لا تزال دول عديدة معتمدة بدرجة كبيرة على تدابير التخفيف التي تناسب الصيف، مثل تشجيع الأنشطة الاجتماعية الخارجية (في الحدائق أو المتنزهات)، أو الوقوف في طوابير خارج المتاجر، أو زيارة المسارح الخارجية وسينما وحفلات السيارات. لكن الأمراض الموسمية، مثل الإنفلونزا، تكون أقل انتشاراً في أشهر الصيف، مما يزيد من قدرة الحكومات على التعامل مع كوفيد-19، على عكس الشتاء.
فكيف تبدو احتمالات انتشار الفيروس في الشتاء؟ هل لنا أن نتوقع، أننا سنعود "إلى الحياة الطبيعية بحلول عيد الميلاد"، كما صرحت بعض الدول مثل بريطانيا؟
هل ستزيد خطورة فيروس كورونا في الشتاء؟
تقول صحيفة The Independent البريطانية، إن لندن توصلت لتقرير، بأن المملكة المتحدة يمكن أن تشهد موجة ثانية من المرض تؤدي إلى 120 ألف حالة وفاة جديدة بفيروس كوفيد في الشتاء. وهذا نموذج لسيناريو "معقول" لأسوأ ما يمكن أن يحدث، قدروا أنه سيبلغ ذروته في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط. كما حذر السير جيريمي فارار، عضو المجموعة الاستشارية العلمية لحالات الطوارئ (Sage) التابعة للحكومة، من احتمال عودة الفيروس "عودة مريعة".
ولكن لماذا قد يسير الأمر على هذا النحو؟ هل لأن كوفيد-19 سيكون أكثر انتشاراً في أشهر الشتاء؟ أشارت تقارير، في وقت مبكر من الجائحة، إلى أن كوفيد يمكن أن يزداد سوءاً مع تحول الطقس إلى البرودة، ولكن هذا يرجع إلى حد كبير إلى أن معظم النماذج المبكرة لفيروس كورونا كانت تستند إلى الإنفلونزا التي تزداد سوءاً في الشتاء.
فبمرور الوقت تبين أن كوفيد-19 لا يسير بالطريقة نفسها التي تسير بها الإنفلونزا، التي من المعروف أنها تزداد حدة بين ديسمبر/كانون الأول ومارس/آذار (جزيئات الإنفلونزا تفضل الهواء البارد الجاف الذي يساعد على زيادة انتشارها. لكنها لا تنتقل بشكل جيد في الهواء الساخن الرطب).
يقول روبرت دينغوول، أستاذ علم الاجتماع في جامعة نوتنغهام ترنت، والعضو في لجنة Nervtag (مجموعة تهديدات الفيروسات التنفسية الجديدة والناشئة) التابعة لوزارة الصحة البريطانية، لصحيفة The Independent: "يوجد افتراض بأن كوفيد يسير على نهج الإنفلونزا ولكن لا يوجد دليل يثبت ذلك. ففي الوقت الحالي، لا يبدو أنه يتأثر بالفصول، فقد عانت أستراليا من كوفيد-19 في أشهر الصيف والشتاء".
هل الأمر يتعلق بالبرد؟
يتفق مايكل هيد، الباحث البارز في الصحة العالمية بجامعة ساوثهامبتون، مع أن الحالات في أماكن أخرى من العالم تشير إلى أن الشتاء لن يزيد الأمور سوءاً لمجرد أنه بارد. وقال: "تشير الأعداد المتزايدة من الحالات في البلدان الحارة في المناطق الاستوائية إلى أن أشعة الشمس والرطوبة ربما لا تكونان عاملين مهمين في انتقال العدوى".
وهذا من شأنه أن يفسر أيضاً سبب عدم تراجع الحالات في الصيف، كما كان مأمولاً في البداية، مثلما يقول الدكتور سيمون كلارك، الأستاذ المشارك في علم الأحياء الدقيقة الخلوية بجامعة ريدينغ: "في شهر فبراير/شباط، قال الكثير من الناس إن الفيروس سيختفي في الصيف، وأشعة الشمس والحرارة، وأنا أتفهم السبب الذي يدفع الناس لقول ذلك، لكن البرازيل عانت كثيراً رغم أن طقسها ليس بارداً، والأجواء ليست باردة في ولايتي فلوريدا أو كاليفورنيا الأمريكيتين لكن كلتيهما لديها عدد كبير من الحالات".
إذا كان الفيروس يتحرك بالطريقة نفسها طوال العام، فهل لنا أن نتوقع المعدلات نفسها مثلما هي الآن؟
حتى إذا لم يكن للطقس أي تأثير على انتشار الفيروس، فتوجد عوامل أخرى يجب مراعاتها قد تزيد من صعوبة التعامل مع فيروس كورونا مع دخول فصل الشتاء. على سبيل المثال، التغييرات في السلوك البشري أو الضغوط على المواصلات أو الخدمات الصحية والمستشفيات.
يقول الدكتور كلارك إنه من المحتمل أن الناس قد يصبحون أكثر ميلاً للجلوس في المنازل بسبب الطقس: "قد تجلس في الحديقة مع أصدقائك في هذا الوقت من العام، ولكنك لن تفعل ذلك في ديسمبر/كانون الأول، ولن ترغب في الجلوس في الحديقة في يناير/كانون الثاني، ليس لفترة طويلة على أي حال. والشتاء لا يتيح الفرصة للخروج كثيراً".
وتتفق الدكتورة جينا ماكيوتشي، المحاضرة في علم المناعة بجامعة ساسيكس، على أن الشاغل الرئيسي لن يكون تأثير درجة الحرارة على الفيروس ولكن تأثير درجة الحرارة على السلوك البشري: "التباعد الجسدي سيزداد صعوبة، وهذا بالتأكيد مصدر قلق، ونحن نعلم أن التباعد الجسدي والتدابير الأخرى مهمة للغاية في منع انتشار الفيروس. والخروج أفضل من البقاء في الداخل والطقس اللطيف يسهل من ذلك".
لكن الدكتور دينغوول يقول إن ما يحدد أن هذه مشكلة أم لا يعتمد إلى حد كبير على التهوية في أي مكان: "أرى أن هذه المشكلة ربما هي أقل مما يفعله بعض الأشخاص. مدى التهوية في الداخل سيكون كما هو الآن، وسيظل مرتبطاً بالعدوى وقرب الناس من بعضهم".
ماذا عن العوامل الأخرى؟
حتى لو لم يزدد الفيروس سوءاً في الشتاء، واستمر الناس في الالتزام بقواعد الإغلاق، فالاختلاف الوحيد غير القابل للنقاش هو الضغوط المعاكسة على خدمات الصحة الوطنية في ذلك الوقت من العام. إذ كثيراً ما تعاني هيئات الصحة والمشتفيات من "أزمة شتاء" تؤدي إلى فترات انتظار طويلة في قسم الإسعاف الأولي ونقص في أعداد الأسرّة. وستتعامل هذا العام مع عدد الحالات المعتاد فضلاً عن العمل المتراكم غير المتعلق بفيروس كورونا الذي تأجل خلال الجائحة.
وقد وضعت بعض الحكومات، مثل الحكومة البريطانية بالفعل برنامجاً موسعاً للإنفلونزا لهذا الشتاء، وزادت أعداد مستحقيه أكثر من أي وقت مضى. وقال وزير الصحة مات هانكوك إن الحكومة اشترت كمية كافية من اللقاحات لتقدم "أكبر برنامج في التاريخ" لأي شخص يزيد عمره عن 50 عاماً والأطفال حتى سن المدرسة الثانوية (بالإضافة إلى الأشخاص المستحقين عادةً).
لكن الدكتور كلارك يحذر من أن اللقاح لا يكون ناجحاً على الدوام، حيث يعتمد الكثير منه على التخمين لتحديد السلالات الصحيحة لذلك العام. وقال: "توجد أمثلة على عدم تعرفهم على السلالة الصحيحة، أو أنهم توصلوا إلى السلالات الصحيحة لكن اللقاح لا يعمل جيداً".
يقول الدكتور دينغوول إنه حتى لو لم يكن اللقاح ناجحاً، فقد لا نضطر بالضرورة إلى أن نقلق من موسم الإنفلونزا، وهذا لأن كوفيد-19 لا يزال منتشراً. إذ إن "فيروسات الجهاز التنفسي تجمعها ديناميات غريبة، إذ يبدو أنها تزاحم بعضها. فإذا كان أحدها منتشراً بمستويات عالية، فغالباً ما تبتعد الفيروسات الأخرى. لا أحد يفهم هذه الظاهرة جيداً ولكنها لوحظت في التنافس بين الإنفلونزا وفيروسات أخرى في الماضي".
ويقول إنه يوجد بالفعل بعض المؤشرات من أستراليا على أن هذا ما قد يحدث. ويقول الدكتور كلارك أيضاً إن إجراءات التباعد الاجتماعي وزيادة غسل اليدين قد تمنع الناس من الإصابة بالإنفلونزا في المقام الأول حين قد يُصابون بها عادة.
هل لنا أن نتوقع "العودة إلى الحياة الطبيعية" بحلول نهاية العام؟
يقول الدكتور كلارك إنه قد توجد بعض الأخبار السارة في هذا الشأن لأننا أصبحنا نعرف المزيد عن الفيروس أكثر مما كنا نعرفه من قبل، وأصبح من الأسهل التعامل مع الفيروس في أشهر الشتاء. يقول: "قد يتحسن تعاملنا مع الفيروس في الشتاء لأننا سبق وتعاملنا معه. وازدادت قدرتنا على تقديم الفحوصات حتى لا يمر الناس بدون الخضوع للفحص وتحسنت معرفة الأطباء والممرضات بكيفية التعامل معه".
لكنه نبه إلى أنه من الضروري أن يزداد وعي الناس بالإصابة بنزلات البرد والسعال في فصل الشتاء، التي كثيراً ما نستمر في عملنا ونحن مصابون بها. وقال: "لا بد أن يدرك الناس أنه من الطبيعي جداً أن يبدأ الناس في العطس أو السعال في أواخر الخريف ودخول فصل الشتاء، وكثيراً ما يذهب الناس إلى العمل وهم مصابون بالبرد".
وأضاف: "لكن الناس هذا العام لن يتمكنوا من تحديد ما إذا كانت العطسة العادية نزلة برد أم شيئاً أخطر. وعادة ما يثير أخذ إجازة من العمل جراء الإصابة بالبرد الاستياء ولكنني لا أدري كيف سيجري التعامل مع الأمر هذا العام".
يقول الدكتور كلارك إنه رغم أن مجرد الاقتراب من الحياة الطبيعية أمر "مرغوب فيه"، لكن الساسة يجب ألا "يُدخلوا في أذهان الناس بأن شهر ديسمبر/كانون الأول هذا العام سيكون هو نفسه ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي". ويتفق هيد مع أنه لنا أن نتوقع أن تظل الإجراءات المعمول بها الآن سارية حتى العام المقبل: "ستظل تدابير مكافحة العدوى سارية لأشهر عديدة وربما سنوات مقبلة، ولن تعود الحياة إلى طبيعتها بالكامل كما كانت في عام 2019 في أي مرحلة قريباً".