التناقضات هي العنوان الأبرز لزمن وباء كورونا منذ تفشيه حول العالم مطلع العام الجاري، ويبدو أن ذلك العنوان سيظل ملازماً لحياتنا طالما أن الفيروس القاتل موجود، ومع اقتراب الصيف من نهايته تتجه بعض البلاد إلى إعادة فرض الإغلاق التام بينما دول أخرى تواصل رفع تلك القيود، فما القصة هذه المرة؟
منظمة الصحة العالمية تغرّد خارج السرب
بعد شهور من اتجاه دول العالم لفرض الإغلاق التام وذلك منذ منتصف مارس/آذار الماضي تقريباً بعد أن اتضح أن فيروس كورونا الذي ظهر في الصين في وقت غير معلوم من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وانتشر في جميع أنحاء العالم منذ نهايات يناير/كانون الثاني، وصولاً إلى إعلان منظمة الصحة العالمية الفيروس جائحة عالمية في 11 مارس/آذار 2020، تعرض الاقتصاد العالمي لانتكاسة مرعبة وفقد مئات الملايين حول العالم وظائفهم ومصدر رزقهم، فبدأت الدول تباعاً في رفع قيود الإغلاق والتباعد الاجتماعي تدريجياً، عكس توجيهات منظمة الصحة العالمية.
ومنذ منتصف يونيو/حزيران الماضي بدأت دول العالم في تخفيف قيود الإغلاق، في وقت بدا أن دولاً نجحت بالفعل في السيطرة على تفشي الوباء، بينما كانت حالات الإصابة والوفيات في ارتفاع مخيف في مناطق أخرى، لكن إجمالاً كان عدد الإصابات بالعدوى حول العالم في ازدياد مطرد، وهو ما كانت منظمة الصحة العالمية تحذر منه دون أن يبدو أن تحذيراتها تجد آذاناً مصغية، بعد أن وجدت المنظمة نفسها في موضع الاتهام بالتواطؤ مع الصين للتستر على الفيروس عند ظهوره في مدينة ووهان في البداية.
وترجع قصة تناقضات زمن الوباء إلى يوم 10 مارس/آذار عندما زار الرئيس الصيني شي جينبينغ بؤرة كورونا، أي ووهان، وأعلن الانتصار على الوباء، ليفاجأ العالم في اليوم التالي مباشرة بإعلان منظمة الصحة العالمية أن فيروس كورونا أصبح جائحة عالمية، لتنتقل قصة الرعب من الصين إلى إيران، ثم إيطاليا وأوروبا ككل، وبعدها ظهرت بؤرة نيويورك ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة بأسرها، ليتأخر التفشي القاتل في نصف الكرة الجنوبي حيث الهند وباكستان والبرازيل والشرق الأوسط قليلاً حتى جاء دور تلك المناطق.
تراجع وتخفيف للقيود
وبدأ تخفيف القيود من الصين، حيث بدأ الفيروس القاتل مشواره الدموي، ثم بدأت أوروبا في التقاط أنفاسها مع تراجع أعداد الإصابات ونسبة حالات الوفاة منذ نهاية مايو/أيار، وهكذا تم وضع خطط تخفيف قيود الإغلاق تحت وطأة الوضع الاقتصادي الصعب من ناحية واستغلال بعض السياسيين للجائحة لتحقيق مكاسب انتخابية من ناحية أخرى، وهنا لابد من ذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحديداً كمثال صارخ على التناقض الذي غلف تعامله مع معركة الوباء.
وهكذا بدأت رحلة العودة التدريجية للحياة الطبيعية مع الالتزام بضوابط الوقاية، وأبرزها ارتداء الكمامة في الأماكن العامة والمغلقة وتطبيق قواعد التباعد الاجتماعي، ولكن في ظل غياب دور فعلي للهيئة الصحية الدولية التي تم إنشاؤها بالأساس لقيادة المعارك ضد الأوبئة، والمقصود منظمة الصحة العالمية – لأسباب متنوعة أهمها أن دورها بالأساس استشاري وليس ملزما – أصبحت كل دولة تتخذ خطواتها على حدة وطبقاً لظروفها وإمكانياتها، ولكن النقطة الأهم هنا هي طبيعة الحكم في كل دولة وهنا مربط الفرس كما يقال.
ومن المهم هنا توضيح أن أعداد الإصابة بمرض كوفيد-19 الناتج عن العدوى بفيروس كورونا والتي تعلنها منظمة الصحة العالمية بشكل يومي تعتمد على الأرقام التي تعلنها الحكومات، وبالتالي فإن الدول التي لا تتوسع في إجراء اختبارات الكشف عن الفيروس بسبب نقص الإمكانيات – كمصر على سبيل المثال – لا تظهر الأرقام الفعلية للإصابات أو الوفيات، مقابل دول أخرى تظهر فيها حالات إصابة أعلى، وهذه النقطة تحديداً شهدت مئات بل آلاف التقارير والتصريحات المتناقضة، لكن الأبرز فيها هو أن أعداد الإصابة المرصودة لا تعكس الأرقام الحقيقية، بل قالت بعض التقارير إن المرصود ربما يقل عن 10% فقط عن الإصابات الحقيقية.
لكن منذ منتصف يوليو/تموز الماضي تقريباً، كانت معظم دول العالم قد خففت قيود الإغلاق بصورة شبه كاملة وإن ظل السفر جواً وبحراً في أضيق الحدود وتختلف شروطه وقيوده من دولة لأخرى، وكانت العودة للمدارس والجامعات تحديداً القضية الأكثر جدلاً حول العالم.
إعادة فرض الإغلاق التام
من المهم هنا إبراز العامل الحاسم في قرار كل دولة بشأن مواجهة الجائحة وهو الاقتصاد في الغالبية العظمى من دول العالم، فبشكل عام يمكن بسهولة رصد حقيقة أن تفشي فيروس كورونا لم يتراجع بالأساس – بصورة إجمالية حول العالم – بل شهدت الأيام القليلة الماضية قفزات قياسية في أعداد الإصابة المسجلة يومياً منذ بداية تفشي الفيروس عالمياً على الإطلاق؛ فقد تم تسجيل أكثر من 310 آلاف حالة إصابة يوم 11 سبتمبر/أيلول الماضي فقط، بحسب موقع وورلدميترز الذي يرصد الوباء حول العالم.
وبشكل عام تقترب حالات الإصابة المسجلة عالمياً من حاجز 30 مليون حالة، بينما تقترب الوفيات من مليون حالة وفاة بعد أن تخطت حاجز 932 ألفاً بالفعل، وتتصدر الولايات المتحدة الأمريكية دول العالم في حالات الإصابة والوفيات بنحو 6 ملايين و750 ألف إصابة و199 ألف حالة وفاة، تليها الهند بما يقرب من 5 ملايين إصابة وأكثر من 80 ألف وفاة، ثم البرازيل بأكثر من 4 ملايين و329 ألف إصابة وأكثر من 132 ألف وفاة، بحسب إحصائيات اليوم الثلاثاء 15 سبتمبر/أيلول.
ومع ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس، اضطرت دول مثل الأردن وإسرائيل إلى اتخاذ قرار بالإغلاق التام مرة أخرى في البلاد، بينما قررت بريطانيا إعادة فرض بعض من إجراءات التباعد الاجتماعي كانت قد رفعتها من قبل، وهو نفس الاتجاه الذي قد تتخذه فرنسا بعد أن أعلنت سلطات الصحة الفرنسية أمس الإثنين تسجيل 6158 إصابة جديدة بفيروس كورونا خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، بعد تسجيل 10561 حالة السبت و7183 حالة الأحد، علماً بأن الرقم الذي تعلنه السلطات يوم الإثنين يميل عادة للانخفاض بسبب إجراء عدد أقل من الفحوص في أيام الأحد.
وفي الأردن، قررت السلطات تعليق الدراسة في المدارس لمدة أسبوعين اعتباراً من الخميس 17 سبتمبر/أيلول وإغلاق دور العبادة والمطاعم والأسواق الشعبية في تجديد للقيود بعد أن شهدت الأيام القليلة الماضية قفزة قياسية في حالات الإصابة بالفيروس.
وقال أمجد العضايلة، المتحدث باسم الحكومة، إن القرار اتُّخذ بعد اجتماع لمجلس الوزراء جاء فيما تسعى الحكومة جاهدة لمنع انتشار الوباء إلى مستويات يصعب السيطرة عليها، وأضاف العضايلة "نعيش ظروفاً استثنائية".
وقال وزير الصحة سعد جابر إن الحكومة تسعى إلى تفادي إجراءات الإغلاق الشامل الصارمة التي فُرضت في الربيع وأدت للسيطرة على انتشار الفيروس وتسجيل عدد يومي منخفض من الإصابات بين سكان المملكة البالغ عددهم عشرة ملايين نسمة، وأضاف في تصريحات نقلها التلفزيون: "نأمل من الإجراءات المشددة رغم قساوتها أن تقلل عدد الإصابات"، وأن تمنع تفشياً كبيراً يؤدي إلى إغلاق شامل تكون له تبعات كارثية.
دولا أخرى لا تكترث
لكن في المقابل، نجد أن دولاً مثل الولايات المتحدة – الأكثر تأثراً بالفيروس القاتل – تبدو أكثر انشغالاً بالسباق الانتخابي الشرس على الرغم من تسجيل عشرات الآلاف من الإصابات يومياً، وقد حضر ترامب تجمعاً انتخابياً في مكان مغلق ضم الآلاف من أنصاره مساء الأحد الماضي في خطوة وصفها بعض المراقبين بأن الرئيس الجمهوري يتعامل وكأن كورونا كان مجرد إشاعة وانتهت.
ومساء أمس الإثنين، قالت الحكومة المصرية إنها ستسمح بإقامة حفلات الزواج والمناسبات الثقافية في أماكن مكشوفة اعتباراً من 21 سبتمبر/أيلول وذلك بعد حظرها لشهور في مسعى لاحتواء انتشار الفيروس، على الرغم من أن الأيام الماضية شهدت عودة الأرقام الرسمية التي تعلنها وزارة الصحة لارتفاع ملحوظ في حالات الإصابة والوفيات وهو ما أثار مزيداً من الجدل على منصات التواصل بشأن تعامل الحكومة مع الفيروس، خصوصاً مع عودة المدارس والجامعات المقرر لها منتصف أكتوبر/تشرين الأول المقبل، علماً بأن المدارس الدولية قد بدأت الدراسة فيها بالفعل منذ الأسبوع الماضي.
وذكرت الحكومة في بيان أنها ستسمح بإقامة الأفراح بالأماكن المكشوفة بالمنشآت السياحية والفندقية الحاصلة على شهادة السلامة الصحية بحد أقصى 300 فرد، وأوضحت أن الفنادق والمنشآت السياحية ستتمكن أيضاً من استضافة اجتماعات ومؤتمرات بحد أقصى 150 فرداً، كما وافقت السلطات على تنظيم المعارض الثقافية، ومنها معارض الكتب، في أماكن مفتوحة بنسبة حضور لا تتعدى 50٪ من طاقاتها الاستيعابية.
وقائمة الدول التي تتجاهل حكوماتها خطر الفيروس أو تقلل منه بسبب عدم قدرة اقتصاداتها على تحمل إغلاق آخر طويلة ولا تقتصر على منطقة جغرافية بعينها، فمن البرازيل إلى الهند إلى بعض دول الشرق الأوسط ودول أوروبية، لا تجد تحذيرات منظمة الصحة العالمية آذاناً مصغية، ومع اقتراب فصل الشتاء مرة أخرى تزداد المخاوف من موجة ثانية أكثر فتكاً للفيروس الذي لا يبدو أن نهايته قريبة بالفعل.