أثار قول الرئيس اللبناني العماد ميشال عون إن لبنان ذاهب إلى جهنم إذا لم يتم تشكيل الحكومة حالة من القلق الشديد في لبنان، وأطلق تساؤلات حول مقصد الرجل الذي كان يقدم نفسه باعتباره الرئيس القوي للبنان.
وجاءت كلمات عون الصادمة رداً على سؤال من الصحفيين حول: إلى أين يتجه لبنان إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بين القوى السياسية اللبنانية حول تشكيل الحكومة، رد عون قائلاً: "طبعاً على جهنم".
وعبّر العديد من النشطاء عن تخوفهم حيال ما ستكون عليه الأوضاع في لبنان، في ظل الظروف الراهنة وتعثر تشكيل الحكومة.
وبينما لم يحدد الرئيس اللبناني ماذا يقصد بالتفصيل، فإن الإجابة جاءت من الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، القادم لتوه من باريس، في زيارة قيل إنه التقى خلالها بخلية الأزمة الفرنسية التي تتعامل مع المعضلة اللبنانية، وعلق على تصريحات الرئيس اللبناني.
لبنان ذاهب إلى جهنم.. ما هي الإجابة التي جاء بها جنبلاط
اللافت أن جنبلاط المشهور بتقلباته بين حزب الله وتيار المستقبل (رغم أنه أقرب للأخير) انتقد في تصريح عقب عودته من فرنسا سعد الحريري، وما يعرف بنادي رؤوساء الحكومات السابقين (سنة)، كاشفاً عن محادثة جرت بينه وبين الحريري من باريس، وقال إنها "لم تكن إيجابية وانتهى الموضوع".
كما لفت جنبلاط إلى أن رئيس مجلس النواب زعيم حركة أمل نبيه بري أبلغه أن إصرار حزب الله وأمل على التمسك بتعيينهم وزير المالية ليس مسألة محاولتهما فرض عرف أن يكون وزير المالية شيعياً، ولكنه قال له إنّ هناك ضغطاً عليه لإبقاء وزارة الماليّة مع الطائفة الشيعيّة، في إشارة إلى أن هذا الضغط يأتي من حزب الله على بري
كما انتقد إيران قائلاً "يحق لي أن أتكلم وأقول إن إيران، وعبر ممثليها، يعطلون البلد عن آخر فرصة".
وقال: "فليسمحوا لي، الجميع يزايد على البلد، وهذا يريد أن يعيد شعبيته، وذاك يذكر بوجوده، والثالث حزب الله يمثل دولة كبرى، وبرأيي يستطيع أن يكمل صراعه مع الدول الكبرى، لكن فليرحم لبنان قليلاً".
مضمون كلمات جنبلاط يُسقط ما يقال إن برّي قرر التشدد بعد العقوبات الأمريكية على الوزير السابق علي حسن خليل، وهو ما يؤكد تقارير بأن التشدد بوزارة المال اتخذ في اجتماع عقد بين الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وبين معاوني بري المشهورين بلقب الخليلين، قبل يوم من انتهاء مهلة الخمسة عشر يوماً الفرنسية لتشكيل الحكومة، وعندها أبلغهما نصر الله بضرورة التشدد بوزارة المال، لمواجهة الحصار الذي يتعرض له الثنائي الشيعي.
الخوف من الحرب الأهلية
ذهب جنبلاط أبعد من ذلك فيما رمى إليه، معتبراً أن إيران وأمريكا تلتقيان على عدم تشكيل حكومة في لبنان، وذلك بهدف ربط الساحة اللبنانية بما يجري في الإقليم.
يرى مراقبون أنه عندما يتخذ وليد جنبلاط مثل هذه المواقف، يكون مسكوناً بهواجس كثيرة. مرر رسالة أساسية لا بد من التوقف عندها، منها أنه تعلّم من تجربة والده، عندما كان يريد تغيير النظام سلماً فوقعت الحرب.
يبدو أن ما يخشاه جنبلاط هو تكرار الحرب الأهلية، لاسيما أن النقاش الدائر حالياً في لبنان أصبح مشابهاً إلى حدّ بعيد للمقدمات التي سبقت الحرب الأهلية في عام 1975، كما أن هناك أوجه تشابه أخرى مثل وجود سلاح في يد ميليشيات حزب الله كما كان الحال ما قبل 1975، والانقسام العميق في لبنان.
ولكن فارقاً كبيراً لم يشر إليه جنبلاط بين الوضع الحالي والوضع قبل الحرب الأهلية 1975، ففي الحرب الأهلية الأخيرة كان هناك توازن قوى نسبي بين الجهتين المتحاربتين (اليسار اللبناني والدروز والفلسطينيين) مقابل (الموارنة ومعهم معظم أجهزة الدولة) إضافة إلى النظام السوري).
ولكن اليوم هناك تفوق عسكري وأمني ساحق للشيعة وحلفائهم المسيحيين مثل عون وفرنجية، مقابل منافسيهم السنة والدروز، وما يُعرف بمسيحيي 14 آذار، فقد نزع النظام السوري سلاح كل الميليشيات تقريباً إلا أمل وحزب الله بدعوى أنهما مقاومة.
نعم، مع أغلب الأحزاب اللبنانية سلاح على الأرجح، حسبما تقول مصادر مطلعة على الشأن اللبناني، ولكن لا يقارن بسلاح الثنائي الشيعي.
ورغم ذلك تريد الولايات المتحدة والسعودية استغلال الفرصة لإضعاف حزب الله، ومن هنا فإن الحزب لا يعارض الإصلاحات المقترحة بقدر ما يخشى أن تتحول إلى وسيلة لإضعافه.
تريد الرياض وواشنطن أن تكون الإصلاحات والحكومة المقترحة مقدمة لخطة للتصدي لحزب الله وإضعافه، أو ترك لبنان يغرق اقتصادياً، ولكن الفرنسيين يعلمون أن هذا أمر غير واقعي.
وما يحدث هو العكس، فكما يقول جنبلاط الحصار والعقوبات على لبنان تضعف الدولة، وما يخشاه لبنان أن انهيار الاقتصاد وإضعاف الدولة لن يضعف حزب الله، بل سيدفع الحزب لمحاولة حماية الشيعة من آثار الانهيار قدر استطاعته، وبالتالي سيزداد التفاف الشيعة حول الحزب في زمن الأزمة، كما سيدفع كل الطوائف اللبنانية إلى الالتفاف حول زعاماتها الطائفية، بحثاً عن أي دعم، والأهم بحثاً عن الحماية، في ظل احتمال انهيار الدولة والقوى الأمنية والعسكرية.
ولذا كان كلام جنبلاط عن العودة لنظام المتصرفية الذي فرضته الدول الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في نهاية العصر العثماني، بهدف وقف الحروب الأهلية بين الموارنة والدروز، وبناء نظام لصالح المسيحيين في لبنان.
هذه المرة العودة للحرب ستكون مع عزلة عن العالم
ما يخشاه جنبلاط، أن النظام اللبناني ينهار من نظام طائفي له مسحة من الحداثة، بسبب انهيار نظامه المصرفي الذي كان درة تاج لبنان، فلبنان لن يعود لعهد الحروب الأهلية السابقة بل أسوأ، فحتى في عهد حروبه الأهلية، كان لدى لبنان نظام مصرفي متطور وجامعات راقية، وكان واجهة المشرق العربي على المتوسط عبر مرفأ بيروت الشهير، أو حسب تعبير البعض مرفأ رُكب له دولة، أو كما كان يقول كمال جنبلاد في معرض انتقاده للنموذج اللبناني.. "لبنان فيدرالية الطوائف، ودكان مفتوح على البحر"، ولكن الدكان أرففه أصبحت خاوية، والمرفاً الذي يصله بالبحر دمر، وعلاقته بالمتوسط أصبحت تقتصر على هجرة أبنائه بطرق غير شرعية لأوروبأ، لا استيراد البضائع لتوزيعها في البلدان العربية الأخرى، أو كمكان يستمتع به السياح القادمون من البلدان العربية المتوسطة.
كان لافتاً انتقاد جنبلاط لكل الأطراف، بما فيهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على ما حدث للنظام المصرفي اللبناني، قائلاً "نحن أضعفنا أنفسنا، الطبقة السياسية أضعفت النظام، منذ رفيق الحريري، عندما كانت تعيش في أيام السخاء طلبت من رياض سلامة، من البنك المركزي أن يخفض الفائدة، لكنهم لم يريدوا لأنهم استفادوا من الجميع، من بعض الموظفين الصغار، إلى كبار القوم، ولا أستثني نفسي".
لكن هناك سينايو أسوأ
يخشى جنبلاط الحرب الأهلية كما يبدو، ولكن الحرب الأهلية تقع بين فرقاء متقاربين في القوة، أما اليوم فهناك تفوق شيعي ساحق، تفوق نابع من طبيعة الشيعة الاجتماعية الأكثر ريفية، والأكثر تمسكاً بالعصب الطائفي المشحون بالإحساس بالمظلومية في مواجهة طائفة سنية لم تشارك يوماً بالحروب الأهلية، بفضل طبيعتها المتمركزة في المدن.
كما أن الشيعة المتقارين عددياً مع الطائفة السنية هم أكثر عدداً مما عداها من الطوائف، وأقوى حزب مسيحي في البلاد وهو التيار الوطني الحر، حليف لحزب الله، ويعتبر كلاهما حليفاً بالضرورة في حرب الأقليات في الشام على الأغلبية العربية السنية.
وأي حرب أهلية نتيجتها معروفة على الأقل في المدن المشتركة بين السنة والشيعة، في ظل سيطرة حركة أمل على المفاصل الأمنية لهذه المدن، بعناصر يختلط فيها الميليشياتي بالخارج على القانون (أحداث 7 أيار خير دليل).
والأهم أن حزب الله يُحكم سيطرته على الطائفة الشيعية، وأقنعها بأن الطائفة والحزب وجهان لعملة واحدة، بينما وجهته وقراره من خارج الطائفة وخارج لبنان برمته.
بالنسبة للحزب فإنه الجندي الأكثر بسالة والأكثر ولاءً، في جيش المرشد الإيراني، أكثر ولاء من الإيرانيين أنفسهم، إذ سبق أن نُسب لنصر الله قوله "أعلن أن مكانة ولاية الفقيه فوق الدستور اللبناني، وتنفيذ أوامره واجب إجباري".
والحزب الذي تحمل القصف الجوي الإسرائيلي الضاري في عام 2006، لن يهاب العقوبات الاقتصادية الأمريكية وانهيار المصارف أقل ضرراً عليه من القوى الأخرى في ظل أساليبه السرية لنقل الأموال.
ونصر الله الذي توفي ابنه في القتال مع إسرائيل تبدو قضايا مثل انهيار المصارف اللبنانية وأزمات المواطن اللبناني المادية، صغيرة أمام أهداف الجمهورية الإسلامية التي يمثلها، والتي ترى نفسها امتداداً لآل البيت، وبالتالي فإن مصير الكيان اللبناني يتضاءل أمام هذه الأهداف التي يراها حزب الله تعود لـ1400 عام، ففي كل أزمة تقول دعاية حزب الله للشيعة لن تُسبى زينب مرتين.
والأزمات الاقتصادية التي تسحق اللبنانيين، وما يصاحبها من ضغوط أمريكية، لن تثنيهم، بل إنها قد تؤدي إلى مزيد من التصلب في إطار مباراة للنفس الطويل يرى الإيرانيون وحزب الله أنفسهما الأمهر فيها، وهي غالباً مباراة يأمل إيران وحزب الله أن تنهيها هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية.
وبينما يريد الأمريكيون والسعوديون أن يضغطوا على لبنان برمته من أجل إضعاف حزب الله، فإن الحزب يعتبر لبنان كله رهينة في مواجهة هذه الضغوط.
وكما يتوقع جنبلاط فإن النتيجة ستكون في الأغلب خروج لبنان، البلد الذي كان يفاخر بأنه الأكثر انفتاحاً بالمنطقة (وقد يكون من الأكثر انفتاحاً على مستوى العالم) من الحضارة الحديثة، وعودته للعصور البدائية بدون حتى امتلاك أدواتها، وساعتها فإن تحذير رئيس وزراء لبنان السابق حسان دياب من المجاعة قد يكون متفائلاً.