خرجت روسيا من خلال زيارة وفدها رفيع المستوى، برئاسة سيرغي لافروف، إلى دمشق مؤخراً بمزيد من الاتفاقيات الاستراتيجية جعلتها، على سبيل المثال لا الحصر، المتحكم الأوحد في قوت السوريين حرفياً، فهل ضمن بشار الأسد وجوده في السلطة أم أن موسكو يمكن أن تتخلص منه بعد أن وضع مصير اقتصاد البلاد بيدها؟
لماذا هكذا تحرك في هذا الوقت؟
الأيام الأخيرة شهدت تحركاً روسياً دبلوماسياً نشطاً على مستوى المسألة السورية، بدأ برعاية موسكو للاتفاق بين "منصة موسكو" برئاسة قدري جميل رجل روسيا في سوريا، و"مجلس سوريا الديمقراطي" "مسد" إحدى المؤسسات المنبثقة عن تنظيم (ب ي د) الإرهابي الانفصالي، وأعقب ذلك زيارة وفد روسي رفيع المستوى لدمشق، ضم وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي زار دمشق بعد انقطاع دام 8 سنوات، حيث كانت آخر زيارة له في فبراير/شباط 2012.
وسبق وصول لافروف وصول وفد روسي رفيع برئاسة نائب رئيس الوزراء، يوري بوريسوف، والممثل الخاص للرئيس فلاديمير بوتين لشؤون إفريقيا والشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، وتشكيلة الوفد الروسي تشير إلى الأهمية القصوى التي يوليها الروس لهذه الزيارة، حيث ضم الوفد شخصيات من الرئاسة ورئاسة الوزراء والخارجية والدفاع والمخابرات.
وفي المؤتمر الصحفي المشترك بين وزيري خارجية النظام وروسيا، أكد وليد المعلم على ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها بالعام 2021، وشدد على ضرورة فصلها عن مسار عمل اللجنة الدستورية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف، ومن جانبه قال لافروف، يستحيل أن "يوضع برنامج زمني فيما يخص عمل اللجنة الدستورية، زيارتنا الحالية مكرسة لمناقشة الأفق المستقبلية لتطوير العلاقات السورية الروسية".
كل يغني على ليلاه
لقد بدا واضحاً من خلال التصريحات التي أدلى بها الوزيران، موضوع اهتمام كل طرف منهما، ففي حين ركز النظام على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، كان لافروف ومن معه يشيرون إلى أهمية المشاريع الاقتصادية وإعادة الإعمار، بحسب تحليل للأناضول.
فبوتين يدرك جيداً أن بشار الأسد بحاجة ماسة لغطاء دولي يمده بالشرعية لحين إجراء الانتخابات المقبلة، ويعلم جيداَ بأن الولايات المتحدة غارقة في سباتها الانتخابي، والإيرانيون يئنون تحت الحصار الخانق والضربات الإسرائيلية الموجعة، أي أن جميع الظروف مواتية لجني المزيد من الصفقات الاقتصادية والاستراتيجية، التي تثبت حضور موسكو في المنطقة، وتمنحها تفوقاً استراتيجياً في المياه الدافئة طالما حلمت به، وتعوضها أيضاً عما أنفقته خلال تدخلها العسكري في سوريا.
لكن يجب ألا ننسى أن المعادلة السورية، التي دخلت مرحلة بالغة في الصعوبة والتعقيد، لن تسمح لأي طرف بالاستفراد بالكعكة لوحده، بل باتت تحول أحلام الطامعين إلى كوابيس، كتلك التي تعيشها إيران في سوريا يومياً، من خلال استهداف مواقعها الحساسة التي أمضت سنين طوالاً في إنشائها، وأنفقت عليها الكثير من الجهد والمال.
وكما هو معلوم، فإن واشنطن تحتفظ بيدها بمفتاح إعادة الإعمار، وتربطه بسير العملية السياسية في جنيف، وبسلوك النظام، لكن ضعف الموقف الأمريكي وانعدام شهيته لاتخاذ قرار ذي شأن يخص القضية السورية أغرى الروس بالتقدم خطوة نحو الأمام لجهة فرض أمر واقع على الأرض، مستفيدين من فرصة السبات الانتخابي الذي يرافق فترة الانتخابات الأمريكية، ويستمر أكثر من ستة أشهر، فيصيب حركة السياسة الخارجية الأمريكية بالشلل.
لكن يجب ألا يغيب عن الأذهان أن قانون قيصر وغيره من الأوراق الكثيرة، التي تحتفظ بها الإدارات الأمريكية عادة، كفيلة بتمكين واشنطن من استعادة خيوط اللعبة، والإمساك بزمام الأمور، في الوقت الذي يريدون.
إعادة الإعمار الهدف الأهم
الطرف الروسي الذي دخل سباق التنافس على اقتسام الكعكة السورية مع طهران، ويشترط قبض ثمن كل خطوة دعماً للنظام مقدماً، كان همه منصباً على الاقتصاد، وبالفعل فقد تم توقيع 40 صفقة تجارية استراتيجية، عبر عنها لافروف بقوله: "إن سوريا بحاجة إلى مساعدة دولية لإعادة بناء اقتصادها".
لافروف قال إن سوريا انتصرت في الحرب على الإرهاب بدعم روسيا، وشدد على أن إعادة الإعمار أولوية الآن في البلاد، ودعا السوريين إلى توحيد صفوفهم داخلياً، مجدداً التزام بلاده بوحدة وسلامة واستقلالية سوريا.
الأسد من طرفه قال إنه بحث مع الوفد الروسي الزائر اتفاقات اقتصادية جديدة للحد من تأثير العقوبات الغربية على بلاده، وأوضح أنه حريص على تعزيز الاتفاقات الاقتصادية وصفقات الأعمال مع موسكو، وهي أقرب حلفائه، لمساعدة سوريا على تجاوز عقوبات تقوض اقتصادها.
أما بوريسوف، فقد أوضح أن "موسكو سلمت دمشق في يوليو/تموز الماضي مشروعاً روسياً حول توسيع التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين"، مبيناً أن الاتفاقية الجديدة بين سوريا وروسيا تشمل "أكثر من أربعين مشروعاُ جديداً في مجال إعادة إعمار قطاع الطاقة، من خلال بناء وإصلاح عدد من محطات الطاقة الكهرومائية، واستخراج النفط من البحر".
إجرائياً وبالفعل، وقعت روسيا مع النظام عدة اتفاقيات استراتيجية في مجال التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية في البحر المتوسط، واستخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر، كما وقعت شركة ستروي ترانس غاز (CTG) الروسية الخاصة، مع حكومة النظام، اتفاقية لاستئجار مرفأ طرطوس لمدة 49 عاماً مقبلة.
لم تقتصر الاتفاقيات بين الطرفين على البترول والغاز والطاقة وحسب، بل شملت جوانب أخرى، منها الحبوب والأغذية، حيث بموجب هذه الاتفاقيات، أصبحت روسيا الدولة الأولى في تصدير مادة القمح لسوريا، إضافة إلى الاتفاق على بناء أربع مطاحن للحبوب في محافظة حمص، بكلفة 70 مليون يورو، ما يعني أن القمح الذي يشكل المادة الأساسية في قوت السوريين بات بيد روسيا بشكل شبه تام.
لابد لموسكو أن تتفاهم مع واشنطن
كما أنه لا يمكن فصل التحرك الروسي الأخير عن السياق العام للتطورات السورية، فإن اتفاقات استراتيجية بهذا الحجم بين موسكو ودمشق ما كانت لتتم لولا وجود ضوء أخضر أمريكي، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال النفس الإيجابي للولايات المتحدة الأمريكية، بشأن مسار اللجنة الدستورية السورية، حيث إن تصريحات المسؤولين الأمريكان الأخيرة تشير إلى أنهم متفاهمون مع الروس بشأن الضغط على النظام، لكي يكون جدياً في تعاطيه مع مفاوضات اللجنة الدستورية، مما ظهرت آثاره الإيجابية على أداء النظام في الجولة الأخيرة.
كما أن ثمة تنسيقاً روسياً أمريكياً على الأرض السورية، يطمح الأمريكان ومعهم الروس أيضاَ، من خلاله، إلى تحقيق تقدم ملموس في العملية السياسية، يستخدمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السباق الانتخابي إلى كرسي الرئاسة، وربما يتطور هذا التنسيق ويستمر إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية، وربما تبدأ مباحثات لوقف إطلاق نار شامل في كامل الأراضي السورية، وذلك في نهاية شباط/فبراير المقبل، كون السياسات الأمريكية ستستقر حينها بعد الانتخابات، لكن يبقى ذلك مرتبطاً بانتهاء مساعي الدول والأطراف في تحسين وضعها العسكري على الأرض، واقتناع الإدارة الأمريكية الجديدة بممارسة ضغوط كافية للبدء بعملية سياسية.
رهانات نظام الأسد
يبذل نظام الأسد جميع طاقاته من أجل عقد الانتخابات الرئاسية في موعدها العام المقبل، حيث نتيجتها محسومة مسبقاً لصالح الأسد، الذي يخطط للظهور بصفته رئيساً منتخباً لتوه، وليس رئيساً منتهية ولايته، وهذه نقطة هامة وحساسة في عملية التفاوض.
وزير خارجية النظام المعلم، كان قد قال إن إجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة ليس مرتبطاً بنشاط اللجنة الدستورية، وإن الانتخابات الرئاسية ستعقد في موعدها وبإمكان أي مواطن، لا يتعارض ترشيحه مع مقتضيات الدستور، وإذا تحقق حلم النظام بإجراء الانتخابات في الموعد الذي يريد وبالشكل الذي يهوى، وتوافقت الدول على تثبيت مناطق النفوذ والتهدئة، فهذا يعني أن القضية السورية على أبواب عملية سياسية طويلة الأمد، على طريقة أوسلو، وربما تستمر الأمور على الحال ذاته لمدة قد تصل إلى 10 سنوات أو 15 سنة.
في المقابل، ثمة من يرى أن العمليات العسكرية قد توقفت، والأوضاع قد استقرت بشكل شبه تام في سوريا، وأن المقدمات اللازمة للبدء بالعملية السياسية قد نضجت، قد يكون هذا السيناريو واقعياً ومنطقياً، لكنه يبقى مرتبطاً بشكل أساسي بسلوك الروس تحديداً، لأنهم لا يزالون يستخدمون الساحة السورية كورقة للضغط على تركيا في ليبيا، إذ تتعرض مناطق سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا، مناطق إدلب وما حولها، وحتى قواعد المراقبة التركية، لتحرشات واستفزازات شبه يومية من طرف الروس، بهدف تسخين الأجواء، وجعل تركيا تبدو وكأنها الطرف الذي ينقض اتفاقات أستانا.
من المبكر لأوانه الحديث عن سيناريوهات واضحة بخصوص انتهاء الحرب والبدء بالعملية السياسية في سوريا، لكن مجمل المعطيات تشير إلى حدوث تطورات كبيرة وهامة بحلول عام 2021، خصوصاَ إذا التزم الروس بتعهداتهم، ونجحوا بالضغط على الأسد، لمنعه من المشاركة في الانتخابات المزمع عقدها، وتحييد إيران، وتم توسيع نطاق الانتخابات، لتشمل الرئاسة والبرلمان والبلديات، على أن تسير كل هذه الأمور جنباً إلى جنب مع مفاوضات اللجنة الدستورية، تحت رعاية الأمم المتحدة.