"كنا في قمة السعادة حين عرفنا أننا ذاهبون إلى بريطانيا، لكننا نشعر الآن بأنها نهاية العالم". هكذا قال باسل، ذو الـ35 عاماً، من الغرفة التي يعيش بها مع زوجته وأبنائه الثلاثة في لبنان. وواصل الوالد السوري لثلاثة أبناء قائلاً لصحيفة The Independent البريطانية: "إنما نريد بدء حياتنا".
هرب باسل من وطنه برفقة زوجته، عاطفة، في 2011 بعد مقتل ابنتهما الرضيعة بعمر تسعة أشهر من جراء قنبلةٍ أُسقطت على منزلهم. وقرر الزوجان المنهاران أن عليهما الرحيل.
فتوجَّها إلى لبنان وبدآ يبنيان حياةً جديدةً هناك. ولم يكن العثور على عملٍ وسكنٍ بالأمر الهيِّن، فاضطُرا إلى التنقل بين البيوت والوظائف مراراً وتكراراً. ومع ذلك فقد أسَّس الزوجان أسرةً، في محاولةٍ لأن يحظيا بالحياة الأسرية التي قتلتها الحرب، فأنجبا ثلاثة أبناء هم الآن في سنِّ السادسة والخامسة والواحدة.
وظلت الحياة صعبةً، لا سيما بسبب التمييز الذي واجهوه بصفتهم لاجئين في بلدٍ استقبل عدداً غفيراً من اللاجئين بفعل الحرب. واكتنفت السعادة أفراد الأسرة حين قيل لهم في مايو/أيار 2019 إن الاختيار قد وقع عليهم لإعادة التوطين في بريطانيا.
لكن السعادة هذه انقلبت إلى جحيم
لكن بعد قرابة العام والنصف، ما زالوا ينتظرون. وتُعد الأسرة واحدةً من مئات الأسر الذين كان من المقرر نقلهم إلى بريطانيا وفقاً لبرنامج إعادة التوطين البريطاني في مارس/آذار، ولكن أُلغيت رحلاتهم الجوية بعد تعطيل البرنامج مؤقتاً بسبب فيروس كورونا.
وقد توقعوا أن يُؤجَّل سفرهم بضعة أشهرٍ فقط، لكن بعد ما يزيد عن عامٍ ونصفٍ ما زال البرنامج مغلقاً، وهو الوسيلة الوحيدة الآمنة والقانونية لدخول بريطانيا بالنسبة إلى معظم اللاجئين. ومن ثمَّ لم تجرِ إعادة توطين أي لاجئين في بريطانيا بموجب البرنامج منذ 12 مارس/آذار الماضي.
وقد نمى إلى علم صحيفة The Independent البريطانية أنه حينما عُطِّلت إعادة التوطين في مارس/آذار، كانت هناك مخططاتٌ لنقل أكثر من 600 لاجئٍ، ولكنهم مُنعوا من ذلك، مما عنى بقاءهم في دولٍ مضيفةٍ فاقمت فيها أوضاع الجائحة من ظروف المعيشة الرديئة بالفعل. ومما زاد الطين بلةً أن الكثير منهم كانوا قد باعوا ممتلكاتٍ لهم بالفعل وتركوا وظائفهم استعداداً للرحيل إلى بريطانيا، ولم يبقَ لهم الآن إلا أقل القليل.
يقول باسل، الذي كان عامل بناء: "الوضع المالي شديد الصعوبة الآن. لقد بعنا كل شيء. أخطرنا صاحب العقار برحيلنا، لذا اضطُررنا للانتقال إلى شقةٍ ضئيلةٍ نتشارك جميعاً غرفةً واحدةً بها". وأضاف أن ابنه الأصغر مصابٌ بمرضٍ ولا يستطيعون الحصول على علاجٍ له، مستطرداً: "الحياة غير مستقرةٍ هكذا. كانت حياتنا طيبةً في سوريا. كانت جنةً مقارنةً بالجحيم الذي نعيش فيه حالياً".
اتهامات للحكومة البريطانية
وقد استأنفت دولٌ متقدمةٌ أخرى مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا برامجهم لإعادة توطين اللاجئين بعد تعطيلها إبان فترة الحجر الصحي. ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، فقد بدأ ما لا يقل عن 11 من دول إعادة التوطين الـ23 استقبال اللاجئين من جديد. وقد أُعيد توطين 4543 لاجئاً في دولٍ أخرى، فيما بين مارس/آذار وأغسطس/آب من هذا العام.
وقد اتهم النقاد الحكومة البريطانية بتفضيل سفر الإجازات ورحلات الترحيل الجوية على اللاجئين، وحذَّروا من أن ارتفاع وقائع العبور إلى حدود الدولة على متن قوارب صغيرةٍ قد يكون ناتجاً عن انعدام السبل الآمنة لدخول بريطانيا. إذ خاض ما يقرب من 7 آلاف شخصٍ تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر من شمالي فرنسا حتى الآن في عام 2020.
ومن اللاجئين السوريين الآخرين في لبنان الذين كان من المقرر ذهابهم إلى بريطانيا نسيم، ذو الـ39 عاماً، الذي يعاني هو الآخر مع زوجته سيلينا للتعامل مع آثار هذا التأجيل. غادر الزوجان سوريا معاً في 2011، وكان من المقرر سفرهما إلى بريطانيا، يوم 19 مارس/آذار، لإعادة توطينهما في مدينة دندي الاسكتلندية، لكنهما أُخطرا قبل موعد الرحلة بأيامٍ بالعجز عن نقلهما بداعي تعطيل البرنامج.
وفي تلك المرحلة، كانا قد وقعا بالفعل بياناً للسلطات يوافقان بموجبه على التخلي عن حقهما بالبقاء في لبنان بدءاً من 20 مارس/آذار، أي أنهما قد يُجبران على الرجوع إلى سوريا في حال اكتشاف السلطات أنهما ما زالا مقيمَين في لبنان، وفقاً لنسيم. والآن لا يغادران شقتهما الصغيرة إلا نادراً.
فخ قد يقودهم للترحيل إلى سوريا
ويقول نسيم، النجار الذي كان يأمل في مزاولة مهنته في بريطانيا: "إذا قُبض علينا في لبنان، فسنُرحَّل إلى سوريا. قيل لنا أيضاً أن نعزل نفسينا قبل المجيء إلى بريطانيا، لذا نحاول الانعزال منذ أشهر، جاهلين بموعد رحلتنا".
وتابع موضحاً أن حياتيهما قد ازدادتا سوءاً منذ الانفجار الذي حدث في بيروت شهر أغسطس/آب الفائت، إذ تأثر إنتاج الغذاء وتوافر العلاج بالحادثة المأساوية. إذ يقول: "صار الوضع شديد الصعوبة. ارتفع ضغط دمي ولا أستطيع الحصول على العلاج الذي أحتاج إليه. أعيش من دونه. كنا سعيدين جداً حين عرفنا أننا ذاهبان إلى بريطانيا، لكننا نفضِّل الموت على اضطرارنا إلى الانتظار هكذا".
وتشاطره مخاوفَه زوجتُه سيلينا صاحبة الـ36 عاماً، المدربة على تصميم الغرافيك، إذ قالت: "تلاشى حلمنا. نحن لا نترك بيتنا. هذا يقتلنا. لا مقارنة بين حياتنا في سوريا قبل الحرب وحياتنا الآن. نحن نموت ببطءٍ هنا".
وقد علَّقت لويز كالفي، مسؤولة إعادة التوطين بمنظمة Refugee Action الخيرية، موضحةً أن تأجيل استئناف رحلات إعادة التوطين له "آثار شنيعة" في الأفراد الذين كان من المفترض أن يصلوا آمنين إلى بريطانيا، في مارس/آذار المنصرم، بدلاً من إرغامهم على العيش في "خطرٍ محدقٍ من الاحتجاز والترحيل إلى سوريا دون ذنبٍ منهم".
وأضافت: "لقد تعهدت وزيرة الداخلية هذا الأسبوع بإنشاء نظام لجوءٍ عادلٍ ورحيمٍ، بما يتضمن مزيداً من السبل الآمنة والشرعية لوصول الناس إلى بر الأمان. وعليها الوفاء بوعودها والاستئناف الفوري لبرامج إعادة التوطين البريطانية، التي لم تدعم لاجئاً واحداً منذ مارس/آذار".
ويعيش علي، ذو الـ32 عاماً، حالياً مع زوجته وأبنائه الثلاثة -في السادسة والخامسة والواحدة من أعمارهم- في شقةٍ صغيرةٍ غير مفروشةٍ ولا مجهزة بعد أن أنهت العائلة عقد إيجارهم في مارس/آذار الماضي، اعتقاداً باقتراب رحيلهم من البلاد وبدئهم حياةً جديدةً في بريطانيا. وقد اضطُروا إلى التنقل بين عدة بيوتٍ خلال الأشهر السبعة الماضية.
ويقول علي، الحدَّاد السابق: "إنه أسوأ كابوسٍ على أي أبٍ. نحن بلا مسكنٍ ولا عملٍ ولا مالٍ، لا نملك إلا حقائب سفرٍ تحوي بعض الملابس. اضطُررنا إلى استئجار هذه الغرفة، لكنها غير صالحةٍ لإقامة البشر".
وتابع: "أشعر بحزنٍ وأسىً وقلة حيلةٍ شديدةٍ من عجزي عن توفير حياة لائقة وملائمة لأبنائي. يمكنك أن ترى الحزن في أعينهم حين يتذكَّرون كيف كانت حياتهم وكيف يعيشون الآن".
ويقول والد الأبناء الثلاثة إن العائلة كانت "في قمة السعادة" حين عرفوا أن الاختيار قد وقع عليهم للذهاب إلى بريطانيا، إذ إن ابنه مصابٌ بالتوحُّد وكان يأمل في إيجاد فهمٍ جماعيٍّ أفضل لهذا المرض في بريطانيا، وقد أُبلغوا بأنهم سيعيشون في كامبريدج.
ويوضح: "كنت أتطلع للعثور على عمل، وإعالة أسرتي، وللأمان في المقام الأول. لكن معاناتنا تزيد الآن كل يوم، نشعر بأننا تلقينا وعوداً، لكن لا أحد يعتني بنا".
أزمة متفاقمة
ومن جانبه، صرَّح ماثيو سالتمارش، المتحدث باسم UNHCR، بأن المنظمة تطمح في استئناف إعادة التوطين إلى بريطانيا "قريباً جداً"، مستأنفاً حديثه: "لقد أوجدت الجائحة صعوباتٍ ومجاهيل جديدةً وحادةً على اللاجئين. وقد فقد كثيرٌ من الموظفين وظائفهم، بالأخص في مجال العمالة العارضة".
واستطرد قائلاً: "ازدادت صعوبة الحصول على الخدمات في دول اللجوء منذ قرار شركائهم الداعمين بالتحوُّل إلى العمل عن بعدٍ. الوضع مقلقٌ على وجه الخصوص للَّاجئين الذين أجروا استعداداتٍ بالفعل للرحيل لإعادة التوطين والمعطَّلة رحلاتهم، في غياب أي توضيحٍ للموعد المتوقع لرحيلهم".
هذا وقد أفاد متحدث باسم وزارة الداخلية البريطانية أنه على "اتصال دوري" بمنظمة الهجرة الدولية وUNHCR لضمان حصول المقبولين لإعادة التوطين في بريطانيا على أي دعمٍ إضافيٍّ قد يحتاجون إليه.
وأضاف: "لطالما وفرت بريطانيا ملجأً للفارِّين من الملاحقة القضائية أو الاضطهاد أو الطغيان، وكانت وزارة الداخلية واضحةً بخصوص تقديم بريطانيا نظام لجوءٍ جديداً يرحِّب بالناس عبر سبلٍ آمنةٍ وشرعيةٍ".
ومن المنتظرين الآخرين لنقله إلى بريطانيا برفقة أسرته مهند، صاحب الـ36 عاماً، الذي يقول إنه غادر سوريا مع زوجته في 2014 بعد أن اعتقلته السلطات أربع مراتٍ وأجبرته على العمل لحساب الجيش. وكان من المقرر أن يبدأوا حياةً جديدةً في إدنبره.
ومثله مثل نسيم، كان مهند قد وقع وثيقةً تقول إنه سيغادر لبنان، والآن يخشى القبض عليه كلما خرج من باب بيته. ويعاني أيضاً لإطعام أسرته إذ إنه قد استقال من وظيفته منذ تسعة أشهر. ويقول: "نحتفظ بأملنا فقط، منتظرين اتصالاً هاتفياً. لا نمانع البقاء في حجر صحي، يمكننا فعل ذلك أسبوعين أو ثلاثة، المهم أن ننتقل بأسرع ما يمكن".
وواصل: "الدول الأخرى التي اختارت أشخاصاً للسفر إليها، مثل فرنسا، قد أرسلت طائرةً لنقل أولئك الأُسَر. لقد بعنا كل شيءٍ وننتظر الانتقال فحسب".