مع استمرار الاشتباكات بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورنو قره باغ للأسبوع الثاني على التوالي وازدياد فرص تحولها لحرب شاملة، تطرح تساؤلات بشأن الصمت الأمريكي غير المعتاد والذي يمكن تفسيره بقرب الانتخابات في واشنطن، لكن القصة ربما تحمل دلالات أكثر عمقاً بشأن الدور الأمريكي على المسرح الدولي.
مؤشر على تراجع الدور الدولي
أصابت الأخبار التي تحدثت عن دعوة الرئيس الفرنسي ونظيره الروسي بوقف إطلاق النار في ناغورنو قره باغ بين أرمينيا وأذربيجان كاري كافانو السفير الأمريكي السابق الذي كان مكلفاً بالمساعدة في حل النزاع بين الجمهوريتين السابقتين في الاتحاد السوفيتي بالحزن، وذلك بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
وسبب حزن كافانو ليس تجدد الاشتباكات المسلحة في حد ذاته، بقدر ما هو حزن على رؤيته لتراجع الدور القيادي لبلاده على المسرح الدولي، حيث إن ذلك النزاع الذي يرجع أصله لنحو قرن من الزمان تشكلت لجنة من الأمم المتحدة عام 1993 تضم الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا بهدف المساعدة في حسم الصراع بالطرق الدبلوماسية، لكن الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت الأسبوع الماضي شهدت غياباً أمريكياً كاملاً عن المشهد.
وبحسب تقرير الصحيفة البريطانية، يرى كافانو أن "الولايات المتحدة لم تشارك في المناقشات ولا التنسيق" ضمن اللجنة المعروفة باسم مجموعة منسك، وبهذا ينضم السفير الأمريكي السابق لمجموعة من المراقبين يرون في هذا الغياب تراجعاً للدور الأمريكي على المسرح الدولي منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ورفعه شعار "أمريكا أولاً".
وقال توماس دي فال، الباحث البارز في معهد كارنيغي أوروبا، إن "الأمريكيين انسحبوا من تلك القضية، ولو كان ترامب سمع عن أذربيجان من الأصل فالسبب هو أنه أراد بناء أحد أبراجه على أراضيها"، في إشارة لجهل الرئيس الأمريكي بالمنطقة وأسباب الصراع فيها بين البلدين.
وكان صمت إدارة ترامب لافتاً بالفعل، حتى إن وزير الخارجية مايك بومبيو لم يعلق على الاشتباكات التي أوقعت مئات القتلى حتى الآن بينهم كثير من المدنيين، إلا عندما سئل عنها خلال إحدى مقابلاته التليفزيونية وكانت إجابته محايدة تماماً ولم تحمل أي التزام بمحاولة التدخل.
انسحاب أمريكي لصالح روسيا
ومنذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، انسحبت الولايات المتحدة في كثير من الأحيان من قضايا دولية، عكس الإدارات السابقة، وبصفة خاصة في المناطق التي تقع ضمن نطاق التأثير الروسي وتجنب ترامب إصدار أي بيانات قد تزعج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقد حاول حلفاء لواشنطن، مثل المملكة المتحدة وليتوانيا، إقناع وزارة الخارجية الأمريكية بأن تكون أكثر حزماً في بياناتها بشأن قمع الاحتجاجات الشعبية في روسيا البيضاء وتسميم المعارض الروسي أليكساندر نافالني، دون أن يحدث تغيير ذلك في الموقف الأمريكي المهادن لروسيا بشكل لافت، وهنا لابد من ذكر كيف وصف المرشح الديمقراطي للرئاسة جو بايدن ترامب بأنه "جرو بوتين" خلال مناظرتهما الأولى قبل أسبوع.
ويرجع الانسحاب الأمريكي من النزاع بشأن إقليم ناغورنو قره باغ الذي تحتله أرمينيا منذ ثلاثين عاماً وهو سبب الصراع في المنطقة لأن أذربيجان تصر على تحرير أراضيها التي تحتلها أرمينيا وتبلغ نحو 20% من مساحة أذربيجان، إلى أغسطس/ آب عام 2017 – أي في العام الأول لترامب في البيت الأبيض – عندما عينت الإدارة ممثلاً جديداً لها في مجموعة مينسك وهو أندريه شوفر دون أن تمنحه لقب سفير مما جعله أقل رتبة من نظيريه الروسي والفرنسي.
ورأى كافانو في ذلك خطراً كبيراً على الجهود الدبلوماسية في منطقة مضطربة وتشهد نزاعاً مسلحاً ممتداً، حيث إن الحفاظ على التوازن في التعامل مع القضية من الجانب الأمريكي يعطي ثقة لأذربيجان وأرمينيا في حيادية وجدية مجموعة مينسك، أما هذا التراجع الأمريكي فقد أعطى إشارات خاطئة كانت نتيجتها تجدد الاشتباكات المسلحة.
انحياز روسي-فرنسي لأرمينيا
والمقصود هنا هو أن روسيا من الأصل تدعم أرمينيا رغم أنها الطرف المعتدي والرافض لأربع قرارات أممية تطالبها بالانسحاب من الإقليم وأراضي أذربيجان الأخرى التي تحتلها، وبالتالي كان الدور الأمريكي يمثل توازناً مطلوباً لإقناع الجانبين بالتوصل لتسوية سلمية للنزاع.
وإذا أضيف الانحياز الفرنسي لأرمينيا في الاشتباكات الدائرة حالياً لأسباب لا علاقة لها بأذربيجان بشكل مباشر ولكنه موقف شخصي للرئيس إيمانويل ماكرون الذي يعادي تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان في جميع الملفات والمحافل، يصبح الانسحاب الأمريكي أكثر خطورة لأن ذلك لا يترك مجالاً للدبلوماسية ويهدد بتحول الاشتباكات إلى حرب شاملة قد تنضم لها قوى إقليمية أخرى كتركيا الداعمة لأذربيجان وروسيا وإيران أيضاً الداعمتين لأرمينيا في صراع معقد ومتشابك الجذور,
وفي هذا السياق، طالب الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف الأحد 4 أكتوبر/ تشرين الأول بأن تضع أرمينيا جدولاً زمنياً لانسحابها من إقليم ناجورنو قرة باغ والمناطق الأذربيجانية المحيطة، مؤكداً أن بلاده لن توقف العمل العسكري إلى أن يحدث ذلك.
هل حان وقت انسحاب أرمينيا؟
وقال علييف في خطاب عبر التلفزيون إن أذربيجان انتظرت 30 عاماً لاستعادة أراضيها. وأضاف "ناغورنو قرة باغ إقليم أذربيجاني لابد من استرداده وسنسترده"، وفي ظل الرفض الأرميني المعلن للانسحاب، تصبح الحرب الشاملة أقرب كثيراً من أي وقت مضى.
كما أن وجود حسابات متشابكة لدى الطرفين المتحاربين من جهة ولدى القوى الإقليمية من جهة أخرى يهدد باشتعال مواجهة أكثر شمولاً من الطرفين، بل يشبهها البعض بالحرب العالمية الأولى التي انطلقت شرارتها من أوروبا أيضاً.
لورانس برورز مدير برنامج القوقاز في موارد التصالح وهي مجموعة للسلام قال للغارديان في تقرير عن أصل الصراع في المنطقة إن "هناك حرب خنادق تشهدها أوروبا في المنطقة بعد أكثر من 100 عام على نهاية الحرب العالمية الأولى، وفي بعض المناطق الحدودية بين أرمينيا وأذربيجان لا توجد فواصل تقريباً حيث يمكن للجانبين التحدث مع بعضهما البعض".
ومكمن الخطورة هو أن تلك الحدود بين الجانبين هي أكثر المناطق تسليحاً وسخونة في أوروبا والعالم، وفي ظل وجود مصالح لروسيا وإيران وتركيا، لو استمرت الاشتباكات الحالية وتطورت "يمكن أن تخرج الأمور عن السيطرة كما حدث في الحرب العالمية الأولى وتتحول إلى نزاع إقليمي أوسع"، بحسب برورز.
كما أن جنوب القوقاز يعتبر شرياناً حيوياً للغاز والنفط من أذربيجان إلى تركيا ومنها إلى أوروبا وباقي أسواق العالم، وتوفر أذربيجان نحو 5% من حاجة أوروبا من النفط والغاز وتساعد على تقليل اعتماد الاتحاد الأوروبي على روسيا، وفي عام 2016 كادت الاشتباكات في المنطقة أن تصل إلى عدد من خطوط الأنابيب بالفعل.