع ذلك فإن الأمر يتوقف على قدرة الحكومة على إيجاد طرق فعالة وعادلة لتوزيع المساعدات.

وأشار فوماغالي إلى أن "المشكلة لا تتعلق بنقص الأموال، بقدر ما تتعلق بميل الحكومة إلى مساعدة الشركات المتوسطة والكبيرة، بدلاً من العمال المستقلين أو ذوي الأعمال غير المستقرة".

كانت أزمة كورونا قد تسببت بالفعل في فقدان نصف مليون عامل إيطالي لوظائفهم، وذلك على الرغم من الإجراءات الحكومية التي عملت على تجميد تسريح العمال. وتشير التقديرات إلى أن إيطاليا، إلى جانب اليونان وإسبانيا، تمتلك الحصة الأكبر من الاقتصاد غير الرسمي في أوروبا، والذي يشمل أعداداً كبيرة من العمال الذين لا يحظون بعقود موثقة ولا ضمانات تأمين ورفاهية اجتماعية.

إلى ذلك، فمن شمال البلاد إلى جنوبها، يتزايد انعدام الثقة بإرادة الحكومة وقدرتها على تقديم مساعدة كافية، لتعويض الدخول المفقودة، وهو ما يؤكده أندريا بينزو أيلو، رئيس إحدى نقابات الأعمال في تريفيزو وأحد منظمي الاحتجاجات في منطقة فينيتو الشمالية.

وزاد على كل ذلك أن الصناديق المخصصة للعمالة الفائضة شهدت تأخيرات كبيرة في تسليم المساعدات للمستحقين، حيث لا يزال مئات الآلاف من العمال ينتظرون تلقي المساعدات المتأخرة.

وتقول صحيفة The Independent، إن الشعور السائد في جميع أنحاء إيطاليا الآن أن "الحكومة لا ينبغي لها أن تفرض تدابير جديدة على المواطنين، إذا كانت لا تستطيع تغطية نفقاتهم"، ويطالب كثيرون بتخفيضات ضريبية أو تعليق لها، وهو ما تلخصه إحدى اللافتات في روما، بالقول: "إذا لم يعد العمل حقاً نحصل عليه، فإنَّ دفع الضرائب لم يعد التزاماً تجب تأديته".

وفي هذا السياق، يقول المحامي أندريا بيساني، الذي يترأس إحدى نقابات المستهلكين في نابولي: "إن الخوف الأكبر هو اشتعال الفوضى"، ودعا بيساني الحكومة إلى "التحرك على نحو أسرع من المافيا" لدعم الشركات الصغيرة والعمال المستقلين المهددين بالوقوع في شباكهم.

لكن، وعلى الرغم من الانتقادات والاحتجاجات المنتشرة على مستوى البلاد، رفض كونتي التراجع عن قرار الإغلاق، وقال: "لا يمكننا مخادعة أنفسنا لاعتقاد أن الناس يمكنهم التنقل والذهاب إلى المطاعم دون خوف".

أولوية الحكومة لأصحاب الأعمال

وتعهد كونتي بتسريع ضخ 5 مليارات يورو من المساعدات إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها، لكن يبدو أن قلة من المتظاهرين هم من يميلون إلى أخذ كلمته بثقة.

ومع ذلك، فلا يبدو أن أي حزب سياسي أو بلد لديه الوصفة المثالية لاحتواء الوباء مع الإبقاء على الاقتصاد المنهك على قيد الحياة. وقد سجلت إيطاليا، يوم الثلاثاء 27 أكتوبر/تشرين الأول، رقماً قياسياً بلغ 21.994 حالة إصابة جديدة و221 حالة وفاة، وهو ما يزيد من شبح إعلان الإغلاق المحلي للمناطق المهددة أو حتى إغلاق شامل على مستوى البلاد.

أما رئيس الوزراء كونتي، فيبدو أن هدفه الرئيسي هو "استعادة السيطرة على المنحنى الوبائي"، وإن لم يكن ذلك هو الشيء الوحيد الذي على المحك، فقد أشار أيضاً إلى أن أحد الأمور التي يجب بذل الجهود لتأمينه على نحو عاجل هو "استقرار النظام الاجتماعي والاقتصادي برمته".

تحميل المزيد