منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 ويعيش العراقيون أوضاعاً أمنية أشد قسوة مما كانت عليه في السابق، فغياب الأمن واستشراء القوة الطائفية والنفوذ العسكري للميليشيات المسلحة بات يشكل تحدياً كبيراً أمام عودة العراق إلى الاستقرار المنشود.
قصص الاعتقال والموت في السجون كثيرة ومنتشرة إلى حد يدمي القلوب، وإلى اليوم لم يُقدّم للقضاء العراقي أيٌّ من مرتكبي جرائم التعذيب في السجون الحكومية المعلنة في العراق، ولم تُشكِّل الحكومات العراقية المتعاقبة أي لجنة حقيقية للتحقيق في جرائم التعذيب وسوء المعاملة في سجونها.
فقد انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة أشد غرابة من غيرها في بلدان العالم الثالث، إذ أصبح المعتقل في العراق بلا تهمة يواجه مصيراً مجهولاً قد يمتد به إلى عشرات السنين دون محاكمات أو تحقيقات قانونية حقيقة، ما يدفع ببعضهم لشراء تهمة يحاكم بها ولو ظُلماً حتى يعلم لنفسه موعد قد يخرج فيه إلى الحرية المحروم منها، وفي سبيل ذلك تدفع أسرة المعتقل الواحد عشرات الآلاف من الدولارات، لا ليخرج بل ليحاكم ظلماً، فظلم هنا أخفّ من ظلم هناك.
امتدت الظاهرة في التمادي، حتى وصل بكبار الضباط إلى ابتزاز المعتقلين وإجبارهم على دفع المال مقابل نقلهم إلى سجون أقل عدداً في نزلائها لتقليل خطر إصابتهم بفيروس كورونا، ومبالغ أخرى لمنحهم حق رؤية الشمس أو الاستحمام أو حتى قبول زيارة ذويه مرة كل عدة أشهر، ومن لا يدفع ينكّل به، بل وينفى إلى سجن أشد قسوة وأسوأ سمعة.
كل ذلك في ظل سيطرة الأحزاب على القضاء العراقي، وعلى الرغم من أن السلطات في العراق ملزمة باحترام اتفاقية مناهضة التعذيب بموجب القانون رقم (30) لسنة 2008، فإن الدولة لم تلتزم بمواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية، وذلك بسبب اختراق أجهزة الدولة الأمنية من قبل الأحزاب والميليشيات العسكرية التي باتت تمتلك لحسابها سجوناً ومعتقلات خارج إطار القانون.
مناشدات وأوجاع
مناشدة مسربة من أحد المعتقلين في سجن الناصرية، مضى على اعتقاله 7 سنوات، بعد أن بدأ زملاؤه يموتون أمام عينيه واحداً تلو الآخر، بسبب مرض السل والحرّ الشديد داخل الزنزانة، أكد فيها أن أحد السجناء توفي بعد يومين من الصراخ والاستغاثة، جراء آلام حادة في بطنه، ولكن لم ترسل إدارة السجن طبيباً يهدئ من أوجاعه حتى مات.
أما السجين الآخر من سجن التاجي الذي قضى بالاعتقال أكثر من 12 عاماً، فقد اضطر على شراء تُهم كي لا يبقى مسجون بدون محاكمات، فقد اشترى أهله تهمة السرقة والتجسس بـ30 ألف دولار، بدلاً من تهمة القتل التي ورطته بتلفيق كاذب من جماعات مسلحة ابتزته لأن كان يعمل صحفياً وكشف عن أسرار الفساد في وزارات الدولة.
سجين آخر من مدينة الموصل دخل السجن بسبب تشابه الأسماء مع عنصر في تنظيم داعش، فكانت هذه التهمة بمثابة تجارة إنسانية تنتهك حقوق الإنسان، فقد باع بيته ليدفع 50 ألف دولار لضباط في وزارة الداخلية كي يحقق بالأمر ويعالج مشكلة تشابه الأسماء في المحكمة، الذي أتبعه إطلاح سراحه بعد اعتقال دام لـ 5 سنوات بتهمة لا أساس لها.
هذه بعض من قصص المساومات وجني الأموال من المعتقلين والمسجونين، وأولئك البشر المظلومين الذين يقبعون في زنزانات الموت دونما محاكمات ولا أي خطوات للبت في قضاياهم الجنائية، وسط فوضى في القوانين والتشريعات وضياع حقوق الانسان في العراق.
سجناء ما بعد الاحتلال الأمريكي
بات تلفيق التهم بغير دليل أو تحقيق والتعذيب دون جريمة، سمة عامة تعرف بها السجون الحكومية في العراق، في ظل ضعف قوة القانون وغياب المساءلة والشفافية، فقد اتهمت الإدارات المختلفة لهذه السجون بتكرار انتهاك حقوق المعتقلين وحرمانهم من ضرورات الحياة بطرق أكثر قسوة وأشد وطأة.
وتأتي هذه الاتهامات في ظل تزايد أعداد المعتقلين في العراق بسبب سهولة تكييل الاتهامات للضحايا والافتقار لإحصاءات دقيقة لأعدادهم، فمعظمهم جرى اعتقالهم بطرق غير قانونية، ويحتجزون في سجون وزارات العدل والداخلية والدفاع الحكومية، التي باتت بعد العدوان الأمريكي في 2003 تدير أكثر من 50 سجناً كبيراً وما لا يقل عن 400 مقر اعتقال معلن في مقرات الوزارات والدوائر التابعة لها.
فضلاً عن أكثر من 1000 مقر احتجاز في مراكز الشرطة المنتشرة في أنحاء المحافظات العراقية، إلى جانب مقرات توقيف غير رسمية تشرف عليها مختلف الأجهزة الأمنية الحكومية، ومقرات اعتقال أخرى وسجون تابعة للأحزاب والميليشيات المتنفذة في الدولة وغير خاضعة لأي رقابة.
منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ارتفع معدل السجناء في العراق فأصبح بعشرات آلاف عما كان عليه قبل الغزو، وبهذا الموضوع يقول خبير أمني يعمل في وزارة الداخلية لـ"عربي بوست": "إن السجون العراقية قبل الإحتلال الأمريكي كانت تضم آلاف السجناء من الذين تمت محاكمتهم بتهم جنائية وفق القوانين العراقية، إلا أن السنوات التي أعقبت الغزو شهدت زيادة غير متوقعة في أعداد السجناء، وجميع التهم كانت تصبّ في خانة الإرهاب".
ويضيف الخبير الأمني: "من الضروري أن نشير إلى أن أكثر من 90% من السجناء هم من سكان محافظات بغداد ونينوى وصلاح الدين وديالى والأنبار وجميعهم من طائفة السنة، مسجونون بسجني التاجي في بغداد، والحوت في الناصرية، عدا السجون السرية التي تكتظ بالآلاف من المعارضين السياسيين والكتاب والصحفيين".
ويؤكد الخبير الذي رفض ذكر اسمه، أن هذا دليلاً على اختراق القضاء العراقي وتحكم الأحزاب السياسية من أجل تصفية المنافسين وتلفيق الاتهامات، وفرض السلاح على سلطة القانون.
ويكشف المسؤول الذي عمل بوزارة الداخلية بين عامي 2003 و2017 أن جميع الذين ألقي القبض عليهم اتهموا بتهم ملفقة تحت وطأة التعذيب، وأنه ومنذ بداية الحرب الطائفية في العراق، وشرع العديد من الضباط وزعماء الحرب في استخدام السجناء كورقة اقتصادية.
إذ يتقاضى الكثير من الضباط مئات آلاف الدولارات من ذوي المعتقلين بحجة الكشف عن مصير ذويهم أو استبدال أوراق تحقيقهم أو تهريبهم من السجون، ويتبع هؤلاء الضباط لأحزاب سياسية معروفة ويعملون ضمن ميليشيات قدمت من خارج العراق وتحديداً من إيران، وذلك بعد الغزو الأمريكي، كما قال الخبير الأمني.
من جهته تحدث النائب في البرلمان العراقي ليث الدليمي حول مشكلة المعتقلين لـ"عربي بوست" وقال: "لات زال مشكلة المعتقلين في السجون الحكومية المعلنة في العراق تشغل الرأي العام دولياً، وتتفق جميع المنظمات الحقوقية على أن قضية المعتقلين العراقيين انتهاك صارخ لحقوق الإنسان".
وهناك إجماع دولي على وصف السجون الحكومية المعلنة في البلاد بأنها أسوأ وسائل الابتزاز في العصر الحديث، حيث يتعرض المغيبون وراء أسوارها إلى جرائم القتل البطيء بالتعذيب والتنكيل والإذلال والإهمال المتعمد، على حد اتهام النائب.
وطالب مجلس القضاء العراقي، ووزارة العدل بالتدخل الفوري والإعلان عن مصير المعتقلين، وتحويل قضاياهم إلى المحاكمات العلنية للبت فيها بأسرع وقت، وقال: "من الضروري أن يتحرك المفتشون في لجنة حقوق الانسان النيابية لوقف عمليات الإتجار بالمسجونين، وإنقاذ المعتقلين من بطش المحققين الذي يمارسون أشد أنواع الترهيب والتعذيب بحق المسجونين".
شهادات من داخل السجون
بحسب شهادات وثّقتها لجنة حقوق الانسان في البرلمان العراقي فإن التعذيب الجسدي والنفسي والجنسي أيضاً سمة عامة تمارس مع عموم المعتقلين بالسجون الحكومية التي نقلوا إليها ولكن بنسب متفاوتة وكانت أشدها في سجني الناصرية، حيث لا يعرفون المعتقلين مصيراً بعد دخولهم، وكلما نقلوا من سجن إلى سجن واجها أشد أنواع التعذيب فيه.
للحديث عما يقع من جرائم داخل السجون يكشف قاضٍ يعمل بسجن الناصرية ومعنيّ بملفات المسجونين والمعتقلين وينسق الإجراءات القانونية في وزارة العدل، لـ"عربي بوست" قائلاً: "جميع السجناء في العراق دون استثناء يعانون من سوء المعاملة وابتزاز ذويهم أثناء زيارتهم، خصوصاً النساء اللاتي يأتين لزيارة أزواجهن أو أبنائهن، فضلاً عن سوء التغذية، واكتظاظ السجون بالنزلاء، وانتشار الأمراض المعدية".
مشيراً إلى أن "السجون الحكومية شهدت في الآونة الأخيرة وفاة العشرات من المعتقلين، خصوصاً في سجني التاجي والناصرية؛ نتيجةً لانتشار الأمراض والأوبئة وسوء التغذية، لكن السلطات والجهات المعنية تتحفظ على نشر عدد الوفيات والأسباب التي أدت إلى وفاتهم".
ويكمل القاضي:" وزارة العدل تخفي أعداد السجناء بسجن الناصرية الذيلا يتسع لأكثر من 4000 سجين، بينما يقبع به أكثر 10500 سجين، وذلك لأنه لا توجد أماكن لبقية المعتقلين الذين يزيد عددهم على 5 آلاف كل عام".
وأضاف:" هذا دليل على انتهاك واضح لبنود ومواثيق حقوق الإنسان، وعلى الحكومة العراقية حماية القضاة والمحامين كي يتابعوا أوضاع المسجونين ويعالجوا أزمة التغييب والاخفاء القسري، فكل من يكشف عن قضايا المعتقلين يتعرض للمضايقات والتهديد بالتصفية أو الإحالة للتقاعد وحرمانه من الوظيفة، وعلى الحكومة حماية القانونيين من ابتزازات الأحزاب السياسية التي تستخدم فصائلها المسلحة لطمر قضايا المعتقلين".
التقينا بالمعتقل مصطفى العبيدي وهو من سكان محافظة صلاح الدين والذي قضى في سجن التاجي أكثر من 4 أعوام وفي سجن الناصرية 5 أعوام، بسبب عمله مع صحفياً بإحدى القنوات الفضائية.
سأله فريق تحقيق "عربي بوست" عن تجربته في السجون العراقية، فكشف عن حجم التعذيب الذي تعرض له، وقال: "تتنوّع أساليب التعذيب الوحشية خلال التحقيق مع المعتقلين في السجون الحكومية، ولاسيّما في سجن التاجي والناصرية، حيث يتعرض السجين لأبشع أنواع التنكيل والتعذيب بوحشية وقسوة لا حدود لها".
وأكد العبيدي في حديثه: "أساليب التعذيب كثيرة ومنها إجبار السجناء على التعري والوقوف أمام النزلاء الآخرين عراة، لإشعار المعتقلين بالانكسار، ومن ثم إجبارهم على التوقيع على ما يدونه المحققون والاعتراف بجرائم لم يرتكبوها".
ويصف العبيدي بعض مظاهر التعذيب التي يتعرض لها المعتقلين، ويقول: "يتعرض المعتقلين للتوثيق من الأقدام والأيدي بأوضاع مؤلمة ولفترات طويلة، ثم يعزل السجين الذي يتعرض للتعذيب عن جميع الموجودين من السجناء أو الحراس قبل الموعد المقرر للتحقيق، ويتم هذا بأوامر مباشرة من المحققين".
ويواصل: "فضلاً عن الضرب المبرح بالعـصي والخراطيم الكبيرة والدعس على رقاب المعتقلين حتى يفقدوا الوعي فإنهم يُصعقون بالكهرباء ويعلقون من أكتافهم لساعات طويلة ويغرقونهم في الماء إلى حد الاختناق، ويُحجز آلاف السجناء في غرف أعدت في الأصل لتخزين الأسلحة والذخيرة، وذلك بسبب عدم استيعاب السجون للأعداد الكبيرة من المعتقلين".
ويتابع الصحفي السجين: "بالرغم من كل هذا الانتهاك الصارخ بحقوقنا، إلا أنني ومن المعتقلين دفعنا أكثر من 100 ألف دولار كي نستطيع الخروج من السجن بعد انقطاع أخبارنا عن أهلنا لـ4 سنوات، حتى ظنت بعض العائلات أننا قُتلنا في السجون فأقاموا لنا مجالس للعزاء".
مساومات بآلاف الدولارات
كان لا بُد من الوصول إلى أحد العاملين بالسجون العراقية للتعرف على الكيفية التي تتم بها مساومة السجناء، وبالفعل، استطاع فريق تحقيق "عربي بوست" التواصل مع أحد الموظفين العاملين في سجن التاجي المتورّط بملفات الانتهاكات الانسانية لدى المنظمات الدولية.
ويتحدث الموظف الذي يعمل في قسم الأرشيف والتوثيق، وقد طلب عدم الكشف عن اسمه، وقال لـ"عربي بوست" إن عملية المساومة التي تجري في سجن التاجي لها أبعاد كثيرة ومتعددة وتثبت تورّط كبار الضباط بالابتزاز واستغلال ظروف السجناء الصعبة، حيث يتلقى الضباط أوامرهم من أحزاب وجماعات مسلحة، طلبوا من الضباط المسؤولين على السجن تعذيب السجناء وإبقائهم في زنزانات انفرادية، واخفاء أخبارهم عن عائلاتهم".
ويضيف المصدر من داخل سجن التاجي قائلاً: "تتم عملية المساومة من خلال تواصل مسؤولي السجن مع النزلاء ومطالبتهم بأموال طائلة من أجل تحسين ظروف سجنهم، لكن الغالبية العظمى من السجناء يقبعون في ظل ظروف صعبة للغاية تفتقر لأبسط حقوق الإنسان، إذ يحرم الكثير منهم من التعرض لأشعة الشمس 15 يوماً على الأقل، ولا يتاح لهم الاستحمام إلا 5 دقائق مرة واحدة في كل أسبوع".
ويلفت المصدر الانتباه إلى أن السجناء يطلبون من ذويهم أثناء الزيارة أموالاً لإعطائها للضباط لينقلونهم إلى عنابر أفضل ومنحهم فرصة للتعرض لأشعة الشمس والسماح لهم بالاستحمام.
مؤكداً أن المساومة تجري على قدم وساق، وأن بعض السجناء دفع الواحد منهم أكثر من 7 آلاف دولار على مدى عامين كاملين ليحصل على حقه كسجين.
ويشير المصدر إلى أن الوجه الثاني للابتزاز يأتي بمساومة الضباط للنزلاء، فيطلبون منهم أمولاً مقابل عدم نقلهم إلى سجن الحوت في الناصرية سيئ السمعة، فيهددهم الضباط بنقلهم إلى سجن الناصرية، إذا لم يدفعوا أموالاً أخرى، وهنا تضطر أسر السجناء لدفع أموال تصل إلى 20 ألف دولار مقابل إبقائهم في سجن التاجي".
وزارة العدل هي المسؤولة
وبحسب حقوقيون يعملون مع منظمات مناصرة لقضايا المعتقلين فإن مشكلة السجون في العراق تندرج تحت مسؤوليات وصلاحيات وزارة العدل وبإمكانها أن تعالجها، حيث تنقسم أزمة الانتهاكات بحق المعتقلين إلى قسمين: أولهما هو اختلاف معاملة السجناء وفقاً لمذهبهم العقائدي وديانتهم.
أما السبب الثاني هو تغييب وإخفاء معتقلي الرأي والمعارضين في سجون سرية تعرفها وزارة العدل فقط، فضلاً عن أن السجون ذاتها وفي جميع المحافظات تفتقر إلى أبسط مواصفات السجون التي تنص عليها مواثيق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
كان التوجه إلى وزارة العدل هو السبيل الوحيد للوقوف على مدى صحة الاتهامات الموجهة ضد ضباط تابعين لها في مساومة السجناء في مختلف السجون أم لا.
التقى فريق "عربي بوست" بالمتحدث الرسمي في وزارة العدل حيدر السعدي، الذي قال: "إن أغلب التهم الموجهة ضد وزارة العدل وضباطها بمساومة السجناء وابتزازهم غير دقيقة، وأن هناك حالات فردية من ضباط معروفين تم تحديد هوياتهم وأحيلوا للتحقيق وعوقبوا وصدرت بحق بعضهم أحكام قضائية بالسجن وبالعقوبات الإدارية والعسكرية، لكن ما يتم إثارته في الإعلام مبالغ به".
وتابع المتحدث الرسمي لوزارة العدل: "إن مفوضية حقوق الإنسان ولجنة حقوق الإنسان النيابية تزور السجون وتكتب تقارير دورية، ولم ترد في تقارير هذه الجهات أية معلومات عن مساومات يجريها الضباط ومسؤولو السجون مع النزلاء إلا في حالات معينة ومحدودة تم التعامل معها وفق القانون"، بحسب تعبيره.
من جهته، يؤكد علي البياتي، عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان، لـ"عربي بوست" أن "وضع السجون العراقية من الناحية الانسانية عليه الكثير من الملاحظات والمؤشرات المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان، فالحكومات المتعاقبة على العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003 تتعمد إساءة معاملة السجناء وابتزازهم واستغلالهم، إذ تحولت السجون إلى ساحة لتصفية الحسابات السياسية بين الأحزاب".
ويشير البياتي إلى أنه وعلى الرغم من التحسن الملحوظ في وضع السجون العراقية، إلا أن هناك نقاطاً عدة لا تزال بحاجة إلى معالجة، إذ إن العراق بحاجة إلى مزيد من بناء السجون بسبب اكتظاظ السجون بالنزلاء وضيق مساحات السجون، وقد وثقنا في مفوضية حقوق الإنسان العديد من حالات عدم توافق ظروف السجناء مع معايير حقوق الإنسان العالمية.
وعن المساومات التي يجريها بعض الضباط مع السجناء، يوضح البياتي أن "مفوضية حقوق الإنسان أشارّت لبعض هذه الحالات بالفعل ورفعت عنها تقارير دورية، لكن وزارة العدل وإدارات بعض السجون رفضت لأكثر من مرة دخول أعضاء المفوضية إلى السجون للتأكد من الشكاوى التي وردت إلى المفوضية تتعلق بمساومات واستغلال وانتهاك لحقوق الإنسان.
خصوصاً بعدما تسرّبت أخبار من داخل السجون عن ابتزاز أسر السجناء لإجبارهم على دفع مبالغ بين 10 آلاف دولار إلى 25 ألف دولار ثمناً لعدم تعرّض أبنائهم للتعذيب وللسماح بزيارتهم مرة كل 3 أشهر".
ويختم البياتي حديثه قائلاً: "أبرز حالات الانتهاكات تحدث في سجون التاجي في شمال العاصمة بغداد وفي سجن الحوت بالناصرية وفي سجن تلكيف في محافظة نينوى، ووزارة العدل تدرك جيداً خطورة عمليات المساومة ورشاوى الضباط، لكن ربما يتعرض المحامون والمحققون في الوزارة لضغوطات بتهديد السلاح".
وهذا ما يجب أن تعرفه المنظمات الأممية التي من الضروري أن تتدخل وتضغط على البرلمان العراقي لتشريع قوانين صارمة لإيقاف عملية المتاجرة بالسجناء، على حد مطالبة البياني.
أرقام وإحصائيات متزايدة
يواجه العراقيّون منذ أكثر من عقد ونصف، الكثير من التحدّيات، أبرزها فقدان الأمن وتغول الميليشيات فضلاً عن غياب القانون، ويعاني عشرات الآلاف من السجناء والمعتقلين من الإهمال الصحي،خاصة مع تفشّي فيروس كورونا في العديد من السجون والمعتقلات.
ويكشف ضابط تحقيق برتبة عميد في لجنة تقصي الحقائق النيابية لـ"عربي بوست" أن آلاف السجناء يعيشون في أوضاع مزرية وأن تفشي فيروس كورونا في العراق، يشكل خطراً إضافياً على حياة المعتقلين المأساوية.
ويؤكد العميد -الذي فل اخفاء اسمه- أن السلطات منذ عام 2016 وحتى الآن اعتقلت أكثر من 60 ألف شخص، بينهم قرابة 1000 امرأة، يتوزّعون على 13 سجناً، فضلاً عن عشرات السجون السرّيّة التابعة للمليشيات والأحزاب وفصائل مسلحة موالية لإيران.
وأضاف: "السجون العراقية بأقسامها المختلفة بها أكثر من 25 ألف موقوف على ذمة التحقيق أو طور المحاكمة، وأن الأموال والرشاوى التي يُجبر على دفعها ذوي الموقوفين لتحسين أوضاع رعاياهم لا يمكن السكوت عنها لأنها بدأت تتكشف وتخرج للإعلام والصحافة".
وهذا لا يشمل أعداد المتظاهرين الذين اعتقلتهم قوات مكافحة الشغب فأكثر من 1500 متظاهر معتقل في سجون سرية موجودة بمحافظة المثنى والحلة والديوانية، تم الإفراج عن 300 منهم بعد دفع فدية مالية لضباط في جهاز الأمن الوطني المسؤولين على التحقيقات، حسبما كشف المصدر الأمني.
من جانبه قال باحث اجتماعي في سجن التاجي ـ رفض الإشارة إلى اسمه ـ لـ "عربي بوست" إن إدارة السجن تمارس تعذيباً نفسياً على السجناء ببث شائعات عن انتهاء معاناتهم واقتراب الإفراج عنهم لامتصاص غضبهم، ثم يتم تشكيل لجان مزيّفة للاستماع لمطالبهم، وتمنحهم وعوداً بتحسين أوضاعهم، في الوقت الذي تشي فيه تلك اللجان لإدارة السجن عن المعتقلين المعترضين على الأوضاع العامّة، لمعاقبتهم".
وتابع الباحث الاجتماعي: "تستخدم إدارة السجن سياسات قاسية ضد السجناء بمنع أفراد العائلة من الرجال من زيارتهم واقتصار الزيارة على النساء خشية خروج شكاوى من داخل السجن".
وقال:" تشير التقديرات إلى أن عدد المعتقلين على خلفية تهمٍ تتعلق بالإرهاب في السجون التابعة للحكومة العراقية بلغ نحو 17 ألف معتقل، بينهم 1875 امرأة منذ عام 2014، وأن هذا خلال 6 أعوام فقط، وأن هناك أكثر من 20 ألف معتقل هم من المختفين بالسجون السرية التي يحكمها فصائل مسلحة تابعة لأحزاب مشاركة في الحكومة العراقية".
من جهتها تتحدث مديرة قسم الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش لما فقيه وتقول "إن السجون العراقية تفتقر للمعايير الإنسانية، فضيق المساحة وعدم السماح لذوي السجناء بزيارة ذويهم، وبعض حالات المساومة، كلها عوامل تطالب المنظمة بضرورة إيجاد حلول لها.
وقالت :"على القضاء العراقي أن يتعاون مع المختصين من أجل إنقاذ أرواح المعتقلين، ومحاسبة الضباط الذين يبتزون المسجونين بآلاف الدولارات مقابل تحسين أوضاعهم في السجن".
منظمات إنسانية تطالب بحل الأزمة
وتتواصل مناشدات منظمات إنسانية محلية ودولية للحكومة العراقية باتخاذ موقف عاجل من الانتهاكات الإجرامية التي ترتكب داخل سجن التاجي العراقي شمال من بغداد، ولعل أسوأها اضطرار بعض المساجين لشراء تُهم جنائية ليتمكنوا من العرض على القضاء حتى لو حُكم عليه بالسجن لعدة عوان، فذاك أهون عليهم من البقاء في الاعتقال طوال العمر دون محاكمات.
خاصة أن 55% من المعتقلين البالغ عددهم نحو 65 ألف شخص، لم يخضعوا للمحاكمة منذ عام 2014، بحسب مراقبين وحقوقين.
وحول التحرك المدني يقول رئيس منظمة السلام لحقوق الانسان محمد علي لـ"عربي بوست": "لدينا معلومات تشير إلى ارتفاع معدل الانتهاكات في السجون، وتشهد أخطر السجون في نينوى والناصرية والبصرة عقاباً جماعياً تمثل في إخراج مئات النزلاء عراة إلى باحة السجن عدة ساعات تحت درجة حرارة تصل إلى 55 مئوية، ما أدى إلى وقوع حالات إغماء بين العشرات منهم، وإصابة آخرين بأمراض خطيرة".
وأضاف:" المسؤولين عن سجن التاجي والناصرية يعرضون على من العتقل الوارد إليهم دون تهمة أن يشتري لنفسه تُهمة ما ليحصل على محاكمة، وإن سعر القضايا المُباعة قد يصل إلى خمسين مليون دينار عراقي أي ما يعادل 40 ألف دولار تقريباً".
وذلك يتحدد حسب الفترة التي يرغب السجين أن يقضيها بالحبس، فكلما قصرت فترة الحبس كلما زاد سعر التهمة، فبقاء النزيل بدون قضية أو تهمة محددة يعني بقاءه إلى أجل غير معلوم، وربما يقتل في السجن.
من جانبه يؤكد رئيس مركز بغداد لحقوق الانسان مهند العيساوي لـ "عربي بوست" أن المعتقلين يعانون سوء المعاملة والإهمال الطبي، وقلة الغذاء، وسوء التهوية، والتزاحم داخل القاعات، من جراء الزج بأعداد تفوق الطاقة الاستيعابية بما يقارب الضعف، ما أدى إلى تفشي الأمراض الخطيرة، أبرزها السلّ والجرب.
ويقول العيساوي:" إن عدداً من المعتقلين قُتلوا من وحشية التعذيب، كما ازدادت عمليات الاعتقال لتشمل مناطق واسعة في ديالى والأنبار وصلاح الدين ونينوى خصوصاً بعد عمليات تحرير المدن من قبضة تنظيم داعش الارهابي عام 2017″.
وأضاف:" فقد اعتلقت الفصائل المسلحة الكثير من الشباب بتهمة التعاون مع داعش، لكن هؤلاء المعتقلين أبرياء وزج بهم في السجون لأنهم طالبوا بالعودة إلى منازلهم التي احتلها كبار الضباط في الفصائل المسلحة، فعندما عادوا بعد تحرير المدن واجهوا ملفات قضائية ملفقة غير قانونية".
و يؤكد العيساوي "سياسات التعذيب أدى إلى وفاة المئات من المعتقلين، حيث ترفض وزارة العدل الإعلان عن أعداد الوفيات في سجن التاجي والناصرية وبقية السجون في مختلف المحافظات، رغم علم جميع السلطات العراقية، وهذا بحد ذاته انتهاك صريح لحقوق الإنسان".