لم يذع الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون سراً عندما أعلن عن انتخابات تشريعية مسبقة قبل نهاية العام الجاري، كما لم يكن القرار مفاجئاً للسواد الأعظم من الجزائريين، ليس باعتباره أحد تعهداته الـ54 خلال حملته الانتخابية، وأحد مطالب الحراك الشعبي، ولكنه سيكون قد أدى دوره الوظيفي بعد الاستفتاء على التعديلات الدستورية في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
وقد سبق للرئيس تبون أن أكد خلال لقائه وفداً عن كتلة قوى الإصلاح الوطني التي تضم 100 من الفعاليات السياسية والمدنية والشخصيات المستقلة، في أغسطس/آب الماضي، أنه سيلي تعديل الدستور مباشرة إعادة انتخاب كافة المؤسسات.
لكن السؤال المطروح هو ما الذي دفع الرئيس إلى الإعلان عن انتخابات برلمانية مسبقة في هذا التوقيت؟ ولماذا تأخر في حل البرلمان كل هذا الوقت؟
يبدو أن قرار الرئيس جاء بعد أن كشف النائب الجزائري بهاء الدين طليبة عن قضايا فساد انتخابي، وعمليات ابتزاز، وطلب رشاوى لتصدُّر قوائم المرشحين للمجلس الشعبي الوطني، ما أثار مطالب جديدة بحل البرلمان.
إثر ذلك تجددت مطالب رَفَعها الحراك بحل مجلسي البرلمان اللذين يعدّهما الحراك نتاج تلاعبات بالانتخابات في عهد الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.
وجاءت المطالبة بحلّ البرلمان في وقت كانت فيه المؤسسة التشريعية تستعد لمناقشة مشروع تعديل الدستور والمصادقة عليه قبل تنظيم الاستفتاء عليه في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، الأمر الذي أثار انتقادات حول أهلية البرلمان الحالي وشرعيته، للتصويت على مشروع دستور يعوَّل عليه لترسيخ قطيعة مع النظام السابق.
البرلمان.. دور وظيفي لا بد منه
بعد انتخابه في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، ظلّ الرئيس تبون متمسكاً بالبرلمان الحالي، رغم أنه يفتقد للمصداقية السياسية، بسبب حالات التزوير التي شابت انتخابه عام 2017، وسيطرة حزبي السلطة جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي على مقاعده، فضلاً عن أن عدداً من نوابه ملاحقون في قضايا فساد، ومحل ملاحقات قضائية، إضافة إلى انسحاب عدّة كتل نيابية، جمّدت عملها فيه، ككتلة حزب العمال والتجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية.
في فبراير/شباط الماضي، لم يُخف الرئيس عبدالمجيد تبون عدم رضاه عن عمل البرلمان بغرفتيه، موضحاً أنه تفادى حل هذه الهيئة قبل تعديل الدستور، "لأن المال الفاسد ما زال في الشارع واستغلال النفوذ مازال موجوداً" -حسبه- وهي التصريحات التي رحّبت بها أحزاب الموالاة والمعارضة على حد سواء.
ظَل البرلمان طيلة عقدين من الزمن محلّ عدّة اتهامات وانتقادات، حيث عُرف نوّابه باستغلال "المال الفاسد" للحصول على مقاعد برلمانية.
وتصدَّر حلّ البرلمان الذي تنتهي عهدته، في مايو/أيار 2022، مطالب المحتجين منذ اندلاع شرارة الحراك الشعبي، في 22 فبراير/شباط 2019، والتي طالبت برحيل كل رموز النظام السابق. لكن السلطة تجاهلت المطلب الشعبي واكتفت بتغييرات شكلية، تمثلت في تنحية رئيس البرلمان معاذ بوشارب، أحد رموز مرحلة بوتفليقة، واستخلافه بسليمان شنين، قيادي محسوب على التيّار الإسلامي.
تمرير التعديل الدستوري؟
وتعتبِر القوى السياسية والمدنية في البلاد المجالس المنتخبة، وفي مقدمتها البرلمان، غير شرعية وموروثة عن العهد السابق، ولا تعكس الأوزان الحقيقية للقوى السياسية، لكونها نتاج تزوير وتلاعب بالانتخابات في عهد الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، وتُطالب بحلّ المؤسّسة البرلمانية الحالية.
لكن الرئيس تبون يرى "أن الواجب يقتضي تطبيق التعديل الدستوري، لأنه ليس من المعقول أن نجدد الهيئات المنتخبة بقوانين مرفوضة شعبياً".
وقال "إن تطبيق التعديل الدستوري -إذا ما وافق عليه الشعب- يستلزم تكييف عدد من القوانين مع المرحلة الجديدة، ضمن منظور الإصلاح الشامل للدولة ومؤسساتها واستعادة هيبتها".
ومن ثم يبدو أن الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون اضطر إلى الإبقاء على البرلمان الحالي، في سياق المحافظة على استمرارية الدولة، وتفادياً لأيّة تطوّرات غير محسوبة وطارئة.
فضلاً عن ذلك ثمة سببان أساسيان على الأقل، دفعا تبون للإبقاء على البرلمان، وهما حاجته إلى المؤسّسة البرلمانية لتمرير خطّة عمل حكومته الجديدة، ومناقشتها من قبل النوّاب، كشرط يقرره النصّ الدستوري لتصبح الحكومة سارية، بعد مصادقة مجلس الوزراء على خطة عمل الحكومة، وثانياً لتمرير التعديل الدستوري قبل عرضه على استفتاء شعبي.
الانتخابات البرلمانية.. عملية سياسية مغلقة طال أمدها
تهيمن على البرلمان بغرفتيه منذ عقدين أغلبية محسوبة على الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، ممثلة في حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، وهي تعد إرثاً ثقيلاً يسعى تبون إلى التخلص منه في طريق بناء ما سمّاه "الجزائر الجديدة".
وتعد العملية الانتخابية أول اختبار لنوايا السلطة في فتح العملية السياسية المغلقة ما يناهز الثلاثة عقود.
لقد التزم الرئيس تبون بإعطاء التوجيهات للحكومة بضرورة التعجيل باعتماد الأحزاب قيد التأسيس، للسماح لها بالمشاركة في الاستحقاقات السياسية المقبلة، وهي الأحزاب التي تشكلت في خضم الحراك الشعبي، ومن قبل ناشطين وشباب انتظموا لمباشرة العمل السياسي.
وتعطل السلطات منحها الترخيص القانوني، برغم استيفائها لكامل الترتيبات الواجبة، بينها حزب السيادة الشعبية، الذي يقوده النقيب السابق في الجيش أحمد شوشان، وحزب المسار، وحركة البداية، وحزب العدالة والبناء، وحركة المجتمع الديمقراطي، والتحالف الوطني للتغيير، وحركة عزم التي أعلنت هيئتها التأسيسية رفع دعوى قضائية لدى مجلس الدولة، باعتباره الهيئة العليا في القضاء الإداري، ضد وزارة الداخلية، بعد تعطيل اعتمادها.
البحث عن قوى سياسية جديدة
وعلى اعتبار أن تنظيم انتخابات برلمانية ومحلية مسبقة يبقى أحد الحلول نحو تغيير في الساحة السياسية، على الرغم من أن الوقت لا يبدو كافياً أمام نشأة قوى شبابية جديدة، لأن الانتخابات تحتاج إلى قواعد مهيكلة، فإنه في هذه الحالة الأمل الوحيد أمام بروز قوى جديدة في البرلمان وباقي المجالس هو رفع السلطة يدها كلياً عن تنظيم الانتخابات، أو التفكير في صناعة الفائز كما كان يحدث في السابق.
لقد اتسمت علاقة الرئيس تبون بالأحزاب السياسية بالأحزاب التي هيمنت على المشهد السياسي خلال عقدين بالفتور، وفقاً لتصريحاته الأخيرة، اتضح ذلك لاحقاً في إعلان رئيس البرلمان أن "رئيس الجمهورية أمر بمساعدة مالية للحملات الانتخابية للشبان الذين يترشحون للانتخابات التشريعية المقبلة، من أجل الرفع النوعي من عدد النواب الشباب في المجلس الشعبي الوطني". ما يوحي بأن تبون يرغب في تشجيع المجتمع المدني لدخول المجالس المنتخبة.
لكن في ظلّ الإبقاء على استمرارية الأحزاب التي ظلت لحقبة من الزمن تستغل النفوذ المالي والسياسي في دواليب الحكم، يفتح الباب أمام تساؤلات أخرى، تتعلّق بالمنظومة الحزبية في الممارسة السياسية والعملية الانتخابية، وشروط الترشّح، وغيرها من العوامل التي من شأنها أن تعيد إنتاج منظومة مكرّرة عن سابقتها، وهو ما تتخوّف منه أوساط سياسية ومدنية في الحراك الشعبي، وتُطالب بذلك حلّ هذه الأحزاب ومنعها من النشاط، والتي كانت واجهة لنظام بوتفليقة للسماح بتشكل برلمانٍ جديد ينبثق عن مشهد سياسي، يُتيح المشاركة لقوى ناشئة وكتلٍ سياسية وشبابية معبّرة عن الحراك وعمق المجتمع، ويكون تمثيلاً يعبّر عن حجم مكوّنات المشهد السياسي في البلاد.