"أهلاً بكم في جائحة خيبات الأمل والرحلات الملغاة، أو التي لم يجر التخطيط لها من الأساس خشية إلغائها. أما عن لم شمل الأسرة، وسنوات الدراسة في الخارج، والعطلات الكسولة على شاطئ البحر؛ فقد اختفت فجأةً بين ليلةٍ وضحاها. وكلها أمورٌ قضى عليها فيروسٌ ضئيل، وقائمةٌ طويلة من الدول التي لم تعُد تُرحّب بجواز السفر الأمريكي، حتى أصبحت استخدم جواز سفري بشكلٍ رائع في وضعه تحت أكواب القهوة، أو لموازنة أرجل الطاولة المُهتزة"، يقول إريك وينر، الصحفي الأمريكي في تدوينة له بشبكة National Geographic الأمريكية.
"التنقُّل هو أعظم علاقةٍ غرامية"
ثلث الأمريكيين فقط يقولون إنّهم سافروا بين عشيةٍ وضحاها لقضاء وقت فراغهم منذ مارس/آذار، بينما قال 38% فقط إنّهم سيفعلون ذلك على الأرجح بحلول نهاية العام وفقاً لأحد التقارير. ويُخطّط الأمريكيون فقط لمغادرة المنزل في عيد الشكر، الذي يكون أكثر أوقات السفر ازدحاماً في العادة. وترسم هذه الأرقام صورةً قاتمة لحيواتنا الساكنة.
وليس من الطبيعي بالنسبة لنا كبشر أن تكون حياتنا بهذا الخمول والاستقرار. لأن السفر مستقرٌ في جيناتنا. إذ كتب كريستوفر ريان في كتابه "حضريٌ حتى الموت Civilized to Death" أنّنا "عشنا حياة البدو الرُحّل من الصيادين وجامعي الثمار المتنقلين في جماعات من 150 شخصاً أو أقل" غالبية أوقات وجودنا كجنسٍ بشري. وهذه الحياة البدوية ليست مصادفة. بل كانت مُفيدة. لأنّ "التنقّل إلى أرضٍ مُجاورة يُعَدُّ دائماً خياراً لتجنُّب نشوب الصراع، أو لمجرد تغيير المشهد الاجتماعي" على حد تعبير ريان. وعبّر روبرت لويس ستيفنسون عن الأمر بإيجازٍ أكبر قائلاً: "التنقُّل هو أعظم علاقةٍ غرامية".
ولكن ماذا يحدث إن عجزنا عن التنقُّل؟ وماذا لو لم نستطع الصيد وجمع الثمار؟ هناك العديد من الأساليب للإجابة عن هذا السؤال، لكن "اليأس" ليس واحداً منها.
فنحن من الأنواع المُتكيّفة. إذ يُمكننا تحمُّل قضاء فترات وجيزة من الاستقرار القسري. ولا شكّ أنّ جرعةً من خداع الذات قد تُساعد في ذلك. إذ نقول لأنفسنا إنّنا لسنا مُحتجزين. بل نحن فقط في وقتٍ مُستقطع ما بين الرحلات، مثل مندوب المبيعات العاطل الذي يبحث عن فرصة عملٍ أخرى. وتمُر الأيام ونحن نُقلِّب بين ذكريات سفرنا القديمة وصورها على إنستغرام. ونُحدّق في الهدايا التذكارية لأنّ كل تلك الأمور تُساعدنا على التكيّف، لبعض الوقت.
وقد تضرّرت صناعة السفر، كما تضرّر المسافرون. إذ أخبرتني الصحفية المُقيمة في باريس جويل ديدريتش مؤخراً، بعد إلغاء خمس رحلات هذا الربيع: "فكّرت كثيراً في خيبة أملي لدرجة أنّ الأمر كاد أن يكون مؤلماً جسدياً".
وأعتقد أنّ الأمل يكمُن في طبيعة السفر نفسها. إذ ينطوي السفر على الكثير من التفكير الرغبوي. ويتطلّب قفزة ثقة، وبعض الخيال، من أجل الصعود إلى طائرة مُتجّهة نحو أرضٍ بعيدة بكل أمنياتك وآمالك في الحصول على تجربةٍ لا تُوصف. فالسفر واحدٌ من الأنشطة القليلة التي ننخرط فيها دون معرفة نتائجها، ونستمتع بمدى غموضها. إذ إنّ الرحلات التي تسير حسب الخطة تماماً هي الرحلات التي ننساها سريعاً عادةً.
وليس السفر نشاطاً يخضع للمنطق. إذ ليس من المنطقي أن تضغط نفسك داخل مقعدٍ ضيّق لتُسافر بسرعةٍ مُرعبة إلى مكانٍ بعيد لا تتحدّث لغته أو تعرف عاداته. وتفعل كل ذلك بتكلفةٍ كبيرة. ولو توقّفنا لحظةً لتحليل المكاسب مقابل التكلفة، فلن نُسافر إلى أيّ مكان. ولكنّنا نسافر رغم كل ذلك.
ولهذا السبب أنا متفائلٌ بشأن مستقبل السفر. بل أُجادل في الواقع بأنّ السفر صناعةٌ أساسية، ونشاطٌ أساسي. وهو ليس أساسياً بقدر المستشفيات ومحلات البقالة طبعاً. ولكن السفر أساسيٌ بقدر الكتب والعناق. فهو غذاءٌ للروح. وفي الوقت الحالي نحن في تلك الفترة ما بين الوجبات، نتذكر مذاق آخر طبق، ونتطلّع بكل شوقٍ إلى الوجبة التالية. ربما ستكون زنجبار، أو ربما المخيم الذي أردت زيارته في آخر الطريق.
ليست الفكرة في المكان، بل ما نجلبه نحن إلى المكان -والأهم من ذلك هو كيفية تفاعلنا معه. إذ لا يتعلّق السفر بالوجهة، بل بالرحلة نفسها. فالمهم هو العثور على "طريقةٍ جديدة للنظر إلى الأمور" كما يقول الكاتب هنري ميلر. ولسنا بحاجةٍ إلى السفر بعيداً من أجل العثور على منظورٍ جديد.
صناعة السفر ستستعيد عافيتها بكل قوة
وفي أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول، تنبّأ الكثيرون بأن تكون هذه هي نهاية السفر الجوي، أو بداية تراجعه على نحوٍ كبير في أقل تقدير. لكن شركات الطيران استردت عافيتها سريعاً، وبحلول عام 2017 نقلت رقماً قياسياً يُقدّر بأربعة مليارات مسافر. فبعد حرماننا لفترةٍ قصيرة من معجزة الرحلات الجوية؛ صرنا نُقدّر قيمتها أكثر، ونتساهل اليوم مع إزعاج عمليات الفحص والتفتيش من أجل نعمة التنقّل بشحمنا ولحمنا إلى مناطق نائية، حيث نتناول الطعام مع غيرنا من الكائنات البشرية.
لذا لا تتردّد في التخطيط لتلك الرحلة، فهي مُفيدةٌ لك على حد قول العلماء. إذ إنّ التخطيط لرحلةٍ هو أمرٌ مُمتع بقدر الذهاب في الرحلة نفسها. فمجرد التفكير في تجربةٍ ممتعة هو أمرٌ ممتعٌ في حدّ ذاته. فالتوقّع والترقُّب له فوائده.
وقد شهدت بنفسي على حماسة السفر المُتوقّع. إذ إنّ زوجتي، التي لا تُفضّل التصوير الفوتوغرافي في السفر كثيراً، تقضي اليوم ساعات طويلة على إنستغرام في التحديق مُطوّلاً في صور نُزل جبال الألب وحقول الأرز البالية. وحين سألتها في أحد الأيام: "ما الذي يحدث؟"، أجابتني: "الصور آسرةٌ للغاية. إذ تُذكّرني بأنّ هناك عالماً كبيراً وجميلاً حولنا".
كان الكثير منا، بمن فيهم أنا، يأخذون السفر على أنّه أمرٌ مفروغٌ منه. وصرنا بسبب ذلك أكثر كسلاً واعتمادية، وهذا ليس أمراً جيداً على الإطلاق. إذ أخبرني صديقي وكاتب السفر توم سويك أنّه كان ينظر إلى السفر على أنّه من معطيات الحياة. لكنّه يقول الآن: "أتطلّع إلى تجربة السفر باعتبارها نعمةً من الله".