من المهم وضع الأمور في سياقها الصحيح؛ فنظام بشار الأسد هو السبب الرئيسي في مأساة السوريين منذ البداية وحتى الآن، وبالتالي فإن الجدل بشأن قانون قيصر أو العقوبات الأمريكية على سوريا يجب أن يشمل الإجابة عن السؤال الرئيسي: هل يمكن أن تسقط تلك العقوبات نظام الأسد، أم أنها تقضي على ما تبقى من أمل للسوريين؟
تناول تقرير نشره موقع مجلة Foreign Affairs الأمريكية القصة بشيء من التفصيل، بعنوان: "العقوبات الأمريكية على سوريا.. هل تسقط النظام أم تضر المدنيين؟"، مركزاً على محاور تأثيرات تلك العقوبات على جميع الأطراف.
من المسؤول عن معاناة السوريين؟
في مقالٍ بمجلة فورين أفيرز الأمريكية بعنوان "القسوة غير المبررة لعقوبات ترامب الجديدة على سوريا"، يجادل جوشوا لانديس وستيف سايمون بأن العقوبات الأمريكية الجديدة على داعمي النظام السوري تضر الشعب السوري ولا تخدم المصالح الأمريكية.
لكن الكاتبين يتجاهلان أن المصدر الرئيسي للمعاناة في سوريا هو رئيس البلاد، بشار الأسد، الذي استمرت فظائعه بلا حساب لنحو عقدٍ من الزمان، وستُسهم العقوبات الأمريكية الجديدة في الحد من قدرة الأسد على إيذاء شعبه، وفي هذا مكسب لسوريا وللولايات المتحدة.
يُلمح الكاتبان إلى أن العقوبات الجديدة، التي تأتي ضمن قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا، الصادر عام 2019، هي مبادرة من إدارة ترامب، لكن عقوبات قيصر جاءت نتيجة تشريع الكونغرس بدعم واسع من الحزبين، ومشاركة لجماعات المجتمع المدني السورية، ومحاولة تأطير العقوبات على أنها سياسة لإدارة الرئيس دونالد ترامب تتجاهل الجهود المنسقة من جانب جهات متنوعة، وتطمس حقيقة أن العقوبات مرت بتدقيقٍ كبير من الحزبين لأعوام، قبل إضافتها إلى قانون الدفاع الوطني الأمريكي.
جرائم حرب
يستمد قانون قيصر اسمه من الاسم الكودي لمنشق عن الجيش السوري، سرّب أكثر من 50 ألف صورة لمساجين يجري تعذيبهم وقتلهم بصورة ممنهجة على يد الحكومة السورية، التي اعتقلت عشرات الآلاف وعذبتهم في سجون النظام منذ 2011.
وتستمر الاعتقالات في المناطق التي استعادت الحكومة السيطرة عليها حتى اليوم، ولم يمنح نظام الأسد قط الإذن للصليب الأحمر بالوصول إلى المعتقلين، وتنفذ الحكومة إعدامات جماعية لإخلاء مكان في السجون لمعتقلين جدد، وقد وجدت لجنة العدالة والمحاسبة الدولية، المنظمة غير الهادفة للربح، مذكرات حكومية تحوي تفاصيل موت المحتجزين، كما أفادت صحيفة نيويورك تايمز ووسائل إعلامية أخرى باكتشاف مقابر جماعية مدفون فيها مساجين سياسيون.
بفرضها العقوبات على سوريا، تحرِم الولايات المتحدة مجرمي الحرب من الوصول إلى النقد، وبذلك تخدم المصالح الأمريكية، إذ توقف تدفق اللاجئين، على سبيل المثال، وتمنع ظهور تنظيم دولة إسلامية جديد، وتحمل عقوبات قيصر رسالة إلى الأسد والدكتاتوريين الآخرين، مفادها أن أساليب الأرض المحروقة -مثل استهداف المستشفيات والاختفاء القسري الممنهج، وحرق جثث المساجين السياسيين- لن يتم اعتبارها أمراً عادياً، ويعترف الاتحاد الأوروبي أيضاً بأن جرائم الحرب لا ينبغي مكافأة مرتكبيها، وانضم إلى الولايات المتحدة في فرض عقوبات على النظام السوري.
ويشير لانديس وسايمون إلى أن سياسة العقوبات "تعيق إعادة الإعمار"، وتؤدي إلى "إفقار السوريين"، لكنهما لم يذكرا أن الأسد هو المسؤول الأول عن الدمار والجوع اللذين يُحتمل أن تزيدهما العقوبات سوءاً، وربما تضر العقوبات بالاقتصاد السوري، لكن النظام السوري وروسيا وإيران أنفقوا المليارات لتدمير البنية التحتية لسوريا، ويرغبون الآن من باقي العالم أن يعيد إعمار البلاد لحسابهم.
ومع أن الأسد حاول اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، فإن إعادة الإعمار لكل السوريين ليست في أعلى قائمة أولوياته، فقد أعاق الأسد اقتصاد الحوالات في سوريا، الذي كان شريان الحياة الأخير للعديد من السوريين، بأن جعل حيازة العملات الأجنبية جريمة. وتظل الأحياء السكنية مثل بابا عمرو في حمص مدمرة، والطواقم الطبية في مستشفيات ينقصها التمويل يعالجون آلاف مرضى كوفيد-19 غير مُعلنٍ عنهم في أوضاع سيئة، في الوقت نفسه الذي يستعمل فيه رجال النظام قوانين العقارات في الاستحواذ على الأراضي وتنفيذ الإنشاءات الفخمة.
حماية المدنيين
يستشهد لانديس وسايمون بالتجويع الجماعي للعراقيين بسبب العقوبات المفروضة في التسعينات من أجل التركيز على لاإنسانية العقوبات، لكن الولايات المتحدة يمكنها العمل مع الاتحاد الأوروبي على جعل تطبيق العقوبات أكثر إنسانية، فبعد أن فرضت الحكومة الأمريكية العقوبات الأخيرة على إيران، سمحت للحكومتين السويسرية والكورية الجنوبية بإنشاء قنوات تجارية إغاثية، خاصة مع طهران، تسمح لها باستيراد الأغذية والأدوية والإمدادات الطبية.
لذا ينبغي على الولايات المتحدة أن توافق على قنوات إغاثية مماثلة لسوريا، وتؤسس آلية أمريكية أوروبية مشتركة تضمن أن تستمر المؤسسات المالية والمنظمات الإغاثية في خدمة السوريين المحتاجين، إذ إن تأثير العقوبات على المدنيين يختلف من سياقٍ إلى آخر، وهذه الآثار ينبغي أن يحددها الخبراء الاقتصاديون والإغاثيون في السياق السوري، وليس العراقي أو الليبي.
ومن حيث أن العقوبات تمثل معضلة أخلاقية لواضعي السياسات، فإنه لا توجد مشكلة حلها المقبول هو منح الحصانة للأسد وداعميه، وعلى العكس من عقوبات العراق الشاملة، عقوبات قيصر موجهة ولا تهدف إلى وقف كافة أشكال الأعمال التجارية مع سوريا، بل تستهدف أفراداً وشركات بعينها تمول كبار رجال نظام الأسد والميليشيات الأجنبية التي تعمل لصالح النظام. مثل هذه العقوبات الانتقائية لا ينبغي أن يكون أثرها مدمراً على المجتمع بأكمله، لكي تعطل شبكات الرعاية التي تضمن استمرار الأسد ونظامه.