يبدو أن الصراع الليبي في طريقه لانفراجة قريبة؛ خضوع خليفة حفتر للضغوط الدولية التي أجبرته على فتح منشآت النفط وإعلان فايز السراج استعداده لتسليم السلطة التنفيذية لحكومة منتخبة وقرب تعيين مبعوث أممي جديد، ومؤشرات أخرى كثيرة ربما أبرزها الحراك الشعبي الداخلي، فهل يشهد أكتوبر/تشرين المقبل خبراً سعيداً لليبيين أخيراً؟
كيف أثر الضغط الشعبي في المشهد؟
من المهم البدء من الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها عدة مدن ليبيا في مختلف المناطق من العاصمة طرابلس، مقر حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، إلى المنطقة الشرقية الخاضعة لسيطرة ميليشيات حفتر، والدافع واحد وهو تردي الأوضاع المعيشية، حيث شكلت تلك التظاهرات ضغطاً على الأطراف الداخلية سياسية وعسكرية لإيجاد حلول لأوضاعهم الاجتماعية التي لم تعد تحتمل التأجيل.
ولم يعد لليبيين قدرة على الصبر أكثر، "فقطع الأعناق ولا قطع الأرزاق"، حيث أدى إغلاق ميليشيات حفتر لمنشآت النفط في البلاد منذ مطلع العام الجاري إلى تردي الخدمات العامة وخصوصاً الكهرباء ومياه الشرب التي تعرضت للقصف على مدار 14 شهراً حاول فيها حفتر الاستيلاء على العاصمة وفشل.
وكان من نتائج هذه الاحتجاجات أن الطبقة السياسية قدمت بعض التنازلات، ففايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، المعترف بها دولياً، أعلن استعداده لتسليم السلطة التنفيذية للجهة التي ستختارها لجنة الحوار المشتركة بين مجلس النواب والدولة، بحسب تقرير لوكالة الأناضول.
كما أن رئيس الحكومة المؤقتة عبدالله الثني، قدم استقالته لرئيس برلمان طبرق (شرق) عقيلة صالح، لكن الأخير رفضها، بينما قرر حفتر فتح قطاع النفط بعد ضغوط دولية وداخلية، حيث تسبب غلق الحقول والموانئ النفطية في خسائر تقدر بنحو 10 مليارات دولار خلال ثمانية أشهر.
وكانت قد أجريت انتخابات بلدية ناجحة في مدينتي مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) وغات (أقصى الجنوب الغربي)، فيما أفشلت ميليشيات حفتر تنظيم انتخابات في بلدية تراغن (جنوب غرب)، لكن عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق، وعد بتنظيم انتخابات بلدية في المنطقة الشرقية، عقب احتجاجات عنيفة بالمنطقة.
التدخل الأمريكي عامل مهم
النقطة الأخرى التي لا يمكن إغفالها عند الحديث عن قرب التوصل لتسوية سياسية تنهي الأزمة الليبية هي الدور الأمريكي؛ فعلى الرغم من سخونة الانتخابات وانشغال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السعي للفوز بفترة رئاسية ثانية، من الواضح أن الوجود الروسي على الأرض في ليبيا قد جعل الملف الليبي يحتل مرتبة متقدة في السياسة الخارجية لواشنطن.
ويراقب الجيش الأمريكي بصفة خاصة التحركات الروسية الداعمة لحفتر من خلال مرتزقة فاغنر، وقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً قبل أيام بعنوان: "طائرات هجومية روسية تدعم المرتزقة في ليبيا"، تناول تصريحات مسؤولين عسكريين أمريكيين بشأن الوجود الروسي المتزايد في ليبيا، رغم أن موسكو تنفي دائماً أي تواجد رسمي لها هناك.
ويأتي أيضاً في سياق الاهتمام الأمريكي بالملف الليبي نقطة تعيين مبعوث أممي خلفاً لغسان سلامة المستقيل، ففي الشهر المقبل تنتهي رسمياً مهمة الأمريكية ستيفاني ويليامز على رأس البعثة الأممية إلى ليبيا بالنيابة، ومنذ ستة أشهر لم يتم اختيار خليفة لسلامة، بسبب إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على تعيين رأسين للبعثة الأممية، الأول مبعوث خاص للأمين العام والثاني منسق للبعثة التي تضم نحو 200 موظف أممي.
وفي 15 سبتمبر/أيلول الجاري وعقب تمديد مجلس الأمن ولاية البعثة الأممية في ليبيا لمدة عام كامل، وموافقته على المقترح الأمريكي، حثت خمس دول أوروبية (بلجيكا وإستونيا وفرنسا وألمانيا وأيرلندا)، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، على "تعيين مبعوث خاص في ليبيا، في أسرع وقت ممكن".
ومن شأن تعيين مبعوث أممي جديد في الشهر الداخل، تسريع الحوار السياسي بين أطراف النزاع الرئيسية، بالإضافة إلى الحوار العسكري ضمن لجنة 5 +5 (خمسة ضباط من الجيش الليبي وخمسة من ميليشيات حفتر)، إذ أعلنت الأمم المتحدة أنها تحضر رفقة الحكومة الألمانية لعقد قمة ليبية أخرى، على غرار مؤتمر برلين، في 5 أكتوبر/تشرين المقبل، وهو التاريخ الذي ربما يتمخض عنه اتفاق سياسي شامل يضع نهاية للصراع الحالي.
أخيراً اقتنع الجميع باستحالة الحسم عسكرياً
وقد عبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن تفاؤله بشأن ليبيا بقوله: "لدينا إشارات أمل وممثلتنا الخاصة (ستيفاني ويليامز) تعمل بجد لعقد جولة مقبلة من الحوار الليبي"، كما أعرب مسؤولون أتراك وروس عن تفاؤلهم بشأن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وحل سياسي للأزمة الليبية، خاصة وأن البلدين لديهما ثقل وتأثير على طرفي النزاع، فقد أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، الأربعاء الماضي، عن اقتراب المسؤولين الأتراك والروس من اتفاق حول معايير وقف إطلاق النار والعملية السياسية في ليبيا.
وفي 7 سبتمبر/أيلول الجاري، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، "وصل باقي الأطراف الخارجية تدريجياً والأطراف الليبية، وهذا الأمر الأهم، إلى الإدراك أنه لا حل عسكرياً هناك، ولا بد من بدء الحوار بشكل عاجل".
وكانت الأشهر الثلاثة الأخيرة قد شهدت تكثيفاً للمشاروات بين تركيا وروسيا، حول الوضع في ليبيا، حيث جرت ثلاث جولات بين الطرفين، أولها في 21 و22 يوليو/تموز الماضي في أنقرة، ثم جولة ثانية بموسكو في 31 أغسطس/آب و1 سبتمبر/أيلول الجاري، وآخرها في أنقرة يومي 15 و16 سبتمبر/أيلول.
وبات واضحاً أن جميع الأطراف قد اقتنعت أخيراً أنه لا يوجد طرف قادر على الاستيلاء على ليبيا بقوة السلاح، فبعد هزيمتها في طرابلس ومعظم مدن المنطقة الغربية، وصلت ميليشيات حفتر إلى قناعة بصعوبة السيطرة على كامل البلاد، خاصة في ظل وقوف تركيا إلى جانب الحكومة الشرعية.
وفي الوقت ذاته، تواجه قوات الجيش الليبي التابعة لحكومة الوفاق صعوبة في السيطرة على المنطقتين الشرقية والجنوبية وهزيمة ميليشيات حفتر، المدعومة من روسيا ومصر والإمارت وفرنسا، وهذا التوازن بين الطرفين يدفعهما نحو القبول بالحل السياسي مع استحالة الحسم العسكري.
عقبة وحيدة متبقية
ولا يمكن إغفال ما تم إنجازه من جانب لجنة الحوار خلال اجتماعها في مدينة بوزنيقة المغربية من كسر الجمود السياسي، الذي ساد البلاد منذ إطلاق حفتر هجومه الفاشل على طرابلس في أبريل/نيسان 2019، حيث اتفقت اللجنة على آليات توزيع المناصب السيادية السبعة ومنها محافظ البنك المركزي.
لكن الأهم هو أن لقاء وفد من مجلس نواب طبرق بوفد من المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) في بوزنيقة شكل انطلاقة للحوار السياسي، والمقرر أن يستأنف في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري، كما أن لجنة الحوار ستوكل لها مهمة أساسية، تتمثل في اختيار رئيس مجلس رئاسي جديد خلفاً للسراج، لكن مع نائبين فقط، بدل 8 أعضاء، ورئيس حكومة منفصل عن الرئاسي، خلال اجتماع من المقرر أن يعقد في جنيف أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
مما يعني أن برلمان طبرق سيقتسم السلطة مع مجلس الدولة في طرابلس، لمرحلة انتقالية رابعة تمتد لعام ونصف، تنتهي باستفتاء على الدستور وانتخابات برلمانية ورئاسية، ولكن تظل هناك عقبة وحيدة تتمثل في تصريحات حفتر الأخيرة برفضه الحوارات التي تجري في المغرب وسويسرا.
لكن من الواضح أن نفوذ حفتر ينحصر تدريجياً، في ظل المساعي الدولية لتهميش دوره بسبب تعنته وعدم قبوله بالحلول الوسطى، إضافة إلى تخلي داعميه عنه من خلال ترحيبهم المعلن بالمبادرات الجارية للتوصل إلى مخرج سياسي للصراع.