يأتي إعلان رئيس المجلس الرئاسي في حكومة الوفاق المعترف بها دولياً فايز السراج استعداده للتخلي عن منصبه نهاية أكتوبر/تشرين الأول المقبل، كواحد من مؤشرات إيجابية عديدة على قرب التوصل لمخرج سياسي للصراع الليبي، لكن يظل موقف خليفة حفتر غامضاً كالعادة رغم التوافق التركي الروسي المعلن، فما القصة؟
ماذا قال السراج تحديداً؟
أمس الأربعاء 16 سبتمبر/أيلول، أعلن السراج رغبته في تسليم مهامه بحلول نهاية أكتوبر/تشرين الأول، وقال في كلمة نقلها التلفزيون الرسمي: "أعلن للجميع رغبتي الصادقة في تسليم مهامي في موعد أقصاه آخر شهر أكتوبر/تشرين الأول، على أمل أن تكون لجنة الحوار استكملت عملها واختارت مجلساً رئاسياً جديداً ورئيس حكومة"، مشيراً إلى إحراز تقدم في الاتفاق على طريقةٍ لتوحيد ليبيا والتحضير للانتخابات خلال المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف.
تأتي تلك التصريحات في ظل الاتفاق المبدئي الذي توصل إليه وفدا مجلس الدولة الممثل للحكومة التي يرأسها السراج، ووفد برلمان طبرق الذي يرأسه عقيلة صالح ممثلاً لشرق ليبيا عقب اجتماعات بوزنيقة المغربية، التي اتفق الطرفان خلالها على آلية تسمية رؤساء المناصب الرئيسية في البلاد كخطوة أولى نحو التحضير لانتخابات عامة يشارك فيها جميع الليبيين تحت إشراف أممي، وهو ما أشار إليه السراج في إعلانه.
هل استقالة السراج مؤشر إيجابي؟
صحيح أن البعض يرى أن إعلان السراج استعداده للاستقالة قد يزيد من حدة التوتر السياسي وسط جهود لإيجاد حل سياسي للصراع الذي يعصف بالبلاد، لكن المؤكد أن هناك تحركاً نحو اتخاذ خطوات كبيرة في الفترة القليلة المقبلة، وقال طارق المجريسي، الباحث السياسي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية لرويترز، إن "هذه هي فعلياً ضربة البداية لجولة جديدة من المناورات لما سيأتي بعد ذلك"، مضيفاً: "ستترك في النهاية حكومة الوفاق الوطني ككيان وغرب ليبيا متدهور قليلاً".
والسراج يرأس حكومة الوفاق الوطني منذ تشكيلها في طرابلس عام 2015، إثر اتفاق سياسي توسطت فيه الأمم المتحدة، وتم توقيعه في الصخيرات بالمغرب، بهدف توحيد ليبيا وإشاعة الاستقرار بها بعد الفوضى التي اجتاحتها عقب الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، لكن انقلاب زعيم ميليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر على الاتفاق، وشنه هجوماً على طرابلس أواخر مارس/آذار من العام الماضي، ثم إقدامه على إغلاق منشآت النفط في البلاد منذ مطلع العام الجاري قد تسبب في تدهور الأحوال المعيشية وخروج مظاهرات شعبية غاضبة إلى شوارع مدن الغرب والشرق على السواء.
لكن قبل التوقف عند موقف خليفة حفتر من الجهود الجارية للعودة إلى المسار السياسي الذي انقلب عليه الرجل مدفوعاً بطموحاته الجامحة لحكم ليبيا كديكتاتور عسكري، من المهم التوقف عند مواقف الدول الفاعلة في الصراع الليبي، فقد أنجرت قوى إقليمية ودولية إلى الحرب في ليبيا، فالإمارات ومصر وروسيا تدعم حفتر، بينما تساند تركيا حكومة الوفاق الوطني.
وحتى داخل كل طرف هناك صراعات بينية لا يمكن إغفالها، ففي شرق ليبيا هناك عقيلة صالح رئيس برلمان طبرق الذي كان داعماً لحفتر -ولا يزال من الناحية الشكلية- لكن الشقاق بينهما ظهر للعلن منذ إعلان حفتر نفسه حاكماً عسكرياً على ليبيا، ورفض صالح ذلك الإعلان، وفي طرابلس أيضاً هناك خلافات بين السراج ووزير الداخلية باشاغا، ويرى البعض أن رحيل السراج قد يؤدي إلى خلافات داخلية جديدة بين كبار المسؤولين في حكومة الوفاق الوطني، وبين المجموعات المسلحة من طرابلس ومدينة مصراتة الساحلية التي ينتمي إليها باشاغا.
ما دلالات الاتفاق الروسي التركي؟
وفي هذا السياق من الصعب إغفال تزامن إعلان السراج عن استعداده الاستقالة مع إعلان تركيا وروسيا التوصل لاتفاق بشأن ليبيا، وكلاهما يدعم طرفاً مختلفاً، فتركيا تدعم حكومة الوفاق الشرعية المعترف بها في البلاد، بينما تدعم روسيا خليفة حفتر، زعيم الحرب في شرق ليبيا، والذي يشير إلى قواته على أنها الجيش الوطني الليبي.
فقد قال وزير الخارجية التركي مولود تشاوويش أوغلو في وقت متأخر من مساء الأربعاء، إن مسؤولين من تركيا وروسيا اقتربوا من اتفاق بشأن وقف إطلاق النار وعملية سياسية في ليبيا خلال اجتماعات جرت بينهم مؤخراً في أنقرة.
وفي هذا السياق أيضاً من المهم التوقف عند تصريحات وزير الخارجية التركي بشأن العلاقة مع مصر، حيث أكد "ألّا محادثات حالية مع مصر، وألّا تواصل معها إلا على مستوى الاستخبارات"، لافتاً إلى أن "مصر لم تنتهك في أي وقت الجرف القاري لتركيا في اتفاقيتها التي أبرمتها مع اليونان وقبرص، بخصوص مناطق الصلاحية البحرية، ولكن "إبرام أي اتفاق مع مصر بهذا الخصوص يقتضي تحسن تلك العلاقات السياسية".
صحيح أن تصريحات أوغلو لم تتطرق مباشرة إلى الوضع في ليبيا، لكن وجود تواصل على مستوى الاستخبارات، بحسب التقارير الإعلامية المحلية في الجانبين، يشير إلى أنها تتمحور حول الملف الليبي، وكان الموقف مؤخراً قد تحول بشكل واضح من دعم حفتر إلى ما يبدو أنه تفضيل لعقيلة صالح الأكثر اعتدالاً في محاولة التوصل لاتفاق سياسي.
حفتر يغرد خارج السرب كعادته
برأي كثير من المراقبين للملف الليبي لا يزال خليفة حفتر هو العقبة الرئيسية في سبيل التوصل لتوافق سياسي، وهذا التحليل ليس بجديد في الواقع، فحتى قبل التوصل لاتفاق الصخيرات في 2015، نشرت مجموعة الأزمات الدولية تحليلاً شاملاً للموقف في ليبيا، حذرت فيه من طموحات حفتر العسكرية.
وجاء في تحليل المجموعة المعنية بالنزاعات والبؤر الساخنة حول العالم وقتها، أن التوصل لتسوية سياسية تحفظ وحدة واستقرار ليبيا يتطلب من المجتمع الدولي أن يتخذ موقفاً موحداً بدلاً من تصدير مشاكلها الداخلية إلى الساحة الليبية، وضربت المجموعة مثالاً بمصر، قائلة إن حرب النظام المصري ضد الإخوان المسلمين لا يمكن أن تكون "مبرراً لدعم الجنرال حفتر، الذي يحركه وهم الحل العسكري الذي سيسحق الإسلاميين".
واللافت هنا أن تحليل الموقف الذي أجرته مجموعة الأزمات الدولية أثبتت الأيام وجاهته ودقته؛ فبعد أن وقع على اتفاق الصخيرات وكان يفترض أن يكون جزءاً من الحكومة المعترف بها دولياً، توجه حفتر نحو الشرق، واتخذ من بنغازي قاعدة لجمع ميليشيات ومرتزقة، مدعوماً من الإمارات ومصر وفرنسا، ثم روسيا، وأراد فرض طموحه العسكري وصولاً إلى حصاره لطرابلس، الذي دام أكثر من 14 شهراً، قبل أن يتعرض للهزيمة ويفر عائداً إلى الشرق، بعد عشرات الوعود بساعة الحسم والدخول إلى قلب طرابلس.
واللافت أيضاً أن طموحات حفتر الديكتاتورية كانت مثاراً للعديد من التحذيرات من جانب غالبية المراكز البحثية والمنظمات الحقوقية منذ عودته إلى ليبيا، في أعقاب الإطاحة بنظام معمر القذافي، وقد نشر مجلس الأطلنطي للدراسات تقريراً بعنوان "هل يمكن أن يوجد حل سلمي للصراع الليبي؟" قبل أن يشن حفتر عدوانه على طرابلس مباشرة، حذر أيضاً من طموحات الرجل التي تقف عقبة كبرى في سبيل الاستقرار في البلد الغني بالنفط.
وبعد أن أعلنت حكومة الوفاق ورئيس برلمان طبرق عقيلة صالح وقفاً لإطلاق النار، الشهر الماضي، قال حفتر إنه يرفض تلك الخطوة، وواصلت ميليشياته خرقها أكثر من مرة، رغم أن وقف إطلاق النار أيدته جميع الأطراف الإقليمية والدولية بما فيها تلك الداعمة لحفتر.
ولا تزال منشآت النفط مغلقة من جانب ميليشيات زعيم الحرب الطامح إلى حكم ليبيا، وجاء رد الفعل من جانبه اليوم الخميس 17 سبتمبر/أيلول، بعد إعلان السراج استعداده للاستقالة متسقاً مع إصراره، أي حفتر، على أن يغرد خارج السرب، فقد قال المتحدث باسمه أحمد المسماري لقناة الحدث السعودية، إن "سيدي القائد العام (حفتر) يواصل جهوده لحل الأزمة الليبية دون أي وساطات أو تدخلات خارجية"، في إشارة واضحة أن الرجل لا يزال يعيش في إطار طموحه الخاص بأن يصبح حاكماً عسكرياً لليبيا.