بعد الإعلان الرسمي عن حكومة "الكفاءات المستقلين" لرئيس الوزراء التونسي هشام المشيشي، والتي من المنتظر أن تحظى بمصادقة وثقة مجلس نواب الشعب لأسباب سيتم ذكرها لاحقاً، أصبحت التحديات والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية والصحيّة أمراً حتمياً ماثلاً أمام التشكيل الحكومي الجديد كجدار سميك من الخرسانة المسلحة مطلوب إحداث اختراق فيه ولو بسيط، للتخفيف من وطأة الأزمة التي تعيشها البلاد على جميع المستويات دون استثناء.
الحكومة الجديدة ستُعرض على البرلمان التونسي للتعرف على الوزراء الجدد وتقديم برنامجها للأربع سنوات القادمة ومن ثمة التصويت على نيل الثقة. الكتل البرلمانية الممثلة للأحزاب في مجلس نواب الشعب أو أغلبها لا تملك خيارات كثيرة ولا أوراق لعب جديّة لتختار عدم التصويت لصالح لحكومة المشيشي، فلا الزمن السياسي لصالحها ولا نسبة استطلاعات الرأي تدعمها في حال رفضت التصويت على الحكومة الجديدة أو "حكومة الرئيس"، كما يصفها الشق المعارض للسياق السياسي الذي جاءت فيه هذه الحكومة وسابقتها.
حكومة الضرورة
متابعون للشأن السياسي في تونس لاحظوا أنه ليس في صالح أحزاب الأغلبية في البرلمان (حركة النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة) مواصلة الحكومة المستقيلة لرئيس الوزراء إلياس الفخفاخ أعمالها أشهراً أخرى أو ربما سنوات، حسب تأويل الرئيس قيس سعيد للدستور، إذا ما تم القرار على إسقاط حكومة المشيشي والذهاب إما لحل البرلمان وإعلان انتخابات جديدة أو مواصلة الحكومة المستقيلة تسيير أعمالها ربما باجتهاد دستوري من رئيس الدولة للفصل 89 من الدستور التونسي .
أما بالنسبة للتحدي الثاني الذي يحشر الأحزاب الفائزة في الانتخابات في زاوية مخيفة إذا ما قرروا الذهاب بعيداً في معارضتهم لحكومة الكفاءات من غير المتحزبين، هو الأرقام المفاجئة لآخر استطلاع رأي أجرته مؤسسة سيغما كونساي بالتعاون مع جريدة المغرب ونشرت نتائجه في 14 أغسطس/آب 2020، جاء فيه أن الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي (رموز النظام السابق وبقايا الحزب الحاكم المنحل) سيتصدر المشهد الانتخابي إذا ما تمت الدعوة لانتخابات تشريعية جديدة بنسبة 35.8% من نوايا التصويت بفارق 14 نقطة عن حركة النهضة التي يتزعمها راشد الغنوشي والتي لم تحصل سوى على 21.9%
وبغض النظر عن مدى واقعية ومصداقية هذه الأرقام إلا أنها تدق ناقوس الخطر بالنسبة للحزب الفائز في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019 ولا تترك له سوى اختيار "حكومة الضرورة" مثلما صرح اليوم رئيس حركة النهضة في ندوة صحفية في مدينة صفاقس (جنوب شرق العاصمة تونس) بين جمع من أنصاره وصحفيين.
التحدي الثالث الذي يقلق حزب حركة النهضة في حالة عدم التصويت لصالح حكومة المشيشي هو بقاء الحكومة المستقيلة المتهم رئيسها بملفات تضارب مصالح وفساد 4 أشهر إضافية إلى حين إنجاز الانتخابات، وما يعنيه من مواصلة إغراق رئيس الحكومة المقال إلياس الفخفاخ لمؤسسات الدولة بتعيينات جديدة وإقالات مضرة بمصالح حزب الأغلبية مما يعني تحجيم نفوذه داخل الإدارة التونسية (رؤساء مديرين عامين، موظفين سامين، إطارات حكومية عليا..) الأمر الذي لن تقبل به حركة النهضة وستضطر بالقبول بالحكومة الجديدة والتصويت لصالحها لإبعاد منافس مناوئ يستغل سلطويته الزمنية لأجل تصفية الحسابات مع خصومه الذين اضطروه للاستقالة وآخرهم رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (هيئة دستورية) شوقي الطبيب.
تحديات حكومة المشيشي ووصفة العلاج
تنتظر حكومة رئيس الوزراء هشام المشيشي مهمات ثقيلة مطالب بمعالجتها أخطرها على الإطلاق عودة الانتشار المفاجئ لوباء فيروس كورونا بعد قرار فتح الحدود ورفع الحجر الصحي، إذ انتشر الوباء مجدداً بمعدل أسرع بكثير مما كان عليه خلال شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان، حيث تم يوم أمس تسجيل 166 إصابة محلية وهو رقم قياسي لم تصل إليه تونس من قبل.
كما سجلت الوزارة في أقل من شهر 22 حالة وفاة وهو رقم قياسي كذلك مقارنة بالمدة الزمنية التي حصلت فيها هذه الوفيات. وبالإضافة للوضع الصحي الخطير هنالك أزمة اجتماعية حادة تطل برأسها، فحسب المعهد الوطني للإحصاء ارتفعت نسبة البطالة لــ18% ووصلت نسبة الفقر لـ15.2 بالمائة% وارتفعت نسبة التضخم الاقتصادي لتصل إلى سالب 21.5-% وهي أرقام تدق ناقوس الخطر لتضع البلاد على حافة الإفلاس والانكماش الاقتصادي المتجاوز لحدود المقبول في النسب السلبية حسب خبراء الاقتصاد وتقارير البنك الدولي.
هذا الغيث من فيض المشاكل الاقتصادية المتراكمة يشكل عقبة كأداء أمام حكومة هشام المشيشي التكنوقراطية، التي من المتوقع ألا تصمد أكثر من ستة أشهر إذا لم تقدر على صنع حلول عاجلة للتخفيض من نسبة التضخم الاقتصادي وجلب سيولة لميزانية الدولة عبر تشجيع نسق الاستثمار ودعم التوجه نحو التصدير الذي تراجع بنسبة 13.5% في الربع الأول من سنة 2020، لجذب العملة الصعبة. دعم التصدير لن يتوقف على تسهيل الإجراءات وخفض المعاليم الديوانية على الشركات الخاصة بل يشمل كذلك المؤسسات الاقتصادية العمومية في قطاع المناجم والفوسفات والطاقة التي تعطلت لفترات متقطعة وعلى امتداد أشهر بسبب الإضرابات والاعتصامات المتتالية في شركة فوسفات قفصة والشركة التونسية للصناعات البترولية.
الحلول لن تكون سهلة بالنسبة للحكومة الجديدة حتى وإن كان أعضاؤها من خبراء الإدارات والمؤسسات العمومية التونسية، خصوصاً وأن المشيشي لم يقدم لحد الآن برنامج عمل حكومياً للأربع سنوات القادمة. كما أن المؤسسات المنجمية والبترولية من أعقد الملفات التي لم تقدر على إيجاد حل نهائي وشامل لها كل الحكومات التي جاءت بعد ثورة 2010-2011 بسبب كم التعقيدات التي تلفها، وتشابك العديد من الأطراف في سيرورة حلها من نقابات وعروش وسياسيين ورجال أعمال بالمناولة واتحادات عاطلين عن العمل ومديرين عامين..
إدارة الأزمة السياسية بين السلطات الثلاث
إنقاذ الاقتصاد المتهالك وإيجاد حلول سريعة للملفات الاجتماعية الملحة لن يكون كافياً بالنسبة للمشيشي لإنقاذ سفينة البلاد من الغرق. فالتوازنات السياسية المتحركة بين السلطة التشريعية الممثلة في ترويكا البرلمان (حركة النهضة، حزب قلب تونس، إتلاف الكرامة) التي يقودها زعيم الحركة راشد الغنوشي وبين مؤسسة رئاسة الجمهورية ممثلة في قيس سعيد لن تكون مهمة سهلة بالمرة، خصوصاً وأن الحكومة الجديدة متهمة قبل بداية نشاطها بولائها لرئيس الجمهورية الذي عين المكلف بتشكيل الحكومة وأعطى موافقته على أعضائها المقترحين. فإذا اقترب أكثر من اللازم من الرئيس قيس سعيد وذهب معه في برنامجه بتغيير النظام البرلماني لنظام رئاسي وتغيير القانون الانتخابي ليصبح التصويت في التشريعية على أسماء المرشحين لا على القائمات الحزبية، فسيلقى عداء ومعارضة شديدة من حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي، ولن تدوم فترة حكمها 6 أشهر على أقصى التقدير، الوقت الذي تعيد فيه الترويكا البرلمانية تجهيز نفسها لانتخابات جديدة من أجل استعادة المبادرة الحكومية وافتكاكها من رئيس الجمهورية.
أما إذا وجد المشيشي أرضية تفاهم مع راشد الغنوشي من أجل ضمان مواصلة حكومته عملها للأربع سنوات القادمة وقبل بالبعض من مطالبه المؤجلة لعل أهمها توسيع حكومته عبر تشريك عناصر من الأحزاب الأغلبية الفائزة في انتخابات 2019 وعدم التخلي عن صلاحياته التنفيذية لرئيس الدولة، فإن ذلك سيخلق على الأرجح توتراً مع رئيس الدولة قيس سعيد وسينفخ من جديد في الخلاف بين رئاسة قرطاج ورئاسة باردو ما من شأنه أن يعمق الأزمة السياسية في البلاد ويعطل مهمة الإنقاذ التي جاءت به لرئاسة السلطة التنفيذية. وهو ما تنتظر حدوثه الأطراف التي لا مصلحة لها في نجاح الانتقال الديمقراطي في تونس سواء من داخل البلاد أو خارجها.
مرور حكومة المشيشي من بوابة البرلمان لن يكون صكاً على بياض، بل إن موقف رئيس الحكومة الجديد لن يكون سهلاً بالمرة، وهو مطالب باجتراح الحلول الأكثر واقعية والأكثر توافقية لكي يقدر على إدارة الأزمة السياسية بين مؤسسات الحكم التشريعية والتنفيذية بأخف الأضرار. فهل يمتلك كل هذا النفس ويقدر على الغوص؟