لا يمثل الصراع الأذربيجاني الأرميني حرباً بين قوميتين فقط إحداهما مسيحية والأخرى مسلمة شيعية، الأولى صديقة لتركيا والثانية حليفة لروسيا، ولكن يمثل أيضاً صراعاً بين مدرستين عسكريتين، وبالتالي فمن المرجح أن الحرب الأذربيجانية الأرمينية ستحدد شكل حروب المستقبل إلى حد كبير.
يمثل القتال بين أرمينيا وأذربيجان جبهة ثالثة محتملة تضم حلفاء لروس وتركيا بعد سوريا وليبيا، وهي تمثل في الوقت ذاته مواجهة بين مدرستين عسكريتين المدرسة العسكرية الروسية العريقة، والمدرسة التركية الصاعدة.
لقد حافظت براغماتية أنقرة وموسكو على مزيج معقد من المصالح المتبادلة والتنافس، تقول صحيفة The Guardian البريطانية عن ذلك "يقوم تكتيك أردوغان أنه يقوي يده قبل أن يتصالحوا مرة أخرى. ولكن مع ازدياد تعقيد الروابط بين روسيا وتركيا، يزداد خطر سوء التقدير أيضاً".
الحرب الأذربيجانية الأرمينية ستحدد شكل حروب المستقبل
ولكن بعيداً عن تعقيدات السياسة، تعكس المعارك في إقليم ناغورنو كاراباخ التحولات الأساسية التي ستميز الحرب في المستقبل المنظور. نحن أمام نقطة انعطاف: الصراعات المختلطة في أوكرانيا وليبيا واليمن وموزمبيق هي مؤشرات واضحة لما سيأتي.
فالخبراء العسكريون في العالم ينظرون إلى المعركة من وجهة نظر فنية تترقب من ينتصر النموذج التقليدي الروسي الذي يتبعه الجيش الأرميني الذي انتصر في الحرب السابقة أم النموذج التركي الذي يسير عليه الجيش الأذربيجاني.
كانت أول مواجهة بين النموذجين في إدلب، حيث استخدم الأتراك لأول المرة الطائرات المسيرة في الحروب بهذه الكثافة، وجاء ذلك رداً على مقتل 34 جندياً تركياً كانوا ضمن مهمة تركية في المحافظة وفقاً للاتفاقات الروسية التركية.
في ظل سيطرة الطيران الروسي والسوري على أجواء إدلب وعدم قدرة الطيران الحربي التركي على التدخل، رد على الأتراك بهجوم مكثف اعتماداً على الطائرات بدون طيار وأنظمة التشويش التركية كورال، مما أدى إلى خسائر فادحة لجيش النظام السوري باعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
قامت تكتيكات الأتراك على استهداف أنظمة الدفاع الجوي الروسية الصنع أولاً بالطائرات المسيرة لفتح الطريق أمامها لمهاجمة الأهداف العسكرية الأخرى، تكرر هذا التكتيك في طرابلس في ليبيا، حيث أدى إلى فك الحصار عن العاصمة طرابلس الذي فرضه حفتر، وتحول قوات حكومة الوفاق من الدفاع للهجوم حيث وقفت على أبواب سرت مغيرة شكل الصراع تماماً.
في الصراعين مثلت الطائرات التركية المسيرة لاعباً جديداً غير قواعد اللعبة.
الآن تمثل الحرب الأذربيجانية الأرمينية ساحة الصراع الثالثة بين المدرستين العسكريتين الروسية والتركية، ولكنها قد تكون اختباراً أصعب.
مدفعية تويتر
أحد المظاهر اللافتة في الحرب الأذربيجانية الأرمينية استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة لا تقل عن المدفعية والطائرات المسيرة.
يصف أليساندرو أردوينو الباحث في معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية ما يحدث بالقول "تبادلت حكومتا أرمينيا وأذربيجان قذائف تويتر التي تنافس قذائف المدفعية بشدة".
تبرز ظاهرة تبادلات الاتهامات خاصة على مواقع التواصل، التي عززتها القومية والتصيد الذي ترعاه دول أجنبية، الدور البارز الذي تلعبه شبكات التواصل الاجتماعي في الحرب الحديثة.
في الماضي، كانت الحرب النفسية مجال مكبرات الصوت والمنشورات التي تُسقط من الجو. لقد انتقلت الآن إلى الفضاء الإلكتروني – حتى إن هناك مقطع فيديو أذربيجانياً على YouTube يعرض مقطوعات موسيقية ثقيلة.
يعرض الفيديو عازفي موسيقى الروك يؤدون عروضهم على خلفية طائرات الهليكوبتر والدبابات وقاذفات الصواريخ المحمولة، والتي من المتوقع أن تنفجر مع اقتراب الموسيقى من ذروتها.
المقاتلون الأجانب
يمثل وجود المقاتلين السوريين في ليبيا أمراً مؤكداً لكن الأمر مختلف في الحرب الأذربيجانية الأرمينية حيث الأدلة ضعيفة على هذا الأمر، ولكن يريفان وحلفاءها يحاولون اللعب بهذه الورقة لحشد الغرب إلى جانبها.
ولكن بصفة عامة فإن استخدام المقاتلين والمرتزقة آخذ في التوسع من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وأدانت موسكو بشدة الاستخدام المزعوم لمن وصفتهم بالمرتزقة والإرهابيين الأجانب في ناغورنو كاراباخ، واعتبرت وجودهم تهديداً للمنطقة بأكملها. لكن المفارقة هي أن روسيا اخترعت هذا الأسلوب، يقول أليساندرو أردوينو "لقد طورت تركيا فقط نسختها الخاصة من الحرب الهجينة التي اختبرتها روسيا في المعارك في أوكرانيا وليبيا".
فلقد دفع زوال النظام العالمي ثنائي القطب إلى صعود الشركات الخاصة التي تقدم خدمات على الطراز العسكري كجزء من نموذج أعمالها الأساسي. لقد حان عصر الشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي تعمل بعيداً عن الأنظار وتشن الحروب نيابة عن أو على أصول الحكومات المركزية.
التصعيد من أجل التفاوض
إحدى السمات الأساسية للصراع الأذربيجاني الأرميني هي التصعيد من أجل التفاوض من نقطة قوة.
يقول أليساندرو أردوينو الباحث في معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية إحدى سمات صراعات المستقبل، هي ما يصفه بدور القادة الرجال الأقوياء (في هذه الحالة، أردوغان) الذين يعتبرون العضلات العسكرية بمثابة تذكرة لمقعد على طاولة كبيرة.
نجح أردوغان في تحقيق ذلك في سوريا، حيث أدى التدخل التركي لوقف هجوم قوات النظام على إدلب، وفي ليبيا أدى إلى إنهاء حصار طرابلس وبدء مفاوضات قد تكون مثمرة لأول مرة منذ سنوات، حتى لو مازال حفتر يمثل تهديداً محتملاً لها.
الطائرات المسيرة مجدداً
"استراتيجية الهجوم البري المستوحاة من المدرسة التركية، تعتمد على الاستفادة من هجمات الطائرات المسيرة المسلحة ودعم طائرات الاستطلاع المسيرة لتوفير المعلومات، أظهرت نفسها في الحرب الأذربيجانية الأرمينية- حسب تقرير لصحيفة جيروالزيوم بوست الإسرائيلية.
ولكن لا تزال الطائرات بدون طيار في مهدها "، والحرب في أذربيجان وأرمينيا أكثر تعقيداً من ليبيا سوريا.
بشكل عام، ادعت أرمينيا أنها أسقطت 107 طائرات بدون طيار من أذربيجان و10 طائرات هليكوبتر وخمس طائرات. وقالت أيضاً إنها دمرت 205 عربات مدرعة وقاذفة Smerch. زعمت أذربيجان أنها بحلول 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020 دمرت 250 عربة مدرعة و130 مركبة عسكرية إضافية، بالإضافة إلى 250 نظاماً مدفعياً أرمينياً و38 نظام دفاع جوي أصغر ونظام دفاع جوي واحداً من طراز S-300.
توضح هذه الحصيلة أن أذربيجان تستخدم طائرات بدون طيار أكثر بكثير من أرمينيا. أظهر مقطع فيديو موسيقي للجيش الأذربيجاني أربع شاحنات بها 36 كبسولة لإطلاق طائرات بدون طيار. وقالت مصادر على مواقع التواصل الاجتماعي إن الطائرات المسيرة هي طائرات إسرائيلية من طراز هاروب.
ولقد باعت الشركات الإسرائيلية لأذربيجان العديد من الطائرات بدون طيار على مر السنين، بما في ذلك ذخيرة التسكع IAI Harpy و Harop وسلسلة Elbit Skystriker وسلسلة Aeronautics Orbiter. تمتلك أذربيجان ترسانة حديثة تستخدم هذه الذخائر ولكن يعتقد أن طائرات بيرقدار التركية بدون طيار تلعب دوراً محورياً في الصراع.
إذ قام الجيش الأذربيجاني بتوسيع أسطوله من الطائرات بدون طيار بشكل كبير، وكان آخرها مع الطائرات التركية Bayraktar TB2، والتي قامت بتدمير عدد من مواقع ودبابات أرض-جو المتنقلة الأرمينية.
في المقابل، دمرت القوات المدعومة من أرمينيا في إقليم ناغورنوا كاراباخ عدة دبابات ومركبات عسكرية أذربيجانية باستخدام صواريخ موجهة مضادة للدبابات روسية الصنع (ATGM).
إنها تطارد أنظمة الدفاع الجوي
أصدرت وزارة الدفاع الأذربيجانية سلسلة من مقاطع الفيديو التي تعرض ضربات الطائرات بدون طيار لما يبدو أنه جيوش أرمينية. هذا بالإضافة إلى العديد من مقاطع الفيديو المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي.
بناءً على هذه المقاطع، يبدو أن القوات الجوية والبرية الأذربيجانية قد دمرت ما لا يقل عن تسعة أنظمة صواريخ أرض – جو، كلها من أصل روسي.
يشير هذا إلى أن أذربيجان تتبع النهج التركي في سوريا وليبيا بقيام الطائرات المسيرة بتدمير أنظمة الدفاع الجوي الروسية الصنع لفتح الطريق لتنفيذ هجمات على الوحدات البرية المقاتلة، تتخلص الطائرات التركية أولاً من أعدائها الأخطر ثم تتفرغ لمهمتها القتالية.
ولكن مهمتها أصعب في أرمينيا التي تمتلك أنظمة صواريخ روسية متطورة وذات طابع استراتيجي أكثر.
إذ بدأت أرمينيا في نقل أنظمة صواريخها من طراز S-300 (نظام مضاد للطائرات والصواريخ الباليستية) من عاصمتها يريفان إلى المناطق الحدودية على طول الأراضي الأذربيجانية المحتلة، وفقاً لوزارة الدفاع الأذربيجانية.
الصواريخ المضادة للدبابات سلاح أرمينيا الأكثر فعالية
في المقابل، تُظهر مقاطع الفيديو أيضاً دبابات أذربيجانية ومركبات قتالية مشاة ومركبة مشاة مدرعة بعجلات واحدة على الأقل تم تدميرها باستخدام صواريخ موجهة مضادة للدبابات.
في السنوات الماضية شهدت هذه الأسلحة زيادة في استخدامها في عدد من النزاعات بما في ذلك سوريا، حيث ظهرت كمضاعفات حيوية للقوة وخاصة للجهات العسكرية من غير الدول.
ولهذه الصواريخ المضادة للدبابات ميزة نسبية في منطقة كاراباخ ذات الطبيعة الجبلية، حيث يصعب بالفعل على المركبات الثقيلة المناورة.
كما زُعم أن القوات الأرمينية أسقطت أربع طائرات هليكوبتر وعدة طائرات بدون طيار. أقرت السلطات الأذربيجانية بفقدان مروحية واحدة، لكنها ذكرت أن طاقمها نجا. تم نشر مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر تحطم المروحية الأذربيجانية، وقد ثبت لاحقاً أنه معلومات مضللة، مأخوذ من حادث مختلف في سوريا.
الطرفان مازال في جعبتهما أسلحة شديدة التدمير.. الفصل الأسوأ لم يبدأ بعد
بينما يتصاعد النزاع بسرعة، لم تستخدم أذربيجان بعد أسلحتها الأكثر تطوراً أو تعبئة قواتها بالكامل.
ولكن أرمينيا التي تبدو أكثر تضرراً بدأت تصعد في إجراءاتها بما في ذلك بإدخال الطائرات المقاتلة، حيث تلقت من روسيا أربعاً من أصل 12 تم شراؤها من طراز Su- 30SM المقاتلة، فضلاً عن أكثر من عشرة طرازات قديمة.
وفي يوم الثلاثاء 29 سبتمبر/أيلول 2020 أسقط لأرمينيا طائرة مقاتلة.
حرب الصواريخ الباليستية هي الخطر الأكبر
على الرغم من شراسة الصراع منذ اندلاعه، لم يلجأ كلا البلدين بعد إلى ترسانتهما الكبيرة من الصواريخ الباليستية قصيرة المدى، والتي ظلت تنمو بشكل مطرد لسنوات.
هددت وزارة الدفاع الأرمينية باستخدام هذه المخزونات بالجملة إذا كانت هناك طائرات مقاتلة تركية تدعم أذربيجان، مما يزيد من خطر وقوع خسائر في صفوف المدنيين وحرب شاملة.
ونفت تركيا اتهامات أرمينيا، بما في ذلك مزاعم وصفتها بأنها لا أساس لها بأن طائرة تركية من طراز F-16 أسقطت طائرة أرمينية. وبدلاً من ذلك، نسبت تصاعد العنف إلى أرمينيا، حيث قالت وزارة الخارجية في أنقرة إن "أرمينيا هي أكبر عائق أمام السلام والاستقرار في المنطقة".
تستثمر أرمينيا بشكل كبير في الصاروخ الباليستي قصير المدى إسكندر إي الروسي، والذي يتميز برؤوس حربية غير قانونية تحوي قنابل عنقودية. كان الصاروخ ينتهك الاتفاقات الدولية لتحديد الأسلحة، مما استلزم إعادة تصميمه بأقصى مدى ليمكن تصديره من قبل موسكو.
وتمتلك أرمينيا وأذربيجان أيضاً عدداً كبيراً من صواريخ سكود التي حصلت عليها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، بينما اشترت أذربيجان صواريخ باليستية إسرائيلية حديثة قصيرة المدى منذ ذلك الحين.
الجغرافيا السياسية
تقع عاصمة أذربيجان باكو وحقولها النفطية الحيوية على بعد 560 كيلومتراً فقط من الحدود الشرقية لأرمينيا، بينما لا يزيد عرض أرمينيا عن 160 كيلومتراً على الأكثر. هذا من شأنه أن يجعل الحرب باستخدام الصواريخ الباليستية مدمرة لكلا البلدين.
ويقع كلا البلدين ضمن النطاق المباشر لترسانات الأسلحة لدى الطرف الآخر. أبلغت أذربيجان بالفعل عن ضربات على البنية التحتية للطاقة، مما يشكل مخاطر على إمدادات النفط والغاز المتجهة إلى أوروبا.
لا يزال الصراع يتسم بالاعتماد الكبير لأذربيجان على المدفعية والطائرات بدون طيار. بينما يبدو أن أرمينيا تفضل فرق الصواريخ المضادة للدبابات. في حين أن احتمال تكبد خسائر كبيرة على كلا الجانبين مرتفع، يبقى أن نرى ما إذا كان الصراع سيتجه نحو التعبئة الكاملة والحرب الشاملة، إذ لم يطرح تسوية عادلة للأزمة.
ولكن المؤكد أن أداء الجيش الأربيجاني أفضل كثيراً من الحرب التي خاضها البلدان في تسعينيات القرن الماضي، وأن المدرسة التركية قد أظهرت فارقاً لديه حتى الآن.