محاولات ترامب السيطرة على المحكمة العليا الأمريكية ستؤثر على العالم برمته، فرغم أن المحكمة العليا هي مؤسسة أمريكية بامتياز، إلا أن لها تأثيراً خارجياً كبيراً.
فمجرد كون المحكمة مؤسسة أمريكية تماماً لا يعني أنَّ تأثيرها يقف عند حدود الولايات المتحدة. إذ تؤثر قراراتها على المواطنين الأجانب، وستتردد أصداء التشاحن السياسي بشأن مستقبلها على الصعيد العالمي لسنوات مقبلة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وتملك بلدان أخرى محاكم مماثلة، لكنَّها تميل إلى كونها كيانات أقل مكانة. ويُعَد تدوير التعيينات القضائية في الكثير منها مسألة روتين بيروقراطي وليست سياسات حزبية، كما الأمر في الولايات المتحدة.
محاولات ترامب السيطرة على المحكمة العليا الأمريكية ستؤثر على العالم برمته
ويراقب خبراء قانونيون دوليون عن كثب المعركة التي تختمر بشأن المقعد الذي أخلته القاضية الليبرالية روث بادر غينسبيرغ، التي توفيت الجمعة الماضية 18 سبتمبر/أيلول عن عمر يناهز 87 عاماً. وتعهَّد الرئيس ترامب بالمضي قدماً بتقديم مرشح لدخول المحكمة العليا قبل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبلة، الأمر الذي قد يُكرِّس وجود أغلبية مُحافِظة ساحقة في المحكمة.
قال آدم غولدينبيرغ، وهو محام في تورونتو وموظف سابق بالمحكمة العليا الكندية، لصحيفة The Washington Post الأمريكية: "كانت القاضية غينسبرغ قانونية ذات أهمية عالمية. هذا الموضوع سيأسر المنخرطين في مجالنا حول العالم".
تأثير كبير بالقانونين الإداري والتجاري، وحظر سفر المسلمين نموذج لصدى قراراتها
ويمكن أن يكون للقرارات التي تتخذها المحكمة العليا تأثير عملي كبير خارج الولايات المتحدة، خصوصاً حين تتعلَّق بالقانون التجاري أو الإداري. ويمكن أن تؤثر أيضاً على الأشخاص خارج الولايات المتحدة حتى حين تصدر القرارات مرتبطة بتفسيرات الدستور الأمريكي.
إذ وجد حكم مهم في يونيو/حزيران 2018، أنَّ الرئيس لديه السلطة لحظر المسافرين من البلدان ذات الغالبية المسلمة إن ظنَّ ذلك ضرورياً.
كان من الصعب عدم ملاحظة تأثير السياسة الداخلية على المحكمة في هذا القرار. إذ منع مجلس الشيوخ الأمريكي الذي يقوده الجمهوريون تقديم إدارة أوباما لمرشح لتولي أحد مقاعد المحكمة بعد وفاة القاضي أنطونين سكاليا في فبراير/شباط 2016، وهو ما كان من شأنه أن يؤدي إلى أغلبية ليبرالية في المحكمة.
وكان المُحافِظ الذي حلَّ في نهاية المطاف محل القاضي سكاليا، القاضي نيل غورستش، من بين القضاة الخمسة الذين وقفوا إلى جانب الحكومة، وأيدوا في النهاية حظر السفر الذي يقول نشطاء إنَّه يؤثر على مئات الملايين من الناس في الخارج.
ومن المقرر أن تستمع المحكمة إلى المزيد من القضايا ذات التداعيات العالمية الواضحة قريباً. إذ وافقت المحكمة هذا الصيف على النظر في قضية من شأنها أن تقرر ما إن كان بإمكان المُدَّعين الأجانب استغلال قانون يعود لعام 1789 من أجل مقاضاة الشركات الأمريكية بسبب الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان التي تُرتَكَب بالخارج.
وقال ديفيد أورينتليشر، أستاذ القانون بجامعة نيفادا في لاس فيغاس، إنَّ "الآثار المترتبة على تحميل الشركات المحلية المسؤولية القانونية هائلة"، ويمكن أن تؤدي إلى انقسامات عميقة بين القضاة.
سرقة ألمانية
ومن القضايا الأخرى المقبلة ذات التداعيات الدولية قضية متعلقة بعمل فني سرقته ألمانيا النازية من تجار تحف فنية يهود، ومُمتلكات صادرتها الحكومة المجرية خلال الحرب العالمية الثانية. وتُعَد حكومتا ألمانيا والمجر الحاليتان طرفين في هاتين القضيتين.
وعلى الرغم من الانقسامات الأيديولوجية بين القضاة، لا يكون من الواضح دائماً كيف سيحكمون في القضايا التي تقع خارج إطار القانون الدستوري. وأفاد موقع FiveThirtyEight هذا الصيف بأنَّ قرارات المحكمة جاءت متفقة مع الرأي العام في كل القضايا باستثناء اثنتين خلال الدورة الماضية.
لكن هناك قضايا ذات تداعيات دولية يمكن أن يُغيِّر دخول قاضٍ محافظ جديد المشهد فيها. ففي يونيو/حزيران الماضي، رفضت المحكمة محاولة إدارة ترامب إلغاء "برنامج القرار المؤجل للوافدين الأطفال"، وهو برنامج يحمي المهاجرين غير الموثقين الذين دخلوا الولايات المتحدة أطفالاً.
لم تُظهِر إدارة ترامب أي إشارات على تخلِّيها عن المعركة ضد البرنامج. لكنَّ إنهاء الحماية المُقدَّمة لما يصل إلى 65 ألف مشارك بالبرنامج سيكون لها تداعيات دولية كبيرة؛ فبعض "الحالمين" الذين غادروا الولايات المتحدة بشكل استباقي تحدَّثوا عن تحولات قاسية للحياة في ديارهم القديمة.
وفي عهد القاضية الديمقراطية الراحلة اكتسبت المحكمة نظرة دولية أكثر مسؤولية
وعلى الرغم من من قدرتها على التأثير العالمي، يمكن أن تكون المحكمة العليا مؤسسة منعزلة. فخلال جلسات الاستماع الرامية لتأكيد تعيين القاضية الحالية سونيا سوتومايور في مجلس الشيوخ عام 2009، دارت نقاشات محتدمة حول المدى الذي ينبغي أن تستشهد فيه المحكمة بالقانون الأجنبي في أحكامها.
وهنا، قد يكون فقدان غينسبرغ محسوساً أيضاً. إذ دعمت تبنّي المحكمة العليا نظرة دولية أكثر تجاه مسؤولياتها، إلى جانب القاضي ستيفن براير (الذي ألَّف كتاباً عن الموضوع). وقال بول بوست، الأستاذ بجامعة شيكاغو، إنَّ هذا هو أحد موروثاتها الرئيسية التي تركتها.
ولا يزال لدى المحكمة نزعات انعزالية. فقالت أونا هاثاواي، الأستاذة بكلية الحقوق في جامعة ييل، إنَّها تعتقد أنَّ نقاش عام 2009 قد "أخاف الكثير من القضاة وأبعدهم عن الاستشهاد بالأحكام الأجنبية. ومن الصعب الكتابة عن القانون الدولي إن كنت لا تستطيع الاستشهاد بالأحكام الأجنبية".
ولكن التأثير القانوني الأمريكي يتراجع، فلماذا؟
وهناك تأثير مقابل أيضاً. فمع أنَّ سلطة المحكمة تبقى كبيرة، فإنَّ مكانتها تضعف منذ سنوات. ففي عام 2008، لاحظ الصحفي آدم ليبتاك لدى صحيفة The New York Times الأمريكية أنَّ التأثير القانوني الأمريكي في تراجع، في ظل التراجع الحاد للاستشهادات بالقانون الأمريكي في كلٍ من كندا وأستراليا بسبب بروز "المحاكم الدستورية المتطورة"، التي غالباً ما تكون أكثر ليبرالية من المحكمة الأمريكية، في مناطق أخرى.
وأشار آخرون إلى أنَّ المشكلة ليست في المحكمة ذاتها وحسب، بل أيضاً في وجود ازدراء للسياسة الأمريكية. فقال توماس غينسبرغ، الذي كان آنذاك أستاذاً للقانون بجامعة شيكاغو، لآدم ليبتاك: "بالنظر إلى سياستنا الخارجية في العقد المنصرم أو نحو ذلك، فليس مفاجئاً أن يكون النفوذ الأمريكي في حالة تراجع".
قال غولدنبيرغ، المحامي الكندي، إنَّ التركيز على النص والأصالة في القانون الدستوري الأمريكي يعني أنَّ قرارات المحكمة العليا لا تُوفِّر توجيهاً إرشادياً كبيراً للخبراء القانونيين الأجانب.