أصبحت محاولات حفتر لإفساد وقف إطلاق النار في ليبيا أكثر فجاجة، وقد تنسف العمل على التوصل إلى حل سياسي.
فلم يكد يمر سوى أسبوع واحد على "اتفاق" وقف إطلاق النار في ليبيا بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، ورئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، حتى خرق الجنرال المتقاعد خليفة حفتر الاتفاق بـ12 صاروخ غراد باتجاه القوات الحكومية غرب مدينة سرت (شمال).
فقد أطلقت قوات حفتر 12 صاروخ غراد، الخميس 28 أغسطس/آب 2020، تجاه قوات حكومة الوفاق لإحراج رئيس مجلس نواب طبرق وإظهار عجزه، وتوجيه التركيز الإعلامي بعيداً عما يجري في سرت من اضطرابات مع قبيلة القذاذفة، وجس نبض المجتمع الدولي إزاء أي عملية عسكرية جديدة.
ما وراء محاولات حفتر لإفساد وقف إطلاق النار في ليبيا
إذ لا يبدو حفتر راضياً عن توافق السراج – عقيلة، الذي تم التوصل إليه بعد جهود دولية حثيثة، خاصة أنه لم يكن طرفاً رئيسيا في هذا التوافق، الذي من شأنه إضعاف سلطته على ميليشيات الشرق لصالح قيادة سياسية منافسة (رئيس مجلس نواب طبرق).
وإضافة لإطلاق الصواريخ، أعلن الجيش الليبي، الأحد، أن ميليشيات حفتر طوقت منطقة "بوهادي" في مدينة سرت الاستراتيجية شمالي البلاد.
جاء ذلك في تصريح للناطق باسم "غرفة عمليات سرت الجفرة" (تابعة للجيش)، العميد عبدالهادي دراه، نشرته فضائية "ليبيا الأحرار" المحلية الخاصة.
وقال العميد دراه إنه تم رصد "دخول ثلاث عربات (صواريخ) جراد إلى منطقة بوهادي في سرت، وتطويقها بالكامل من قبل المرتزقة (الجنجويد) التابعين لميليشيا حفتر".
ويوم السبت 30 أغسطس/آب، أعلن المتحدث باسم الجيش الليبي محمد قنونو رصد أرتال مسلحة من المرتزقة وصلت من الشرق إلى مدينة هون التابعة لبلدية الجفرة، وسط البلاد، وتجمعت في ثلاث مدارس.
وأضاف أن ميليشيا الجنرال الانقلابي "تجمع مئات من المرتزقة التشاديين والجنجويد في معسكر تدريب في منطقة زلة (وسط)، وأنها (..) أقامت نقاط تفتيش من شرق سرت حتى الجفرة ومنها حتى جنوب سبها (جنوب)".
ومنذ سنوات، يعاني البلد الغني بالنفط صراعاً مسلحاً، فبدعم من دول عربية وغربية، تنازع ميليشيا حفتر الحكومة الليبية، المعترف بها دولياً، على الشرعية والسلطة.
إعادة تسخين خطوط المواجهة، ولكن لماذا يتجنب توسيعها؟
لذلك يحاول حفتر إثبات وجوده كلاعب أساسي في معادلة الحرب والسلام، من خلال إرسال عدة رشقات صاروخية، لم تُخلف إصابات في صفوف قوات الوفاق، لكنها أعادت تسخين خطوط المواجهة.
فالجنرال الانقلابي الذي يسعى لحكم ليبيا كما حكمها معمر القذافي، لا يخدم أجندتَه السياسية والعسكرية وقفٌ طويل لإطلاق النار، لذلك يسعى للوصول إلى هدفه عبر الخيار العسكري.
وهذا ما دفع مندوب ليبيا في الأمم المتحدة الطاهر سني، للتساؤل في إحدى تغريداته: "هل سيلتزم من أشعل الحرب على طرابلس ومن باركها ودعمها ثم انهزم فيها بوقف إطلاق النار؟ سنرى، لكن لن نقبل المناورات أو أي تهديد جديد".
لكن حفتر يتعرض لضغوط دولية شديدة حتى من حلفائه، لوقف إطلاق النار، وميليشياتُه منهكة بعد هزيمتها في العاصمة طرابلس، ولا يملك مساحة كبيرة للمناورة، لذلك تنَصلت ميليشياته من قصفها للجيش الحكومي غرب سرت (450 كلم شرق طرابلس).
التغطية على الغليان في سرت
تزامن إطلاق رشقات صاروخية على الجيش الليبي حالة غليان غير مسبوقة بسرت، بعد مقتل شخص من أنصار نظام القذافي السابق تحت عجلات سيارة مدرعة تابعة لميليشيات حفتر، التي اعتقلت العشرات منهم، ووصل الاحتقان بين قبيلة القذاذفة وميليشيات حفتر إلى درجة الاشتباك بالأسلحة الخفيفة، ودعوة القبيلة أبناءها للانسحاب من صفوف ميليشيات الشرق.
وهذا الوضع الأمني المتردي صاحبه تركيز إعلامي، أحرج ميليشيات حفتر، وأظهرها كقوة معتدية على حقوق الإنسان وعلى حق الناس في التظاهر، وخاصة بعد اقتحام المنازل وقتل متظاهر بطريقة وحشية، واستقدام مرتزقة أجانب لدعم عمليات قمع مظاهرات القذاذفة.
ولتخفيف هذا التركيز الإعلامي على ما يجري في سرت، سعت ميليشيات حفتر لتحويل الأضواء نحو جبهة أخرى، عبر قصف خطوط المواجهة مع الجيش الليبي، حتى تحكم قبضتها على أحياء مدينة سرت في صمت.
كما يسعى حفتر لرفع معنويات أنصاره في طرابلس، الذي يحاولون اختراق المظاهرات السلمية المطالبة بتحسين الظروف المعيشية، بالإشارة إلى أنه يمكن أن يتحرك مجدداً نحو العاصمة.
هل ترد حكومة الوفاق على هذه الانتهاكات؟
أكد المتحدث باسم قوات بركان الغضب التابعة للجيش الليبي محمد قنونو، أن "قيادة العمليات في انتظار تعليمات القائد الأعلى (السراج) للتعامل والرد على مصادر النيران في المكان والزمان المناسبين".
إلا أن السراج لم يأمر بالتعامل بالمثل وفضل عدم الاستجابة لاستفزازات ميليشيات حفتر، حتى لا يعطيها مبرراً لنسف التوافق الهش مع رئيس مجلس نواب طبرق.
غير أنه بعد أكثر من أسبوع من إعلان التوافق على وقف إطلاق النار، لم تنسحب ميليشيات حفتر والمرتزقة الروس من سرت والجفرة، بل تم تعزيز تواجدهم العسكري، وخسائر قطاع النفط فاقت 9 مليارات دولار دون مؤشر على فتح حقوله وموانئه في الأجل القريب.
فالتوافق الذي حصل بين السراج وعقيلة يوشك أن يلقى مصير اتفاقات باريس وباليرمو وأبوظبي وموسكو وبرلين، التي تملص منها حفتر جميعاً.
تعطيش لطرابلس ووقف لإنتاج النفط
لكن حالة الجمود في جبهات القتال يقابلها حراك شعبي غير مسبوق في شرق البلاد كما غربها، بسبب انقطاعات الكهرباء وشح السيولة المالية في البنوك وانتشار الفساد، والاختطافات والاغتيالات مثلما حدث في منطقة الرجمة، عندما قطع الأهالي الطريق المؤدي إلى معقل حفتر بمدينة بنغازي، الخميس الماضي.
وهذه الأزمات ساهم حفتر بجزء كبير في تفجيرها بعدما أوقف تصدير النفط في 17 يناير/كانون الثاني الماضي، فتسبب في أزمة سيولة مالية وطوابير أمام الوكالات البنكية، وانقطاع للكهرباء.
كما أقفل موالون لحفتر خلال هجومه على طرابلس صمامات مياه النهر الصناعي في قرية الشويرف (400 كلم جنوب طرابلس)، الذي يغذي طرابلس ومدن الغرب الليبي، فخلق أزمة بقيت تداعياتها حتى بعد اندحار ميليشيات حفتر.
ويأمل حفتر من خلال الاستمرار في غلق النفط إلى دفع الناس للانتفاضة ضد الحكومة الشرعية وتحميلها مسؤولية معاناتهم، بهدف إسقاطها ونزع الاعتراف الدولي عنها، وبذلك يحقق بالسلم ما فشل في تحقيقه بالحرب.
فالوضع في ليبيا يغلي بالكثير من الأزمات، شرقاً وغرباً، ومن الممكن أن يتمخض عن هذا "الهدوء الخادع" مشهد جديد، وربما وجوه جديدة أيضاً.