تحل اليوم الأربعاء 30 سبتمبر/أيلول 2020 الذكرى العشرون لاستشهاد طفل فلسطيني في غزة برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي؛ جريمة قتل محمد الدرة شاهدها العالم أجمع بعدسة مصور فرنسي وتم فتح تحقيقات بشأنها لم تسفر عن شيء، فهل سقطت تلك الجريمة بالتقادم؟
أيقونة انتفاضة الأقصى
قبل عشرين عاماً ويومين، بالتحديد 28 سبتمبر/أيلول عام 2000، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية أو انتفاضة الأقصى في وجه الاحتلال الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وفي اليوم التالي مباشرة وجد والد الطفل محمد الدرة بصحبة ولده محاصراً برصاص قوات الاحتلال، فاحتمى بأحد الجدران وظل يصرخ، مطالباً إياهم بوقف إطلاق النار دون أن يتوقفوا وحاول حماية ولده الصبي بجسمه لكن رصاصات الغدر كانت قد وجدت طريقها بالفعل لصدر الشهيد.
استمرت الانتفاضة نحو خمس سنوات سقط خلالها أكثر من 4400 شهيد فلسطيني برصاص وقنابل الاحتلال، وانتهت بانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وأصبح محمد الدرة أيقونة تلك الانتفاضة بعد أن التقطت كاميرا صحفي فرنسي مشهد مقتله كاملاً وبثته قناة فرنسية ليشاهده العالم أجمع، وأصبح الدرة حديث العالم وقتها، وأشعلت جريمة قتله بين أحضان والده الشارع العربي وكتبت قصائد ترثيه وتتغنى ببطولته تحول بعضها لأغانٍ وأناشيد.
ولا يزال والده جمال الذي حاول أن يفدي ولده وكاد أن يفقد حياته هو الآخر ووالدته آمال التي شاهدت جريمة قتل والدها على شاشة التليفزيون، يعيشان على تلك الذكرى الأليمة، التي من المؤكد أن ما يجري على الساحة الفلسطينية والعربية اليوم يزيدها إيلاماً.
عودة لأصل القصة
وُلد محمد في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 بمخيم البريج للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة، وتربى في أسرة ذات وضع اقتصادي جيد، وتعلم في مدرسة المخيم الابتدائية، وقال والده جمال الدرة (56 عاماً)، لمراسل الأناضول، الذي التقى به في منزله بمخيم البريج وسط القطاع: "كان الشهيد محمد شجاعاً وقوياً وكريماً، ولا يحب الظلم ويحب الخير للناس".
"محمد الذي كان يعشق السباحة وكرة القدم، كان يطمح لأن يكون قائداً، للدفاع عن قضيته، فهو شاهد على جرائم الاحتلال قبل استشهاده".
وفي 30 سبتمبر 2000، توجّه الأب جمال مصطحباً ابنه محمد لشراء سيارة كبيرة، بدلاً من أخرى صغيرة كان يمتلكها، من سوق يعرف محلياً بـ"سوق السيارات" في حي "الزيتون" جنوبي مدينة غزة، لكن الحظ لم يحالفه، ولم يجد السيارة التي يرغب في شرائها، وقرر العودة للبيت مع ابنه.
وفي طريق العودة، وجد جمال الدرة مظاهرات ومواجهات بين شبان وقوات الاحتلال الإسرائيلية، وكان الطريق الرئيسي إلى منزل الدرة مغلقاً بالكامل، مما دفعه وابنه ليسلكا طريقاً ترابياً التفافياً.
وعندما وصلا إلى مفترق طرق على شارع "صلاح الدين" قرب مستوطنة "نيتساريم" (تم تفكيكها ضمن خطة الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من القطاع عام 2005)، فوجئ الأب وابنه بقوات جيش الاحتلال تطلق عليهما وابلاً من النيران من كل اتجاه بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار.
كثافة النيران الإسرائيلية دفعت الأب وابنه للاحتماء خلف برميل إسمنتي قريب، ورغم صراخ الأب المتواصل على الجنود ليوقفوا إطلاق النار، لكن دون جدوى، وحاول جمال أن يحمي ابنه من الرصاص، لكنه لم ينجح، فأصيب بداية الحادث برصاصة في يده اليمنى ثم أصيب الطفل بركبته اليمنى، قبل أن تقضي عليه رصاصات أصابت بطنه واخترقته.
ويقول الوالد جمال: "محمد كان يسأل، لماذا يطلقون النار علينا؟ وأنا كنت ألوّح بيدي وأصرخ ليتوقف ذلك، لكن دون جدوى، الرصاص كان مثل المطر ولم أستطع حماية طفلي"، وبعد دقائق طويلة من إطلاق النار، نظر الوالد لطفله محمد، فوجده يسبح في بركة من الدماء ورأسه سقط على قدمه اليمنى دون أي حركة، فأدرك أنه استشهد.
وحينها، أخذ الأب يصرخ، وقد أنهكت قواه، بعبارة باتت أيقونة لـ"بشاعة الجريمة الإسرائيلية"، قائلاً: "مات الولد، مات الولد"، ولم يكتفِ جنود الجيش الإسرائيلي، آنذاك، بكل هذه المشاهد البشعة لجريمتهم، فأطلقوا صاروخاً على جمال وابنه، لكنه اصطدم بالرصيف ولم يصبهما.
ويقول الأب: "كان المشهد مؤلماً ولكن ليس بجديد على الاحتلال لما يرتكبه من مجازر بحق شعبنا الفلسطيني وما زال يرتكبها"، مضيفاً: "محمد كان الشاهد والشهيد على جرائم الاحتلال"، ويتابع: "الاحتلال يرتكب المجازر والإرهاب، وهناك دول تقوم بالتطبيع معه، مما يدفعه لارتكاب المزيد من جرائم تجاه شعبنا"، في إشارة لتطبيع دولتي الإمارات والبحرين لعلاقاتهما مؤخراً مع إسرائيل.
ولم تتوقف جريمة إسرائيل عند قتل "محمد"، ففي الحرب على قطاع غزة عام 2008، قصفت طائرات الاحتلال منزل عائلته، كما جددت قصف المنزل في الحرب على القطاع عام 2014، دون سبب.
والدته شاهدت استشهاده على الهواء
آمال الدرة (54 عاماً) والدة الشهيد محمد، تسترجع أحداث يوم استشهاد طفلها، وتقول لمراسل الأناضول: "كان ذلك اليوم في بدايته عادياً، أعددت طعام الفطور وتناولناه جميعاً، وبعد ذلك خرج محمد، ليلهو مع أبناء الجيران أمام البيت".
وتضيف: "بعد ساعات اصطحبه والده معه إلى سوق السيارات، شعرت بالاطمئنان تجاه ذلك، فحينها كنت أخشى أن يذهب إلى مظاهرات تخرج يومياً ضد الاحتلال في ذلك الوقت، إبان الانتفاضة الثانية"، وتكمل: "بينما كنا نتابع أحداث المواجهات مع القوات الإسرائيلية على شاشات التلفزيون تفاجأت بمشهد إطلاق الرصاص على طفلي ووالده".
"في البداية كنت متيقنة أن زوجي وطفلي هما من في المشهد، إلا أن عمتي التي كانت تزورني شككت في ذلك وصدقتها، ولكن سرعان ما وصلنا خبر استشهاد محمد وإصابة زوجي بالرصاص"، وأضافت: "شعرت بصدمة عند سماع الخبر لقد شاهدت ابني يقتل على شاشات التلفزيون، لقد قتل مظلوماً مقهوراً بدم بارد".
تنصّل من الجريمة
وبرأت إسرائيل نفسها من دم الطفل الفلسطيني من خلال قرار توصلت إليه اللجنة الحكومية الإسرائيلية في قضية التحقيق بمقتل الدرة، وذلك رغم تقرير القناة التلفزيونية الفرنسية، الذي يدينها بالدليل.
وقالت اللجنة التي تشكلت عام 2012 برئاسة وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون: "إنه وخلافاً لما نُشر حتى الآن من تقارير تتهم إسرائيل بمقتل الطفل محمد الدرة، فليس هناك أدلة تُظهر أن الدرة ووالده جمال أصيبا برصاص الجيش".
وبشأن التقرير الذي نشرته قناة "فرانس 2" الذي كان سبباً في إنشاء اللجنة الإسرائيلية، فقد اعتبره التقرير الإسرائيلي "ليس صحيحاً، وإنما جاء لخلق انطباع أن الدرة قُتل برصاص الجيش الإسرائيلي".
وأثار إعدام الجيش الإسرائيلي للطفل الدرة مشاعر غضب الفلسطينيين في كل مكان، ما دفعهم للخروج في مظاهرات غاضبة، ووقوع مواجهات مع الجيش الإسرائيلي، أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات، وكانت شرارة اندلاع الانتفاضة اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي "الأسبق" أرئيل شارون، إلى باحة المسجد الأقصى برفقة حراسه.