شهدت الـ72 ساعة الأخيرة تحول إقليم ناجورنو كاراباخ (قرة باغ)، الجيب المدعوم من أرمينيا داخل أذربيجان، إلى بؤرة لبعض أشرس الاشتباكات العسكرية على الكوكب.
وشهد جميع سكان الإقليم ومَن حوله ساحة حرب شبه كاملة، إذ استُخدِم في القتال بين الطرفين، صباح يوم الأحد 27 سبتمبر/أيلول، القوة الجوية والمدفعية الثقيلة والدبابات وقذائف الهاون. وأفاد الجانبان بوقوع قتلى ومصابين في صفوف العسكريين والمدنيين، تتراوح أعدادهم من العشرات إلى بضع مئات، بناءً على التقارير الإخبارية.
وأظهرت فيديوهات قذائف الصواريخ المُوجَّهة وهي مخترقة الأرض، والنيران تلتهم الدبابات، وعشرات الجثث المتفحّمة. وترددت تقارير أيضاً عن استخدام صواريخ غراد، وهي أنظمة صاروخية شنيعة لا تميز بين الأهداف العسكرية والمدنية، بالقرب من تجمعات سكنية مدنية، كما تقول صحيفة The Independent البريطانية.
أما مَن يسكنون على مسافة أبعد فربما بدت الاشتباكات أقلّ أهمية لهم، ففي النهاية هذا الصراع بين الشقيقين السوفييت مستمر منذ أمد بعيد، إضافة إلى أنَّ هذه الجولة الأخيرة من الحرب لم تكن بعيدة تماماً عن التوقعات، ولا كانت حتى الأولى هذا العام. ومع اتخاذ كل جانب موقفاً دفاعياً يتضح أنَّ حرباً كارثية طويلة الأمد ستدور رحاها، لكن هذه المرة سيكون للقتال أبعاد جيوسياسية أوسع.
الأبعاد الجيوسياسية للصراع
تقول الصحيفة البريطانية إن دور تركيا في الصراع هو العامل الجديد المهم في اللعبة، ولَطالما انقسمت القوى العظمى في المنطقة بين أذربيجان وأرمينيا في الصراع، وهذا بالتأكيد ليس جديداً، لكن الاتصالات زادت منذ آخر تصعيد، في يوليو/تموز، مع وجود أدلة تشير إلى أنَّ الدعم اتَّخذ بعداً عسكرياً أوضح بكثير.
ففي الأشهر الأخيرة زَوّدت أنقرة باكو بطائرات بدون طيار وذخائر ذكية، التي استُخدِمت في آخر 48 ساعة، وأسفرت عن نتائج حاسمة لصالح أذربيجان في المعركة، وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صريحاً في دعمه العلني لدفاع أذربيجان عن نفسها. وقال أردوغان يوم الإثنين، 28 سبتمبر/أيلول، إنَّ السلام لن يعود إلى المنطقة إلا بعد أن "تغادر أرمينيا… الأراضي الأذربيجانية المحتلة". وأضاف أنَّ الوقت قد حان "لوضع حد… للأزمة التي بدأت مع احتلال ناغورنو كاراباخ".
من جانبها، انسحبت الولايات المتحدة، التي تتمتع بعلاقات طيبة مع القادة في كل من باكو ويريفان من المنطقة، في الوقت الذي تركز فيه على الانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني. واكتفى الرئيس دونالد ترامب بالقول، الأحد 27 سبتمبر/أيلول: "ننظر إلى الصراع باهتمام شديد… وسنرى ما إذا كان بإمكاننا إيقافه".
لكن الأبرز من ذلك هو أنَّ روسيا أبقت نفسها بمنأى عن الصراع، وقصرت التدخلات على الدبلوماسية والاتصالات الشكلية للدعوة لوقف إطلاق النيران.
ماذا عن الموقفين الروسي والإيراني؟
من الناحية النظرية لا تزال روسيا الضامن العسكري لأرمينيا، التي لطالما اعتُبِرَت أقرب حليف لها في القوقاز، لكنها تتمتع أيضاً بروابط اقتصادية وعسكرية وثيقة للغاية مع دولة النفط الأذربيجانية الأغنى. وفي هذه الأثناء توترت الثقة بين موسكو ويريفان منذ ثورة 2018، التي شهدت صعود الصحفي السابق نيكول باشينيان إلى الرئاسة، رغم قبول موسكو على مضض.
وقال المتحدث الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف، يوم الإثنين 28 سبتمبر/أيلول، إنَّ الرئيس فلاديمير بوتين يراقب الوضع "عن كثب". ويلمح المحلل السياسي بمعهد Carnegie أركادي دوبنوف، إلى أنه من المرجح أن تستمر روسيا في عدم التدخل. وأضاف "ستراقب الوضع حتى يتضح من سيفوز".
من جانبها، بدت إيران، القوة الإقليمية الكبرى الأخرى، التي تقع على حدود البلدين، مرعوبة من اندلاع القتال، إذ ترتبط طهران بعلاقات قوية مع يريفان، وهدّأت مؤخراً من التوترات مع أذربيجان.
ودعا وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، يوم الأحد 27 سبتمبر/أيلول، إلى إنهاء الأعمال العدائية، وعَرَضَ التوسط بين البلدين، بعدما أصابت قذائف من القتال عدة قرى في شمال غربي إيران.
ونُقِل عن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده قوله: "لا يمكننا التسامح مع استمرار الاشتباكات العسكرية على حدودنا، ونبذل قصارى جهدنا لتحقيق السلام في المنطقة".
واستمر النزاع على إقليم ناغورنو كاراباخ لأكثر من قرن، لكن أصوله في العصر الحديث يمكن إرجاعها إلى أواخر الحقبة السوفييتية. وسيطرت القوات الأرمينية على المنطقة في وقت قريب من انهيار الاتحاد السوفييتي. وأسفرت الحرب الدامية التي أعقبت ذلك من عام 1992 إلى عام 1994 عن مقتل 20 ألف شخص.
واستمر الصراع في التفاقم منذ ذلك الحين؛ ما أدى إلى إحداث شرخ بين أرمينيا وأذربيجان، وأدى إلى تأجيج مشاعر النزعة القومية في كلا البلدين. وفي هذه الأثناء أجَّجت دول عديدة، من بينها إسرائيل، المواجهة من خلال زيادة مبيعات الأسلحة المتطورة لكلا الجانبين.
ثم جاء الدور الجديد لتركيا في الصراع وأضاف بُعداً جديداً، الذي يُستبعَد أن ترحب به روسيا. وعلى أقل تقدير قد يُعقِّد هذا التدخل العلاقة الغامضة والمتوترة بالفعل بين الطرفين.
خطورة اندلاع حرب كاملة طويلة الأمد
أما التهديد الأكثر احتمالاً والفوري فيتمثل في حدوث تصعيد خطير على الأرض بين أرمينيا وأذربيجان، سيشهد سقوط ضحايا من المدنيين من كلا الجانبين تحت نيران المدفعية الثقيلة.
وقد يكون لحرب كاملة طويلة الأمد تداعيات مدمرة، في منطقة من العالم مزدحمة بخطوط أنابيب الغاز والنفط وغيرها من البنية التحتية للطاقة، بما في ذلك محطة للطاقة النووية في أرمينيا.
ويقول توماس دي وول، مؤلف كتاب Black Garden: Armenia and Azerbaijan Through Peace and War (الحديقة السوداء: أرمينيا وأذربيجان خلال السلم والحرب): "أكثر ما يخيف هو أنه من غير الواضح كيف يمكن لأي من البلدين الخروج بانتصار من هذا، فكلاهما مُسلَّح بقوة، ويقف خلفهما شعبان مشحونا المشاعر، إذ يريد الآذريون مزيداً من الأراضي المحررة، بينما يريد الأرمن رداً أقسى على جيرانهم".