أثبتت القيادات الطائفية أنها أقوى من أي محاولات لتغيير دفة سفينة لبنان التي تتجه بسرعة الصاروخ نحو منحدر يهدد بتحطمها وعلى متنها شعب خرج مطالباً برحيل تلك القيادات نفسها بعد أن أصبحت الأمور لا تطاق، فكيف يعرض تصلب تلك القيادات وتمسّكها بمواقفها طوق النجاة الأخير للخطر؟
ماذا أراد ماكرون؟
في أعقاب الانفجار الهائل الذي أطاح بمرفأ بيروت ومعه ربع ضواحي العاصمة اللبنانية تقريباً في الرابع من أغسطس/آب الماضي، قاد الرئيس الفرنسي مهمة إنقاذ لبنان وزار البلاد مرتين واتفق مع القيادات الطائفية على مهلة لتشكيل حكومة جديدة، لكنها انتهت منتصف سبتمبر/أيلول الجاري دون نتيجة، وبالتالي فإن تجاوز مواعيد نهائية أخرى ربما يعرض للخطر طوق النجاة الذي امتدت به يد فرنسا لانتشال لبنان من أسوأ أزمة مالية يشهدها منذ الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990، بحسب تقرير لرويترز.
وكانت فرنسا قد رسمت إطاراً زمنياً لكي يعالج لبنان خلاله مشكلة الفساد وينفذ إصلاحات للمساعدة في تأمين الحصول على مساعدات خارجية بمليارات الدولارات لإنقاذ البلاد الغارقة في الدين، غير أن القيادات، التي ظلت في مواقع المسؤولية على مدى سنوات شهدت فيها البلاد إهداراً في إنفاق الدولة وفساداً، تعثرت عند أول عائق يواجهها فلم تنجز ما وعدت به الرئيس الفرنسي من تشكيل حكومة جديدة بحلول منتصف سبتمبر/أيلول.
ومع ذلك فربما يكون تشكيل الحكومة أهون ما في الأمر، فبعد تسمية الوزراء سيواجهون جبلاً من التحديات تتراوح من إنعاش القطاع المصرفي المُصاب بالشلل إلى إصلاح قطاع الكهرباء الذي لا يمكنه توفير التيار الكهربائي دون انقطاع في بلد يبلغ عدد سكانه ستة ملايين نسمة.
وكان ماكرون قد زار العاصمة اللبنانية بعد الانفجار الهائل الذي شهده مرفأ بيروت في أغسطس/آب الماضي، وقال للساسة إنهم قد يواجهون عقوبات إذا ما عطل الفساد مسيرة الإصلاح. وقالت باريس مراراً إن لبنان لن يتلقى مساعدات دون التغيير.
ما عقبات تشكيل حكومة في لبنان؟
تكمن المشكلة في لبّ النظام الطائفي الذي يقسم المناصب في البلد إلى حصص تحصل عليها كل طائفة؛ فرئاسة الجمهورية للموارنة، ورئاسة الحكومة للسنة، ورئاسة البرلمان للشيعة، لكن سبب المعضلة الحالية بشكل مباشر هي حقيبة المالية التي يتمسك الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) بها، وسيكون لوزارة المالية دور حيوي في رسم خطط الخروج من الأزمة الاقتصادية.
وقبل أيام أعلن رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري مبادرة بشأن وزارة المالية تتمثل في أن يتولاها شخص شيعي مستقل، لكن لا يبدو حتى الآن أنها قد تؤدي لنتيجة إيجابية قريباً، فقد قال مصدر مقرب من الرئيس عون، الثلاثاء، لوكالة الأناضول إن الموضوع برمته "مبادرة الحريري" عند رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب.
وقال محمد نصر الله، النائب البرلماني عن كتلة "التنمية والتحرير" (حركة أمل)، للأناضول، إن "مبادرة الرئيس الحريري بالمبدأ إيجابية، فهي تتضمّن محاولة لحلحلة عقد تشكيل الحكومة"، معرباً عن أمله "أن تساعد هذه المبادرة على حلحلة العقدة الأساسيّة، وهي حقيبة المالية التي هي للطائفة الشيعية".
لكن الحريري شدد على أن موافقته على تسمية شخصية شيعية مستقلة لوزارة المالية تستهدف تسهيل تشكيل الحكومة لـ"كبح انهيار لبنان"، ولا تعني اعترافاً بحصرية هذه الحقيبة بالطائفة الشيعية، والقصة هنا هي أن القرارات الرئيسية في البلاد تحمل توقيع رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير المالية لذلك تتمسك حركة أمل وحزب الله بتلك الحقيبة.
وقد سعى أديب إلى تغيير القيادات في الوزارات والتي سيطرت فئات بعينها عليها لسنوات، ويقول ساسة إن حزب الله الذي ازداد نفوذه السياسي وحركة أمل يريان في التحركات الرامية لإبعادهما عن مناصب وزارية رئيسية محاولة لإضعاف نفوذهما.
ويتمتع حزب الله وحركة أمل بأغلبية برلمانية مع حلفاء مسيحيين وغيرهم وذلك رغم اختلاف آراء الجانبين بسبب النزاع على تشكيل الحكومة، وقال الرئيس ميشال عون، المسيحي الماروني المتحالف مع حزب الله، إنه لا يجوز لأي طائفة أن تطالب بأي وزارة.
غير أن مصادر سياسية تقول إن قرار واشنطن في سبتمبر/أيلول فرض عقوبات أمريكية على حلفاء لحزب الله شدد من عزم الكتلة الشيعية على التشبث بموقفها من التعيينات الوزارية، وتعتبر واشنطن حزب الله جماعة إرهابية.
أين يكمن خطر تأخير تشكيل الحكومة؟
ورغم كل ذلك يمكن أن يحقق الضغط الخارجي نتائج، فقد دفع تدخل ماكرون القيادات اللبنانية المتشاحنة للاتفاق على رئيس الوزراء المكلف قبل ساعات من وصول الرئيس الفرنسي إلى بيروت في زيارته الثانية خلال أقل من شهر.
وقالت فرنسا إن لبنان يواجه خطر الانهيار إذا لم يغير مساره، بينما كان عون أكثر تحديداً عندما قال إن البلاد تسير نحو "الجحيم" إذا لم تشكل حكومة جديدة، فقد سقط عدد كبير من اللبنانيين في براثن الفقر مع انهيار الاقتصاد وخرج الآلاف منهم إلى الشوارع في العام الماضي مطالبين بالتغيير.
ويحتاج لبنان إلى سيولة مالية وبسرعة بعد أن عجز عن سداد التزامات الدين السيادي الضخم بعد أن أصابت الأزمة البنوك بالشلل، وأضاف انفجار مرفأ بيروت، الذي أودى بحياة نحو 200 فرد، عبئاً مالياً جديداً على البلاد يقدر بحوالي 4.6 مليار دولار.
ويستخدم البنك المركزي احتياطيات النقد الأجنبي المتناقصة لدعم الواردات الرئيسية مثل القمح والوقود والأدوية، وسيؤدي إلغاء الدعم الذي قال البنك المركزي إنه لا يمكن أن يستمر لأجل غير مسمى إلى مزيد من المعاناة وربما يؤجج التوتر.
وتزامنت مع الانهيار الاقتصادي أحداث بسيطة من الاضطرابات الطائفية والاشتباكات الفئوية، ويهدد المزيد من التدهور بالمزيد من الاضطرابات في وقت يحصل فيه أفراد الأمن على مرتباتهم بعملة تفقد قيمتها سريعاً، وقد وعد المانحون بتقديم مليارات الدولارات لمساعدة لبنان في مؤتمر باريس 2018 عندما عجزت البلاد عن تنفيذ إصلاحات، لكن جعل المانحون من تغيير المسار شرطاً للمساعدة، ووجّه ماكرون رسالة قوية في بيروت في الأول من سبتمبر/أيلول الجاري فقال: "إذا فشلت طبقتكم السياسية فلن نهبّ لمساعدة لبنان".
هل ستحل الأزمة إذا تشكلت الحكومة؟
اللافت هنا أن مجرد تشكيل الحكومة لا يعني أن مشاكل لبنان المتفاقمة ستجد حلاً سحرياً على الفور، فقد تشكلت حكومة في أعقاب استقالة سعد الحريري بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي وترأسها حسان دياب، لكنها فشلت في تحقيق أي شيء ملموس واضطرت للاستقالة بعد تفجير المرفأ.
فثمة تحديات كبرى في الطريق، إذ وضعت فرنسا خارطة طريق تفصيلية للحكومة الجديدة من استئناف المحادثات سريعاً مع صندوق النقد الدولي إلى إطلاق مناقصات للبدء في إقامة محطات كهرباء جديدة، وقالت فرنسا إن من الضروري أن تبدأ الحكومة في معالجة الفساد المستشري بسرعة لضمان الحصول على الأموال الموعودة في مؤتمر آخر للمانحين قالت باريس إنها على استعداد لعقده في النصف الثاني من أكتوبر/تشرين الأول، وهذا معناه أن أي حكومة جديدة سيكون أمامها فترة قصيرة جداً لإنجاز المطلوب، وربما يتعذر ذلك على ساسة لبنان المتشبثين بمواقفهم والذين أخفقوا في تشكيل الحكومة في الوقت المناسب.