مع انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بأزماتها الداخلية وانسحابها من الدور الذي لعبته كقوة عظمى في العالم منذ وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض، أصبح السؤال الآن مَن الدولة التي تمتلك النفوذ الكافي لوقف الاشتباكات المشتعلة بين أرمينيا وأذربيجان مهددة بالتحول إلى حرب مفتوحة وشاملة؟ والأهم لماذا لم تتدخل تلك الدولة حتى الآن؟
لماذا روسيا تحديداً؟
الحديث هنا عن روسيا؛ فكل من أذربيجان وأرمينيا كانت ضمن جمهوريات الاتحاد السوفييتي مما يجعل لموسكو تأثيراً ونفوذاً لدى الجانبين وإن كان الدعم السوفييتي لأرمينيا والذي ورثته روسيا وقواه وصول فلاديمير بوتين للسلطة يجعل عدم تدخل موسكو لوقف النزاع حتى الآن مثاراً للتساؤلات بشأن دوافع ذلك التراجع أو الانتظار.
والنزاع بين أرمينيا وأذربيجان تعود جذوره إلى ما قبل تأسيس الاتحاد السوفييتي نفسه وسببه إقليم ناغورنو قره باغ الأذربيجاني والذي تحتله أرمينيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى أراضي أذربيجانية أخرى تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 20% من أراضي الجمهورية ذات الأغلبية المسلمة.
وأثناء تفكك الاتحاد السوفييتي استغل الجانب الأرميني الموقف وشن هجمات عسكرية مدعوماً بجنرالات الجيش السوفييتي واحتل الإقليم الأذربيجاني ومناطق أخرى وفي عام 1992 تدخل مجلس الأمن الدولي وأصدر أربعة قرارات تطالب جميعها أرمينيا بالانسحاب من أراضي أذربيجان التي تحتلها، وتم تشكيل مجموعة منسك من ثلاث دول هي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا للعمل على حل دبلوماسي ينهي النزاع.
وعلى مدى ثلاثة عقود تقريباً، رفضت أرمينيا الانسحاب وأصبحت منطقة وقف إطلاق النار بين الجانبين من أكثر مناطق العالم سخونة وتسليحاً في ظل قرب نقاط التماس في الجانبين من بعضهما، وتتجدد الاشتباكات المسلحة المحدودة بين الجانبين بصورة متكررة، وسرعان ما تتدخل واشنطن وموسكو بالأساس بالضغط على الجانبين ويعود الهدوء المتوتر.
وبنظرة خاطفة على خريطة العالم يظهر أصل المشكلة بشكل واضح؛ فالأراضي التي تحتلها أرمينيا تقع داخل حدود أذربيجان بصورة لا تخطئها العين وتمثل نقطة الشذوذ الأبرز في تلك الخريطة، وبالتالي فإن إصرار أذربيجان على تحرير أراضيها المحتلة مسألة بديهية، وقد عبّر عن ذلك رئيسها إلهام علييف أثناء الاشتباكات الحالية بقوله إن الحل الوحيد هو الانسحاب الأرمني من الأراضي المحتلة وليس فقط ناغورنو قره باغ.
لماذا لم تتدخل روسيا حتى الآن؟
وقد نشرت شبكة CNN الأمريكية تقريراً بعنوان "روسيا الدولة الوحيدة القادرة على وقف الصراع الأرمني-الأذربيجاني، فهل تتدخل وتفعلها؟"، تناول الموقف الروسي الحالي من الأزمة ودوافعه والقيود التي وجد نفسه محاطاً بها.
ولابد هنا من التوقف قليلاً عند خصوصية الاشتباكات الدائرة حالياً من الناحية العسكرية، حيث يبدو واضحاً أن أذربيجان في موقف قوي وتمكنت بالفعل من تحرير بعض القرى والمدن، وتتهم أرمينيا تركيا بأنها تدعم أذربيجان لكن أنقرة أصلاً لم تنكر وقوفها بجانب أذربيجان وأعلنت على لسان جميع مسؤوليها خصوصاً الرئيس رجب طيب أردوغان أنها تدعم أذربيجان التي تناضل من أجل تحرير أراضيها.
وفي ظل خسارة أرمينيا في ناغورنو قره باغ والمناطق التي تحتلها، بدأت في قصف مدن أذربيجانية خارج المنطقة المحتلة وأوقعت خسائر كبيرة بين المدنيين، بحسب المسؤولين في أذربيجان، وهو ما يهدد باتساع نطاق الاشتباكات وتحولها لحرب شاملة، كل ذلك وسط صمت مطبق من جانب روسيا أثار التساؤلات.
فروسيا هي القوة الإقليمية النافذة في تلك المنطقة ولها حدود مشتركة مع أذربيجان ويربطها تحالف أمني رسمي مع أرمينيا، ورغم مطالبة موسكو بوقف إطلاق النار من خلال القنوات الدبلوماسية، فإن عدم تدخلها بشكل فعال كما اعتادت في صراع مشتعل في باحتها الخلفية أصبح أمراً يستحق التوقف عنده، مع دخول الاشتباكات مرحلة أكثر تطوراً.
وبحسب مراقبين، فإن تقارير إقدام أرمينيا على توسيع نطاق الاشتباكات بعد خسائرها في المنطقة التي تحتلها وتهديد ذلك بخروج اشتباكات تتكرر منذ 30 عاماً عن السيطرة هذه المرة كان يجب أن تكون اللحظة التي يشدد فيها الكرملين من لهجته كما كان يحدث سابقاً ويهدد بالتدخل العسكري إن لزم الأمر وتذكير الطرفين بقوته الإقليمية ونفوذه حتى تتوقف المناوشات، لكن ذلك لم يحدث دون أن يكون هناك سبب واضح أو مفهوم.
حسابات متشابكة وملفات كثيرة ساخنة
وقد تحدث بوتين مع مجلس الأمن القومي الروسي خلال نهاية الأسبوع الجاري كما ناقش الصراع بين البلدين مع رئيس جمهورية طاجيكستان، في إشارة يرى فيها مراقبون "بروداً روسياً" غير معتاد في ذلك الصراع، في هذا السياق توجد عدة تفسيرات، أولها أن رئيس وزراء أرمينيا الحالي نيكول باشينيان جاء إلى السلطة بعد ثورة شعبية عام 2018 تطالب بإصلاحات على الطريقة الغربية في الحكم، وبالتالي فإنه يمثل نوعاً من الحلفاء لا تستسيغه موسكو.
ويحافظ باشينيان على التوازن بين تقربه الحذر من الاتحاد الأوروبي وفي الوقت نفسه الحفاظ على علاقات بلاده الاقتصادية الوثيقة مع روسيا، وبالتالي فإن استراتيجية بوتين قد تكون ترْك الأمور في مسارها الحالي حتى يتأزم موقف باشينيان أكثر وربما حتى يخسر تماماً كنوع من العقاب على سياساته، ولا ننسى هنا أن موسكو احتلت شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014 بسبب سياسات التقرب من الغرب أيضاً.
لكن رسالة بوتين قد وصلت بالفعل لأرمينيا – العقاب بسبب عدم الولاء المطلق لموسكو، ورغم ذلك لا يمكن إغفال رسالة أخرى تتسم بطابع إقليمي أكثر وهو أن أذربيجان حليفة تركيا تنتصر في الميدان، وهي حسابات يراها مراقبون تمثل خطورة بالنسبة لبوتين؛ ففي حالة هزيمة أرمينيا عسكرياً ربما يؤدي ذلك لغضب شعبي غير مضمون النتائج وقد ينتج عنه ميلاد حكومة أكثر تقارباً مع الاتحاد الأوروبي، على أساس تخلي موسكو عن البلاد.
وهناك أيضاً احتمال آخر وراء الموقف الروسي الحالي يتمثل في كون إقليم ناغورنو قره باغ لا يمثل أهمية استراتيجية لروسيا للدرجة التي تجعلها تغامر بإرسال قوات وعتاد للدفاع عنه، رغم أن أرمينيا حليف تقليدي للكرملين ووقّع الجانبان بالفعل صفقات أسلحة روسية بأسعار مخفضة لأرمينيا في أغسطس/آب الماضي وهو ما أثار غضب أذربيجان.
كما أن روسيا متورطة بالفعل في أكثر من ملف ساخن ومناطق صراع أبرزها سوريا وليبيا وأوكرانيا، إضافة إلى الموقف المتأزم في روسيا البيضاء والذي قد يفرض تدخلاً روسياً أكثر تكلفة في أي وقت، وكل هذه عوامل ربما تلقي مزيداً من الضوء حول الصمت الروسي هذه المرة إزاء الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان، إن جاز التعبير.
هل يتغير الموقف؟
لكن مع تبادل أرمينيا وأذربيجان الاتهامات الإثنين 5 أكتوبر/تشرين الأول بمهاجمة مناطق مدنية وتزايد حصيلة القتلى في اليوم التاسع من القتال الأكثر دموية في المنطقة منذ ما يزيد على ربع قرن، ربما يحدث تغيُّر في موقف روسيا وإن ظلت طبيعة ذلك التدخل غير واضحة.
فقد تعالت الأصوات المطالبة بوقف إطلاق النار وانضم إليها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرج، لكن تبدو آفاق إعلان وقفٍ لإطلاق النار بعيدة المنال بعد أن احتدم القتال مطلع الأسبوع، وقد وقُتل مئات في المعارك الدائرة منذ 27 سبتمبر/أيلول والتي شملت المدفعية والدبابات والطائرات الحربية.
وقالت أذربيجان إن مدناً فيها خارج ناجورنو قرة باغ تعرضت للقصف مما قرب المعارك من منطقة تمر بها خطوط أنابيب تحمل النفط والغاز منها إلى أوروبا، وفي مقابلة بثها التلفزيون الرسمي التركي يوم الإثنين، قال رئيس أذربيجان إلهام علييف إن على أرمينيا سحب قواتها من ناجورنو قرة باغ والأراضي الأذربيجانية المجاورة ليتسنى وقف القتال.
كما لم يُظهر رئيس وزراء أرمينيا باشينيان أي مؤشر على التراجع عن موقفه، وقال في تصريحات نشرها على فيسبوك يوم الإثنين إنه يدعو الجنود الذين جرى إعفاؤهم من الخدمة العام الماضي للتطوع للقتال، وأضاف: "أريد أن أدعو هؤلاء وأقول لهم إنهم سيقاتلون في حرب للبقاء في أرض أسلافهم".
وفي ظل كل تلك المؤشرات، ربما يجد بوتين نفسه مجبراً على اتخاذ موقف حاسم يقنع الجانبين بالقبول بوقف إطلاق النار، كأن يتم وضع جدول زمني لانسحاب أرمني من الأراضي التي تحتلها في أذربيجان، وهو ما قد يمثل بداية للعودة إلى مسار الدبلوماسية، لكن ذلك السيناريو على صعوبة إقناع الجانبين به وغيره من سيناريوهات التسوية السلمية ربما تتلاشى مع خروج الاشتباكات المسلحة عن السيطرة.