"لا يمكن أن تتجاهل أمريكا قيمها لبيع الأسلحة أو شراء النفط"، جملة تحمل وعداً قاطعاً من جانب جو بايدن، المرشح الديمقراطي الذي يبدو أقرب للفوز بالبيت الأبيض، وكان ذلك في الذكرى الثانية لمقتل الصحفي جمال خاشقجي، فإلى أي مدى يمكنه أن ينفذ ذلك فعلاً؟
موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "لماذا ينبغي أن تركز سياسة بايدن في الشرق الأوسط على حقوق الإنسان"، تناول الصعوبات المتوقعة أمام بايدن -حال فوزه- في محاولة إجبار حلفاء واشنطن من المستبدين العرب على تحسين سجلهم البشع في مجال حقوق الإنسان.
تحالفات جديدة في القلب منها إسرائيل
في الذكرى الثانية لوفاة جمال خاشقجي على أيدي قتلة سعوديين، أعرب نائب الرئيس السابق جو بايدن عن شعوره بالقول: "سنعيد تقييم علاقتنا بالمملكة، وسننهي الدعم الأمريكي لحرب السعودية في اليمن، وسنحرص على ألا تتجاهل أمريكا قيمها لبيع الأسلحة أو شراء النفط". ولكن إذا فاز بايدن في الانتخابات فسيتعين عليه التعامل مع بعض الحقائق المزعجة، التي ستحول دون ترجمة هذه الكلمات الجريئة إلى سياسة على أرض الواقع.
وهذه الحقائق تشمل عناد الأنظمة الاستبدادية العربية، وخريطة استراتيجية للشرق الأوسط أدت إلى تشكيل تحالفات أقوى بين هذه الأنظمة وإسرائيل بالطبع، وفي ضوء هذه الخريطة، ما نوع الإصلاحات الممكنة التي قد تتبناها إدارة بايدن؟ ورغم أنه من المستبعد أن يملك الوسائل أو الإرادة لدفع الأنظمة الاستبدادية العربية الموالية للولايات المتحدة للتحول إلى الديمقراطية، فثمة ضرورة لإعطاء حقوق الإنسان مكان الصدارة في أي سياسة أمريكية شاملة في الشرق الأوسط.
تحديد المساعدة الديمقراطية المجدية
رغم القيود، ثمة مجال للتفكير الإبداعي في استراتيجيات من شأنها الدفع بتغيير سياسي ذي جدوى، لكن هذا سيتطلب دقة تحليلية أكبر مما أوحت به لغة بايدن الملهمة، وإن كانت غامضة، حتى الآن.
غير أن إمكانية تطبيق هذه الاستراتيجيات تتطلب شيئين: إعطاء الأنظمة -وأنصارها- حافزاً مقنعاً لتعزيز أو السماح بالإصلاحات السياسية، واستخدام النفوذ الأمريكي لدفع المستبدين العرب إلى التغيير. ولكن حتى الآن طرح بايدن وفريقه مجموعة من الأهداف والمصطلحات التي تحمل تفسيرات مختلفة قد تؤدي إلى ارتباك الأنظمة الاستبدادية العربية وقادتها الموالية للولايات المتحدة، إزاء ما تريده منها تحديداً.
والديمقراطية والقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان مشاريع مترابطة، ولكنها متمايزة في النهاية، فالأولى تتطلب شبكة معقدة من المؤسسات والقوانين والشروط الاجتماعية، ورغبة القادة المتنافسين في التفاوض. أما بخصوص القيم الديمقراطية فتظهر استطلاعات الرأي أن معظم مواطني الدول العربية يؤيدونها، ولكن حين يأتي الأمر إلى تطبيقها، فغالباً ما يكون الإجماع عليها محدوداً داخل المجتمع، فيما تتنامى قدرة النظام على استغلال مخاوف جمهوره للحفاظ على حكمه.
وبالتالي، فإن الاحتفاء بالقيم الديمقراطية ليس بالأمر الصعب، لكن تأسيس برامج وسياسات تمنح القادة ومؤيديهم حوافز مقنعة للمخاطرة، حتى ولو بإجراء تغييرات متواضعة في قواعد ومؤسسات الحكم الاستبدادي شيء آخر تماماً.
على النقيض من ذلك، مثلما يوضح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة، يحمل مصطلح "حقوق الإنسان" في طياته رسالة عالمية للحرية والكرامة الشخصية لا يمكن اختزالها في أي ثقافة أو دين، أو في نوع معين من الحكومات، وتُظهر دراسات استقصائية جديدة أنه عند تعريفها من حيث الحريات الأساسية أو الحماية من عنف الدولة غير القانوني، تنال حقوق الإنسان دعماً قوياً، ومثل هذا الفكر قد يمنح واشنطن الفرصة لإثارة القضية مع حلفائها العرب، وتوضيح أنه ينبغي عليهم القضاء على انتهاكات حقوق الإنسان، وأنهم بفعلهم ذلك سيتمكنون من توفير قدر ضئيل من الشرعية.
إعادة التركيز على حقوق الإنسان
يتعيّن على إدارة بايدن الجديدة تبنّي هذا النهج، وفي الواقع إذا أراد بايدن خلال عامه الأول أن يبرز دبلوماسية متجددة في الشرق الأوسط والمجتمع الدولي ككل فسيتعين عليه استضافة قمة عالمية لحقوق الإنسان، ومن شأن هذه القمة أن تبرز التزامه باستعادة القيادة الأمريكية تحت مظلة التعددية المتجددة.
وهذه الدعوة سيستمع لها القادة العرب ومناصروهم على نطاق واسع، وبالطبع معارضوهم المحاصرون، وستجد لها صدى لأن انتهاكات حقوق الإنسان أدت إلى تعطيل العديد من جوانب الحياة اليومية للمواطنين والنخب، ناهيك عن خطط الأنظمة العربية.
وقد راهن قادة مثل السيسي أو محمد بن سلمان على أن المجتمع الدولي سيتجاهل انتهاكاتهما إذا تمكنا من إحداث تقدم في تغييرات "غير سياسية" مثل إصلاحات السوق، لكن مناخ الخوف الذي أوجدته هذه الأنظمة -وعمّقته أزمة كوفيد 19- عطل مثل هذه الطموحات، والواقع أن الحجة القائلة إن فوائد الإصلاح الاقتصادي تفوق التكاليف "المؤسفة" لانتهاكات الحقوق هي حجة بغيضة للتسامح مع ممارسات لا يمكن تقبلها.
وتشمل هذه الممارسات اللجوء إلى قوانين "مكافحة الإرهاب" التعسفية والمحاكم والسجون لقمع المعارضين. ومن السهل بالطبع إدانة إيران عند ارتكابها مثل هذه الانتهاكات، لكن مهاجمة الموالين للولايات المتحدة لارتكابهم الانتهاكات نفسها أمر آخر تماماً، فمصر فيها نحو 60 ألف سجين سياسي، وهو عدد أكبر بكثير مما تضمه جمهورية إيران الإسلامية. وفي أوائل أكتوبر/تشرين الأول عام 2020، أُعدم 15 سجيناً سياسياً في سجن العقرب المصري. ومن جهتها، استخدمت السعودية السجون لإمراض منتقديها أو قتلهم، وهذه سياسات مؤسسية وتشكل جزءاً لا يتجزأ من نظام الحكم.
والحملة التي تشنها الحكومات الغربية وتقودها الولايات المتحدة لدفع القادة العرب للتوقف عن مثل هذه الانتهاكات لن تؤدي إلا إلى إحداث تأثير طفيف في هذا النظام، لكنها قد تنقذ أرواحاً وتمنع معاناة لا ضرورة لها. وفضلاً عن ذلك بإمكانها أن تعطي صوتاً للجهود المنفردة التي يبذلها قدامى المعارضين السياسيين، مثل المصري محمد أنور السادات الذي طُرد من البرلمان عام 2017، لمهاجمته انتهاكات النظام. وبإمكان القادة العرب الذين تجمعهم علاقات مع الائتلافات الحاكمة ولكنهم يفضلون الإصلاحات السياسية أن يوجهوا رسالة قوية، وتحديداً أن سياسات الخوف والترهيب والقمع تعمل على تآكل الرابطة بين الأنظمة وشعوبها.
مزايا وقيود استراتيجية حقوق الإنسان
ثمة قيود لمثل هذه الاستراتيجية، فعلاقات واشنطن مع القادة العرب تمنحها نفوذاً، لكن ضمن الحدود التي وضعها إصرار الأنظمة العربية على الاستمرار، غير أن مزيجاً من الدبلوماسية الثنائية الهادئة والجهود متعددة الأطراف الأعلى صوتاً قد يؤدي إلى إحراج منتهكي حقوق الإنسان وإزعاجهم بطرق قد تكون أكثر فاعلية بكثير من تهديدات الولايات المتحدة بفرض "المشروطية"، وبإمكان البيت الأبيض بقيادة بايدن أيضاً تلقي المساعدة من العديد من المنظمات غير الحكومية العربية لحقوق الإنسان، التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، مثل منظمة "الديمقراطية في العالم العربي الآن" DAWN، و"مبادرة الحرية"، التي تحاول دفع الكونغرس لتبني سياسة قائمة على الحقوق.
ومن شأن استراتيجية للتعامل مع حقوق الإنسان أيضاً إرسال إشارة قوية إلى القادة غير الليبراليين في الحكومات "الديمقراطية"، بأنهم لم يعد مرحباً بهم في البيت الأبيض، إذ أشاد فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، بترامب لمعارضته "الإمبريالية الأخلاقية" للديمقراطيين، ولكن لا يوجد ما هو إمبريالي في مناصرة القيم العالمية، ما دام أن إدارة بايدن تدافع عن حقوق الإنسان حتى وهي تسعى للحفاظ على مصالح أمريكا الأمنية والاستراتيجية-الجغرافية.