جاء الترحيب الدولي بإعلان رئيس المجلس الرئاسي الليبي فائز السراج، ورئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، في بيانين متزامنين، وقف إطلاق النار وفتح الحقول والموانئ النفطية، وتجميد إيراداتها، بمثابة انفراجة مطلوبة لحقن الدماء في ليبيا والعودة للمسار السياسي، لكن كعادته خرج زعيم ميليشيات شرق ليبيا خليفة حفتر رافضاً وقف إطلاق النار، فهل خرج زعيم الحرب عن سيطرة داعميه؟
ورغم أن رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح – الداعم لحفتر – دعا إلى وقف إطلاق النار في كامل ليبيا، إلا أن المتحدث باسم حفتر اللواء أحمد المسماري، بعد ثلاثة أيام من الصمت، رفض الدعوة وأطلق عليها "مبادرة السراج"، ضارباً عرض الحائط الجهود الدولية التي بذلت للتوصل إلى هذا التوافق.
وقد أعلنت جميع العواصم المعنية بالملف الليبي ترحيبها بهذا التوافق، بما فيها الدول الداعمة لحفتر، على غرار مصر والإمارات والسعودية والأردن وبدرجة أقل روسيا، ولكن نظراً لأن عقيلة لا يملك سلطة فعلية على ميليشيات حفتر، ترقب الجميع ماذا ستعلن عنه هذه الأخيرة.
وبشكل مخيب للآمال، اعتبر المسماري، مساء الأحد، أن مبادرة "السراج" لوقف إطلاق النار "تضليل للرأي العام"، وأن الحكومة الشرعية وتركيا قررتا شن هجوم على سرت، وأنهم "في جاهزية تامة للتصدي لأي هجوم".
محبطة لكن متوقعة
علقت عدة دول الكثير من الآمال على التوافق بين عقيلة والسراج، خاصة أنه جاء بدعم دولي واسع ولقاءات واتصالات ماراثونية بين مسؤولي عدة عواصم خلال الأسبوع المنصرم، وأكثر ما كان يدعو للتفاؤل إعلان مصر والإمارات والسعودية وفرنسا، أكبر حلفاء حفتر الإقليميين، دعمهم لبياني السراج وعقيلة، لوقف إطلاق النار وفتح النفط، مما ضيق الخناق أكثر على ميليشيات الشرق.
لكن حفتر معروف عنه إجهاضه لعدة تفاهمات واتفاقات سابقة، وتملصه من ضغوط دولية سابقة حتى من أقرب حلفائه، على غرار التفافه على اتفاق الصخيرات الموقع نهاية 2015، الذي كان من المتوقع أن ينهي دوره بجرة قلم، لكن الجنرال استغله في توسيع مناطق سيطرته.
لذلك لم يكن مستبعداً أن يتملص حفتر من التوافق الجديد، خاصة وأنه تم تهميشه في هذا التوافق، بينما ارتفعت أسهم رئيس مجلس نواب طبرق، حليفه وغريمه في الشرق، ويعكس تجاهل المتحدث باسم ميليشيات حفتر، لطلب عقيلة بوقف إطلاق النار، نوعاً من الاستخفاف بمكانته، وأنه ليس له أي سلطة أو نفوذ على الأرض.
فحفتر يقاوم المحاولات الدولية لإبعاده من المشهد الليبي، ورفض الحكومة الشرعية التحاور معه، ويستغل التناقضات بين الدول الداعمة له للمناورة، بدل أن يضع بيضه في سلة واحدة، وعدم الامتثال لطلب عقيلة، رسالة للمجتمع الدولي أن المفاوضات لا تكون إلا مع حفتر، ما يلغي أي دور فعلي للأول في أي مفاوضات ذات مغزى.
غموض الموقف الروسي
على عكس جميع الدول المعنية بالملف الليبي، لم تعلن أي جهة رسمية روسية دعمها لوقف إطلاق النار وفتح الحقول والموانئ النفطية، باستثناء مصدر دبلوماسي "مجهول" بالخارجية الروسية، أعلن ترحيب موسكو بالتوافق الليبي.
وفي العرف الدبلوماسي، إعلان موقف رسمي عن طريق مصدر مجهول، بدل وزارة الخارجية أو السفارة على الأقل، يؤشر على وجود تحفظ ما أو عدم الرغبة في الالتزام بشكل صريح بما تم التوافق بشأنه.
فالموقف الرسمي الروسي المعلن منذ مدة مع وقف إطلاق نار، لكن لا يخفى على موسكو أن واشنطن من جانبها تهدف بالأساس إلى إخراج مرتزقة شركة فاغنر الروسية من سرت والجفرة، ومن كامل المنطقة الجنوبية، وبالأخص حقول النفط.
ورغم أن روسيا أعلنت أنها لا تسعى لإقامة قاعدة عسكرية في ليبيا، ولكن مرتزقة فاغنر منتشرون في سرت والجفرة بحسب عدة تقارير دولية وشهادات محلية، ومن المستبعد أن ينسحبوا بدون ثمن، وحتى وإن نفت روسيا وجود قوات لها في ليبيا، غير أن فاغنر لا يمكنها أن تمتلك طائرات حربية بحجم ميغ29 وسوخوي24، لذلك فموسكو تمتلك القدرة على إفساد هذا التوافق، إذ لم تراع مصالحها في ليبيا.
فهل بإمكان حفتر القتال في ليبيا وحيداً دون دعم روسي أو مصري أو إماراتي؟ الأمر ممكن نظرياً، لكنه مكلف على الأرض، حيث انهارت ميليشيات حفتر جنوبي طرابلس بسرعة بعد أيام من انسحاب ميليشيات فاغنر.
لذلك ليس من المستبعد أن يكون حفتر تلقى ضوءاً أخضر أو برتقالياً من أحد حلفائه الدوليين لرفض "المبادرة الأمريكية" لوقف إطلاق النار، وفتح النفط وجعل سرت والجفرة منزوعتي السلاح، وإخراج المرتزقة الأجانب من البلاد.
ماذا سيترتب على رفض حفتر لوقف إطلاق النار؟
أقام حفتر برفضه وقف إطلاق النار، الحجة على نفسه أمام المجتمع الدولي، وأثبت أنه العائق الرئيسي أمام تحقيق السلام في ليبيا، لكن التساؤل المطروح إلى متى؟ فهذه ليست المرة الأولى التي يجهض فيها حفتر جهوداً دولية ومحلية للخروج من الأزمة الأمنية والاقتصادية التي تهدد الأمن القومي الليبي بل وحدة البلاد وتماسكها.
لكن قد يختلف الأمر قليلاً هذه المرة، فقد يتخلى عن حفتر أكبر داعميه، تحت ضغط أمريكي، وربما تُفعل ضده عقوبات أوروبية كتلك التي فرضت في 2016 على عقيلة، أو أن تجمد أمواله وممتلكاته في الولايات المتحدة، وأن يغلق عليه حلفاؤه العرب حنفية الدعم العسكري والمالي، إن كانت مواقفهم الحقيقية تتوافق مع تصريحاتهم المعلنة.
فبدون تفعيل العقوبات الدولية على حفتر بشكل حازم وصارم، يستبعد أن تخرج ليبيا من أزمتها في القريب العاجل، وأمس الإثنين 24 أغسطس/آب دعت الأمم المتحدة جميع أطراف الصراع في ليبيا إلى وقف الأعمال العدائية، تعليقاً على مهاجمة المسماري اتفاق وقف إطلاق النار.
جاء ذلك في مؤتمر صحفي عقده بنيويورك ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وقال دوجاريك: "من المهم أن تعمل جميع الأطراف وفق نفس المبدأ المتعلق بوقف الأعمال العدائية في ليبيا"، موضحاً أن "الأوضاع الإنسانية في سرت (شمال) مزرية للغاية. ومن الضروري أن يعمل الجميع مع الأمم المتحدة، بغية وقف القتال من أجل مصلحة الشعب الليبي".
والإثنين أيضاً جدد الاتحاد الأوروبي التأكيد على دعم اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا، وذلك خلال لقاء سفير الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا آلن بوجيا، مع السراج، في طرابلس، وأكد بوجيا "دعم الاتحاد الأوروبي لمبادرة المجلس الرئاسي التي أعلنها في 21 أغسطس/آب لتحقيق الأمن والسلام في ليبيا".