حين دخلت باكستان البرنامج الثاني والعشرين لصندوق النقد الدولي العام الماضي، افترض العديد من المراقبين أن مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني -الذي تصفه الصين بأنه من المشروعات الكبرى ضمن مبادرة الحزام والطريق- سيتأثر بذلك. وهذا منطقي، فمطالبة صندوق النقد الدولي بتقليص الإنفاق العام وتقليل عجز الموازنة الباكستانية وتطبيق سياسة نقدية أكثر صرامةً سيعني أن القروض الضخمة والإنفاق السخي المرتبطين بمشروع الممر الاقتصادي يجب إيقافهما، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
لكن اليوم، بعد أكثر من عامٍ من آخر برامج صندوق النقد الدولي بها، انغمست باكستان أكثر في مشروع الممر الاقتصادي باعتباره وسيلة لتحقيق النمو الاقتصادي وزيادة الاستثمارات. مضت باكستان قدماً في تنفيذ مشروعات الطاقة الكهرومائية والسكك الحديدية الجديدة أو المؤجلة. ومع مضيّ الممر الاقتصادي الصيني قدماً، برز له راعٍ جديد: الجيش الباكستاني، الذي خرج من دوره خلف الكواليس في تشجيع تنفيذ المشروع إلى الإشراف العام على تنفيذه.
ما دور الجيش الباكستاني في هذا المشروع؟
هذا الموقف بالنسبة لباكستان سلاح ذو حدين. فعلى المدى القصير، سيؤدي تجدد التركيز على الممر الاقتصادي وتوسع دور الجيش في الحياة المدنية إلى ضخ المزيد من المساعدات والاستثمارات التي يحتاج إليها الاقتصاد الباكستاني بشدة. وسيؤدي تقارب العلاقات مع الصين إلى تعزيز الوضع الأمني لباكستان في مواجهة عدوتها اللدود، الهند.
لكن على المدى الطويل، في غياب الملكية المدنية وإعادة التفاوض على الشروط، وغياب الإصلاحات الهيكلية، ربما يرهق الممر الاقتصادي كاهل باكستان بكهرباء عالية الثمن وديونٍ غير مستدامة، ويلتهم جزءاً كبيراً من ميزانيتها الفيدرالية، ويُدخل باكستان في خضم التوترات الصينية الأمريكية، ويزيد من تغلغل الجيش في السياسة والاقتصاد في البلاد، كما تقول المجلة الأمريكية.
كان إعلان مشروع الممر الاقتصادي في 2013 حدثاً فارقاً في العلاقات الصينية الباكستانية، إذ جلب التركيز على التنمية الاقتصادية إلى علاقة ظلت لأعوامٍ محصورة في المجالين الدبلوماسي والعسكري. لكن اتفاق الصين مع حكومة نواز شريف المدنية لم يُرضِ الجيش، إذ سبق للجيش أن أطاح بشريف من الحكم مرتين. وحين عاد شريف إلى السلطة بعد المرة الأولى، استمر يدعو إلى محاسبة الجنرال برويز مشرف الذي انقلب عليه في 1999 بتهمة الخيانة العظمى. وهذه التهمة يمكن أن تصل عقوبتها إلى الإعدام، وبذلك تجاوز شريف خطاً أحمر لدى الجيش الباكستاني، أدى إلى أن تدافع حكومته عن نفسها باستمرار حتى صدر حكم من المحكمة العليا في 2017 بمنعه مدى الحياة من شغل أي منصب عام.
حين كان شريف في الحكم، أغرته سهولة الحصول على التمويل من الصين لمشروعات الطاقة والبنية التحتية، ومضى يوجه هذا التمويل إلى دعم شبكات الطرق والاتصال الرقمي والاقتصادي مع الصين، ومعالجة انقطاعات الكهرباء المتوطنة في باكستان، وتقوية موقف حزبه قبل انتخابات 2018.
وبدا أن استراتيجية نواز نجحت في البداية، إذ انخفضت معدلات انقطاع الكهرباء في المناطق الحضرية، وزادت معدلات النمو الاقتصادي، وأظهرت استطلاعات الرأي في أواخر 2017 تقدم حزب الرابطة الإسلامية الباكستاني بقيادة نواز بفارقٍ معتبر على منافسيه.
استراتيجية غير مستدامة
لكن استراتيجية نواز لم تكن مستدامة ماليًا وكانت قائمة على البدء بمشروعات مكلفة للطاقة الكهربية وتأجيل إصلاحات بالغة الأهمية لقطاع الطاقة، ومن بينها تجديد الشبكات المتهالكة. ونتيجة لذلك، تجاوزت ديون قطاع الطاقة في باكستان 12 مليار دولار هذا العام. وكل هذا لم يفلح في إقناع الناخبين، الذين مالوا قبل الانتخابات بفترة قصيرة إلى حزب التحريك والإنصاف المنافس، بقيادة عمران خان ودعمٍ من الجيش الباكستاني الذي لم يرغب في فترةٍ ثانية يستمر فيها نواز رئيساً للوزراء. وبذلك حصل حزب خان على عددٍ من المقاعد في مجلس النواب مكّنه من تشكيل حكومة تحالف.
في البداية، كان الشك متبادلاً بين بكين وحزب خان الجديد، الذي ورث عن نواز أجندة مخصصة تركز على البنية التحتية، تخالف أجندة الحزب التنموية التي تميل إلى الطاقة المتجددة والرفاه الاجتماعي، فضلاً عن أزمات اقتصادية تلوح في الأفق بسبب سياسات حزب الرابطة الإسلامية الاقتصادية المتهورة.
الجيش يضطلع بأدوار أكبر منه
أدى ذلك إلى إبطاء نمو الاقتصاد الباكستاني ومعه مشروع الممر، وتعثرت باكستان في مشروعاتٍ قومية مكلفة مثل تجديد خط السكك الحديدية الرئيسي في البلاد. وبعد عامين، تحسنت العلاقات بالصين. غير أن بكين والجيش الباكستاني فقدا ثقتهما بالكثير من المحيطين برئيس الوزراء، وتقدم الجيش ليشغل دوراً أبرز في حكم البلاد، وكذلك في مشروع الممر، ما يخالف سياسة العودة إلى الثكنات التي تبناها أشفق برويز كياني، خليفة برويز مشرف في قيادة الجيش.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عين خان ضابطاً رفيعاً متقاعداً من الجيش الباكستاني، وهو عاصم بجوة، رئيساً لهيئة الممر الاقتصادي المنشأة حديثاً للإشراف على مشروعات الممر وتسهيلها.
تقاعد بجوة من الجيش الباكستاني قبل شهرين فقط من تعيينه، وكان اختياره بكل تأكيد نابعًا من إيمان بأنه سيتمكن من التعامل مع المشاغل الأمنية التي تواجه المشروع. إذ تخشى بكين من العمليات الإرهابية في بلوشستان، حيث صعد الانفصاليون من هجماتهم على الأهداف الصينية في الأعوام الماضي. كذلك شغل بجوة منصب المتحدث العسكري لثلاث أعوام، ويُنسب له الفضل في إدخال إدارة الإعلام بالجيش العصر الرقمي. والجيش يرى أن مشروع الممر تستهدفه حملة بروباغندا أجنبية خبيثة، إذ شكك عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين علناً في استدامة المشروع وشفافيته بل ومشروعيته. ويرغب الجيش الباكستاني في مقاومة هذه الحملة من وجهة نظره.
لكن هناك ما يشير أيضاً إلى أن الجيش يستعمل بجوة ومشروع الممر الاقتصادي في انتزاع حصة كبيرة من السلطة من يد الحكومة المدنية. فقد نشرت جريدة Express Tribune الباكستانية الشهر الماضي أن الجيش اقترح تشريعاً كان يزيد من سلطات هيئة الممر الاقتصادي ويحولها إلى حكومة موازية تقريباً. كانت مسودة الجيش ستقصي لجنة التخطيط الباكستانية، هيئة وضع السياسات الاقتصادية الرئيسية في البلاد منذ الخمسينات، من مشروع الممر الاقتصادي وتمنح الهيئة القرار الأوحد في تطوير المشروعات الخاصة بالممر. لكن في اجتماع لمجلس الوزراء هذا الشهر، تمت إزالة البنود الأكثر استفزازاً من المسودة. غير أن هذه المحاولة الجريئة تكشف أن الجيش الباكستاني ما زال محتفظاً بنفوره من الحكم المدني.