انتشرت في الساعات الأخيرة رواية قيام وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل بإغلاق الهاتف في وجه نظيرته الأمريكية، بسبب طلب الأخيرة منه عدم إرسال قوات سعودية إلى البحرين عام 2011، فما حقيقة تلك الرواية؟
رفع السرية عن رسائل وزيرة الخارجية
القصة التي انتشرت انتشار النار في الهشيم في الإعلام العربي، وتحديداً السعودي والمصري والإماراتي، بدأت شرارتها في واشنطن يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عندما غرّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عبر تويتر قائلاً: "لقد أذنت برفع السرية تماماً عن جميع الوثائق المتعلقة بأكبر جريمة سياسية في التاريخ الأمريكي، خدعة روسيا. وبالمثل، فضيحة البريد الإلكتروني الخاص بهيلاري كلينتون. لا تنقيح!".
وبالفعل قامت وزارة الخارجية الأمريكية بتنفيذ قرار ترامب، ونشرت على موقعها الرسمي آلاف الرسائل الإلكترونية بين هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية أمريكا في إدارة الرئيس باراك أوباما، والتي كانت تتم من خلال خادم خاص لرسائل البريد الإلكتروني الحكومية.
قرار ترامب الذي نفذه وزير الخارجية مايك بومبيو أثار عاصفةً من الانتقادات في الساحة السياسية الأمريكية المنهمكة حالياً في الانتخابات الرئاسية المقررة في 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أي بعد أقل من ثلاثة أسابيع، والسبب هنا أن ترامب أقدم على تلك الخطوة على أمل تشتيت الأنظار عن جائحة كورونا التي تتركز حولها الانتخابات، عن طريق توفير مادة إعلامية تتصدرها الإدارة الديمقراطية السابقة، في محاولة لتجسير الهوة بينه وبين منافسه الديمقراطي جو بايدن، الذي تُظهر استطلاعات الرأي تقدمه الواضح على ترامب.
رواية بلا مصدر من الأصل
في البداية لا بد من توضيح أن تسريب أكثر من 33 ألف بريد إلكتروني من ذلك الخادم الخاص الذي كانت تستخدمه هيلاري كلينتون في تلك الفترة التي تعود إلى أكثر من عشر سنوات مضت، قد حدث بالفعل عام 2016، أثناء ترشحها للرئاسة في مواجهة ترامب، وهي الحادثة التي خضعت لتحقيقات المكتب الفيدرالي الأمريكي، واتهمت روسيا بالوقوف وراء ذلك التسريب وقتها، ولا تزال تفاصيل القصة ومدى التورط الروسي فيها ودور روسيا في وصول ترامب للبيت الأبيض نقاشاً مفتوحاً رغم انتهاء التحقيقات.
النقطة الأخرى التي تهمنا هنا هي ما كشفته المراسلات التي رفع عنها ترامب السرية ونشرتها وزارة الخارجية بالفعل على موقعها، وهي متاحة منذ خمسة أيام الآن، ويمكن البحث من خلال الموقع في تلك المراسلات والمستندات، وهذا هو المصدر المفترض لتلك الواقعة التي روجت لها وسائل إعلام سعودية وإماراتية ومصرية، والمقصود هنا هو إغلاق الراحل سعود الفيصل الهاتف في وجه هيلاري كلينتون.
ولا توجد أي إشارة من بعيد أو من قريب لواقعة بتلك الحدة بين رأسي الدبلوماسية في الولايات المتحدة وحليفتها السعودية في رسائل البريد الإلكتروني المنشورة، وهو ما يطرح سؤالاً بشأن مصداقية الرواية التي يتم الترويج لها ومصدرها من الأساس.
ولنتوقف عند أحد هذه العناوين: "رسائل هيلاري.. لماذا أغلق سعود الفيصل الهاتف في وجه كلينتون؟" وهو من موقع العين الإخباري الإماراتي، لنجد متن الخبر خالياً من ذلك المصدر الذي استقى منه الموقع خبره الرنان، والسياق الذي جاء خلاله، وهو "مواقف قوية للمملكة العربية السعودية وقادتها وشعبها وتحديها لواشنطن دعماً لأشقائها"، رغم أن نفس الخبر نشر مقتطفات مما زعم أنها مراسلات كلينتون التي تم الكشف عنها مؤخراً.
السياق نفسه متكرر في جميع الأخبار التي تحمل نفس الفكرة باختلاف الصياغات "أغلق سعود الفيصل الهاتف في وجه هيلاري كلينتون"، وإن كانت صحيفة عكاظ السعودية أضافت مزيداً من البهارات للعنوان "إيميلات هيلاري تفضح المتآمرين والفيصل أغلق الهاتف في وجهها"، وجاء في أسفل التقرير عبارة "وأكدت الرسائل المسربة حادثة إغلاق وزير الخارجية السعودي السابق الراحل الأمير سعود الفيصل الهاتف في وجه كلينتون، بعد طلبها من الرياض عدم إرسال قوات سعودية إلى البحرين عام 2011″، دون أي دليل من تلك الرسائل التي زعمت الصحيفة أنها "أكدت" حادثة إغلاق الهاتف في وجه وزيرة خارجية أمريكا وقتها.
ماذا تكشف تلك الرسائل عن شخصية هيلاري؟
من يبحث في تلك الرسائل من مصدرها على موقع وزارة الخارجية الأمريكية وليس من التقارير المفبركة لأغراض خاصة، يمكنه بسهولة أن يلاحظ مدى انتباه هيلاري كلينتون للتفاصيل الصغيرة، ففي إحدى رسائل البريد وصلتها افتتاحية لصحيفة واشنطن بوست تغطي حدثاً شاركت فيه، وردّت وزيرة الخارجية بملاحظات منها أنها تحدثت بالفعل مع أحد الحاضرين "لكن لا أعتقد أن ذلك استغرق 90 دقيقة"، وأضافت ملاحظة "هذا ما لاحظته سريعاً. أرجو المراجعة الدقيقة".
رسائل أخرى كثيرة تكشف مدى قوة شخصية هيلاري كلينتون وانتباهها لأدق التفاصيل، ما يجعل من عدم ورود أي إشارة في تلك المراسلات لقيام وزير خارجية السعودية بإغلاق الهاتف في وجهها أمراً يصعب تصديقه من الأساس.
والمفترض طبقاً لسير الأحداث وقتها أن السياق هو الانتفاضة الشعبية في البحرين ضمن ثورات الربيع العربي مطلع عام 2011، وإرسال السعودية والإمارات قوات إلى المنامة لمساندة ملك البحرين، وهو ما كانت تعارضه بالفعل الإدارة الأمريكية وقتها لأسباب تتلخص بالأساس في قمع المتظاهرين السلميين بالقوة، وحقوق الإنسان بشكل عام، وهو موقف تتبنّاه السياسة الخارجية الأمريكية والغربية بشكل عام، بغض النظر عن جدية تطبيقه واختلاف ذلك من حالة لأخرى.
قصة قديمة قُتلت بحثاً
اللافت هنا أن دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين عام 2011، وما صاحب ذلك من تباين في المواقف بين واشنطن وحلفائها من دول الخليج هو قصة قديمة قتلت بحثاً، وذكرتها هيلاري كلينتون في كتابها "اختيارات صعبة" (Hard Choices) المنشور عام 2014، وبررت الموقف الأمريكي وقتها بالتغاضي عن التدخل العسكري الذي كانت ترفضه في البداية "بالخيار الصعب"، أو بمعنى أكثر وضوحاً حسابات المصلحة الأمريكية التي تتقدم دائماً على أي حسابات أخلاقية أو إنسانية يمكن أن يتحدث عنها المسؤولون الأمريكيون في أوقات بعيدة عن الأزمات.
وهنا يمكن التوقف عند سلسلة من مراسلات البريد الإلكتروني، يوم 19 فبراير/شباط عام 2011، موضوعها "مكالمة سعود" بين هيلاري ومساعديها هوما عابدين وجيفري فيلتمان، في أحدها تقول هيلاري لعابدين "يمكنني محادثة بان (كي مون) اليوم بين الساعة 6 والساعة 7 أو غداً بعد مكالمة فراتيني. أجلي سعود وجدولي مكالمة مع المعلم. (هل لديك ملف للمكالمة؟)".
بان كي مون هو الأمين العام للأمم المتحدة وقتها، وفراتيني هو وزير خارجية إيطاليا وقتها، والمعلم هو وليد المعلم، وزير خارجية سوريا وقتها، وسعود المقصود به سعود الفيصل، وطلبت كلينتون تأجيل مكالمة وزير الخارجية لأسباب غير واضحة في المراسلات.
وبالعودة إلى اليوم التالي لتلك السلسة من الإيميلات، نجد أن وسائل الإعلام وقتها ومنها وكالة رويترز نشرت خبراً عن اتصال بين كلينتون وسعود الفيصل، بشأن الموقف في البحرين، اتفقا خلاله على تشجيع حكومة البحرين على إجراء حوار مع معارضيها، وأن الوزيرة الأمريكية رحبت بالموقف السعودي المساند للخطوة التي أعلن عنها ولي عهد البحرين، بالاستماع لجميع المواطنين وتلبية مطالبهم مع الحفاظ على استقرار البلاد.
والسؤال الآن بشأن "رواية إغلاق سعود الفيصل الهاتف في وجه هيلاري كلينتون" موجه إلى أصحاب تلك الرواية، فربما يكون لديهم دليل على حدوثها لم يُفصحوا عنه بعد، وبالطبع لا يوجد للرواية أي أساس في وسائل الإعلام الأمريكية حتى الآن، رغم أنها تمثل لترامب ذخيرة جيدة للهجوم على الديمقراطيين وتصويرهم كضعفاء وأنهم يقبلون الإهانة من السعودية، على العكس منه تماماً.