مَن المستفيد؟ قصة مقاطعة المنتجات التركية التي تنفيها السعودية رسمياً وتدعمها إعلامياً

عربي بوست
تم النشر: 2020/10/14 الساعة 13:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/15 الساعة 05:30 بتوقيت غرينتش
الصادرات التركية في السعودية ترتفتع/Getty Images

نفت الحكومة السعودية إصدار قرار رسمي بمقاطعة المنتجات التركية، لكن الحملة شبه الرسمية لتلك المقاطعة على الأرجح ليست تحركاً شعبياً، فما حقيقة القصة وأبعادها، ومن الخاسرون منها، وهل هناك مستفيد؟

نفي سعودي رسمي

دعونا نتناول القصة أولاً من جانبها الرسمي، فقد نقلت وكالة رويترز عن المكتب الإعلامي للحكومة السعودية أن "الحكومة لم تفرض أية قيود على المنتجات التركية، في إطار التزام المملكة بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية واتفاقية التجارة الحرة".

وأضاف نفس المصدر الرسمي لرويترز أن التجارة بين الرياض وأنقرة لم تشهد تراجعاً ملحوظاً إلا في سياق التداعيات العامة لجائحة كورونا، والتي انعكست على حركة التجارة بشكل عام حول العالم في الأشهر الأخيرة.

كما نقلت وكالة بلومبيرغ الأمريكية بياناً بنفس المعنى، أصدره مركز الحكومة السعودية للاتصالات الدولية يوم 3 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، نفى أن تكون الرياض قد فرضت أي قيود على استيراد المنتجات التركية.

ولي عهد السعودية محمد بن سلمان/ رويترز

فما حجم التجارة بين تركيا والسعودية حتى نقف على أبعاد القصة كاملة؟ تحتل السعودية المركز الخامس عشر في قائمة الدول المستوردة للبضائع التركية، وفي مقدمتها السجاد والمنسوجات والمواد الكيميائية والحبوب والأثاث والصلب، وبلغ حجم الصادرات التركية للرياض أقل قليلاً من 2 مليار دولار في الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري، بانخفاض 17% عن نفس الفترة من العام الماضي.

كيف بدأت القصة إذن؟

في ظل العلاقات المتوترة بين السعودية وتركيا، وأسباب هذا التوتر ليست خافية على أحد، فإن حملات مقاطعة المنتجات التركية "غير الرسمية" -إن جاز التعبير- ليست جديدة، ولا هي وليدة الأيام والأسابيع الماضية، ودعونا نسترجع قرار مجموعة MBC السعودية مقاطعة المسلسلات التركية في الأول من مارس/آذار عام 2018، وهو ما كبّدها خسائر مالية فادحة، وتراجعت نسبة مشاهدة قنواتها بصورة لافتة، لتتراجع عن القرار العام الماضي وتعيد بث المسلسلات التركية من خلال تطبيق شاهد.نت، وأيضاً عبر قناة MBC5 الموجهة للعراق، والتي أُطلقت العام الماضي.

لكن الحملة هذه المرة تخص مقاطعة "كل ما هو تركي في مجالات الاستيراد والاستثمار والسياحة"، حسبما أعلن عجلان العجلان، رئيس مجلس الغرف التجارية السعودية، في 29 سبتمبر/أيلول الماضي، وما تلا ذلك من حملات إعلامية موسعة ومنسقة، ما يجعل الأمر أقرب للصفة الرسمية منه للتحرك العفوي من جانب البعض.

رئيس مجلس الغرف التجارية عجلان العجلان

فبصفته رئيس مجلس الغرف (التجارية) السعودية، ورئيس مجلس إدارة غرفة الرياض، دعا العجلان عبر تغريدة في 3 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إلى مقاطعة تركيا في مجالات الاستيراد والاستثمار والسياحة، معتبراً المقاطعة مسؤولية كل سعودي، التاجر منهم أو المستهلك، بزعم استمرار عداء الحكومة التركية للقيادة والدولة والمواطنين السعوديين.

وهو اليوم نفسه الذي صدر فيه بيان النفي الرسمي، وفي ظل السيطرة المطلقة للحكومة السعودية والحاكم الفعلي للمملكة الأمير محمد بن سلمان على وسائل الإعلام وجميع مجالات الحياة، وسطوته المطلقة على الجميع داخل المملكة، يصبح من المستحيل تصور أن تصريحات العجلان والحملات والهاشتاغات الداعمة لتلك الدعوة للمقاطعة لا تحظى بدعم رسمي.

كيف انعكست التوترات السياسية على التبادل التجاري؟

الدوافع وراء تلك الحملة ليست خافية على أحد، فمنذ ظهور ولي العهد الحالي على الساحة السياسية في المملكة عام 2015، تظهر سجلات الميزان التجاري بين تركيا والسعودية ثباتاً أو تراجعاً عكس ما كانت عليه الأمور قبل ظهوره.

فالعلاقات السعودية التركية تشهد توترات على خلفية موقف أنقرة المساند لدولة قطر، في مواجهة قرار مقاطعتها من جانب السعودية والإمارات والبحرين ومصر، منذ يونيو/حزيران 2017، وزادت حدة هذه التوترات بعد اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية بإسطنبول، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، والموقف التركي الحازم المُطالب بمحاكمة المسؤولين عن اغتياله، وهم مجموعة من المقربين من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تُحمّله المخابرات الأمريكية المسؤولية المباشرة عن عملية الاغتيال.

ولي العهد السعودي وولي عهد أبوظبي/ رويترز

كما توجد العديد من بؤر الخلاف المتجذرة بين السعودية وحليفتها الإمارات من جهة وتركيا وقطر من جهة أخرى، بعد ثورات الربيع العربي، ودعم أنقرة والدوحة لهذه الثورات التي قادت الرياض وأبوظبي المؤامرات ضدها، وهو ما بات يُعرف باسم "الثورة المضادة"، في مواجهة حركة التغيير في الدول العربية عبر الثورات السلمية.

ويفيد موقع وزارة الخارجية التركية بأن حجم التبادل التجاري بين البلدين في 2015 بلغ نحو 5.59 مليار دولار، وانخفض في العام التالي إلى 5 مليارات، ثم 4.84 مليار في 2017، وبعدها 4.95 مليار في 2018، ثم ارتفع إلى 5.1 مليار دولار في 2019.

ويميل الميزان التجاري لصالح تركيا، وتفوقت الصادرات التركية بين 2015 و2017 على الواردات السعودية بحدود 1.3 مليار دولار، ثم تقلّص الفارق إلى 300 مليون دولار فقط عام 2018، في مؤشر على تراجع الصادرات التركية، في ذروة الخلافات السياسية بين البلدين، قبل أن يعود الارتفاع إلى مستواه الطبيعي عند 1.3 مليار دولار عام 2019.

ووفقاً لأحدث أرقام موقع وزارة التجارة التركية فإن الصادرات التركية إلى السعودية، بين يناير/كانون الثاني وأغسطس/آب من العام الجاري، بلغت 1.9 مليار دولار، بانخفاض 400 مليون دولار عن الفترة نفسها من العام الماضي، والتي بلغت فيها الصادرات التركية إلى السعودية 2.3 مليار دولار.

لذلك لا يُعتقد أن مقاطعة المنتجات التركية ستكون لها تداعيات مهمة على الاقتصاد التركي، مع وجود احتمالات تضرر شركات ومستثمرين ورجال أعمال أتراك يتخذون من السوق السعودي أولوية لنشاطاتهم التجارية.

لصالح مَن تلك الدعوات للمقاطعة؟

بحسب تقرير لوكالة الأناضول، يعتقد مراقبون بوجود صلة بين الحملة السعودية شبه الرسمية لمقاطعة المنتجات التركية وبين احتمالات دخول بضائع إسرائيلية إلى السوق السعودية عن طريق البحرين والإمارات، ويستدل هؤلاء على ذلك بالتقارب "غير الرسمي" وغير المباشر بين السعودية وإسرائيل، بعد أن وقعت الإمارات والبحرين، الحليفتان الأكثر قرباً للمملكة، اتفاقيتين في واشنطن منتصف سبتمبر/أيلول الماضي، لتطبيع علاقاتهما مع إسرائيل.

كما يستدلون بانتقاد الأمير بندر بن سلطان، سفير السعودية الأسبق في واشنطن، للقيادات الفلسطينية مؤخراً، واتهامه لها بتضييع الفرص على الشعب الفلسطيني، وهو ما يراه مراقبون تهيئة للأجواء في الشارع السعودي لفجوة أوسع مع الفلسطينيين وقبول أكبر للإسرائيليين.

التعاون الاستخباراتي بين السعودية وإسرائيل وصل إلى مرحلة متقدمة

ومن هذا المنطلق، تُمارس الجهات السعودية المسؤولة عن القطاع التجاري ضغوطاً على التجار والشركات السعودية، للتضييق عليهم وإرغامهم على وقف التعاملات التجارية مع تركيا.

وقد كشف بيان مشترك لرؤساء أكبر 8 مجموعات أعمال تركية تلقيهم شكاوى من شركات سعودية، بإجبارها من جانب الحكومة السعودية على توقيع خطابات تُلزمها بعدم استيراد بضائع من تركيا، كما شكت المجموعات التركية من استبعاد المتعهدين الأتراك من الصفقات الرئيسية السعودية.

وتضم المجموعات الموقعة على البيان المشترك شركات تصدير منسوجات ومقاولين ورجال أعمال بارزين ومسؤولي نقابات عمالية ومكتب العلاقات الاقتصادية الخارجية وجمعية المصدرين واتحاد غرف وبورصات السلع.

وقال رئيس لجنة العلاقات الاقتصادية الخارجية التركية، نائل أولوباك، في تصريح صحفي يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إنه تلقى معلومات من أعضاء اللجنة بمقاطعة السعودية للمنتجات التركية، اعتباراً من الأول من الشهر الجاري.

وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها المملكة بسبب انخفاض أسعار النفط وتداعيات جائحة كورونا، وهو ما أدى لاتخاذ قرارات تقشفية غير مسبوقة يعاني منها المواطن السعودي، تأتي هذه الحملة لمقاطعة المنتجات التركية التي تغطي مساحة مهمة من سوق الاستهلاك اليومي للمواطن السعودي، بأسعار أقل وجودة أعلى، مقارنة بمثيلاتها من دول أخرى، لتضيف مزيداً من الأعباء الإضافية على المستهلك السعودي.

وهذا الأمر يبدو واضحاً من خلال قراءة اتجاهات الرأي في مواقع التواصل، حيث الرفض لمقاطعة المنتجات التركية لا تخطئه العين، فالبديل المحتمل هو الاستيراد عبر ميناء "جبل علي" في الإمارات، وهو ما يلاقي انتقادات واسعة في الأوساط السعودية، التي ترى أن معظم ما يُستورد من هناك هي بضائع مغشوشة، خاصة الدخان والمنتجات الغذائية وغيرهما.

وعلى كل الأحوال، ليس من المتوقع أن تتخذ الحكومة السعودية قراراً رسمياً بحظر استيراد المنتجات التركية ومنع التعامل مع الشركات والمستثمرين الأتراك، بسبب الاتفاقيات الدولية واتفاقية التجارة الحرة، وهو ما عبَّر عنه الموقف الرسمي حتى الآن.

تحميل المزيد