من الطبيعي أن يحتل ذلك الاتصال المفاجئ بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، واللغة الدبلوماسية الهادئة التي أخرجت البيانات بشأنه من الجانبين صدارة المشهد، ليس فقط في البلدين، بل في أنحاء أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط أيضاً، فما سر هذا التحول المفاجئ؟
عداء معلن وحملة تشهير بأنقرة
على مدى ما يقرب من عامين الآن أصبح ماكرون رمزاً للعداء لأنقرة بصورة لافتة، على الرغم من كون فرنسا وتركيا عضوين في حلف شمال الأطلنطي (الناتو)، ووجود علاقات متميزة بين البلدين في مجالات التبادل التجاري والمجالات الثقافية وغيرها، ووصلت الأمور إلى درجة خطيرة من التصعيد مؤخراً.
ولم يترك الرئيس الفرنسي فرصة أو تصريحاً إلا واستغلهما لتوجيه انتقادات حادة لتركيا، وهو ما كان يقابله ردود عنيفة من الجانب التركي، وصلت إلى حد وصف أردوغان للرئيس الفرنسي الخميس الماضي بأنه "عديم الكفاءة".
والملفات الخلافية بين باريس وأنقرة كثيرة أبرزها الملف الليبي والنزاع بين تركيا واليونان بشأن الحدود البحرية بينهما في بحري إيجة وشرق المتوسط، ومؤخراً وجه ماكرون انتقادات لتركيا أثناء زيارته للعراق، حيث بدا واضحاً أن الرئيس الفرنسي يسعى لفتح ساحة جديدة للصراع مع أنقرة.
ما سبب الخلاف الفرنسي-التركي؟
لا يزال البحث عن إجابة منطقية لهذا السؤال محيراً إلى حد كبير، فالبلدان لا يوجد سبب مباشر للخلاف المحتدم بينهما، حيث أن أنقرة وباريس تضمهمها مظلة حلف الناتو كحليفين في أقوى حلف عسكري عالميا، كما أنهما لا تجمعهما حدود مشتركة يمكن أن تكون سببا لخلافات تهبط وتصعد حسب الظروف، وبالتالي فإن خلافهما نابع من ملفات إقليمية ودولية تقاطعت فيها مصالحهما.
ويمكن القول إن الصراع في ليبيا بين حكومة الوفاق المعترف بها دولياً ومقرها طرابلس من جهة وبين ميليشيات شرق ليبيا بقيادة الجنرال خليفة حفتر من جهة أخرى يمثل أحد أبرز نقاط الخلاف بين أنقرة وباريس، حيث تدعم تركيا حكومة الوفاق بينما تدعم فرنسا خليفة حفتر.
وقد هاجم ماكرون ما يسميه التدخل التركي في الشأن الليبي بشكل متكرر، ودعا إلى وقوف الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في وجه تركيا، ما أثار انتقادات كثيرة وصلت إلى حد السخرية من الموقف الفرنسي في أحد اجتماعات حلف الناتو للتحقيق في الاحتكاك بين طائرات فرنسية وأخرى تركية، والسخرية هنا سببها دعم باريس لأحد طرفي النزاع وهو الطرف غير المعترف به من جانب حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة، عكس الموقف التركي.
والملف الآخر هو النزاع بين تركيا واليونان وانحياز فرنسا بشكل سافر لأثينا في ذلك النزاع، الذي وصل إلى حد إرسال باريس سفناً حربية وطائرات إلى شرق المتوسط، في استفزاز واضح لأنقرة، على الرغم من أن النزاع الحدودي بين تركيا واليونان ليس جديداً من ناحية، ومن الواضح أن الموقف التركي أقوى من ناحية القانون الدولي وهو ما حال دون وجود موقف أوروبي أو دولي موحد داعم لأثينا، ورغم ذلك اتخذ ماكرون موقفاً وصفته أنقرة بأنه لا يساعد على تغليب صوت الحوار والحلول الدبلوماسية.
ثم جاء الاتصال الهاتفي الإيجابي
لذلك يرى كثير من المراقبين أن التهدئة المفاجئة من جانب ماكرون تجاه أنقرة، من خلال الاتصال بينه وبين أردوغان أمس الثلاثاء، 22 سبتمبر/أيلول، والذي استمر لمدة ساعة، تأتي كمؤشر على فشل الرئيس الفرنسي في إقناع نظرائه في الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات ضد تركيا والانحياز لموقف اليونان بشكل حاسم، في أعقاب فشله في الوصول لنفس الغرض من خلال الناتو فيما يخص الملف الليبي.
لذلك كان طبيعياً أن يُحدث ذلك الاتصال الهاتفي أصداءً واسعة في الصحافة الفرنسية التي سلطت الضوء على الحدث، حيث نقلت صحيفة "لوفيغارو" الشهيرة الاتصال الهاتفي بين الجانبين لقرائها، في خبر عنونته بـ"أردوغان يدعو ماكرون إلى تبني مواقف بنّاءة"، مضيفة في ثنايا الخبر أن الرئيس التركي أعرب خلال الاتصال عن أن بلاده تنتظر من فرنسا خلال هذه المرحلة، اتخاذ مواقف حكيمة وبنّاءة، حسب تقرير لوكالة الأناضول.
وقالت صحيفة "فرانس إنفو" إن "ماكرون دعا تركيا إلى اتخاذ خطوة لإقامة السلام بالمتوسط دون أن يكون هناك غموض، ولإقامة مساحة للتعاون المشترك"، وإن "أردوغان أعرب عن أمله في أن يتخذ ماكرون مواقف حكيمة وبنّاءة"، ولفتت الصحيفة في خبرها أن "هذا الاتصال كان بمثابة بادرة تهدئة بين الطرفين بعد تصريحات حادة متبادلة بينهما".
أما صحيفة "كويست-فرانس"، فأشارت إلى أن ماكرون هو من طلب الاتصال بأردوغان، وأبلغ خلاله رسالة لتركيا بتهدئة توتر الأوضاع بشرق المتوسط، وأفادت الصحيفة في خبرها أن فرنسا تقف بجانب اليونان في أزمة شرق المتوسط، وأن أردوغان طلب من ماكرون خلال الاتصال تبني مواقف حكيمة وبنّاءة.
هل اقتنع ماكرون بضرورة الحوار؟
وفي بيان صادر عن قصر الإليزيه، قال ماكرون إنه مستعد دائماً للحوار، ويولي أهمية لوجود علاقة قوية بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، وأوضح البيان أن الاتصال بين الطرفين امتد لأكثر من ساعة، وتناول موضوعات شرق المتوسط، وليبيا، وسوريا، مشيراً إلى أن ماكرون أعرب عن ترحيبه ببدء المحادثات الاستكشافية بين تركيا واليونان.
كما ناشد ماكرون نظيره التركي إقامة حوار مماثل بين تركيا وإدارة قبرص الرومية، بحسب البيان الذي أشار إلى أن "الرئيس الفرنسي أشار لاستعداده دائماً لأي حوار، وأنه يولي أهمية لوجود علاقة قوية وواضحة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، قائمة على أساس الاحترام المتبادل لمصالح الطرفين".
وأضاف البيان "كما دعا ماكرون تركيا إلى احترام سيادة البلدان الأوروبية، والقانون الدولي، والابتعاد عن أي إجراء جديد أحادي الجانب من شأنه خلق توتر بالمنطقة، وإلى اتخاذ خطوة لإقامة السلام بالمتوسط دون أن يكون هناك غموض، ولإقامة مساحة للتعاون المشترك".
ومن جانبها أصدرت دائرة الاتصال في الرئاسة التركية بياناً أوضحت فيه أن الجانبين بحثا العلاقات الثنائية وعلاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي والتطورات الإقليمية وعلى رأسها شرق المتوسط، وبحسب البيان أكد أردوغان لماكرون أن "تركيا لا تطمع في حقوق أحد، لكنها لن تسمح بهضم حقوقها، وتؤيد الحوار لحل المشاكل الراهنة"، كما شدد الرئيس التركي على أن "سبب التوتر شرق المتوسط هو تجاهل الحقوق المشروعة لأنقرة والقبارصة الأتراك في المنطقة"، معرباً عن استغرابه من دعم فرنسا للادعاءات والخطوات المتطرفة من قبل اليونان وقبرص الرومية والتي تصعد التوتر.