مع تجدُّد تلويحات القاهرة باحتمال التدخل في ليبيا، يزداد تهميش مصر لحفتر لصالح شيوخ القبائل.
إذ أصبح لافتاً أن القاهرة تعيد صياغة خطابها نحو ليبيا، من علاقة بين نظامين وبين جنرالين (أو مشيرين) عبدالفتاح السيسي وخليفة حفتر، إلى علاقة بين نظام وقبائل، وبين رئيس وجنرال مع شيوخ عشائر.
وقد بدا ذلك واضحاً في المؤتمر الأخير الذي استضافته مصر، شهر يوليو/تموز 2020، وحضره رئيسها مع شيوخ قبائل ليبية، دون دعوة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، أو حتى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح.
فبعدما كانت القاهرة تسعى لتقديم حفتر كبديل للقذافي يبدو التوجه الجديد مختلفاً، إذ يذكرنا هذا المؤتمر بالمؤتمرات التي كان يعقدها القذافي مع شيوخ قبائل ليبيا.
الأمر الذي يثير تساؤلات حول كيف لرئيس دولة أن يخاطب شيوخ عشائر دولة أخرى بهذه الطريقة، وما السر وراء تهميش مصر لحفتر لصالح شيوخ القبائل، وإلى أي مدى يمثل شيوخ القبائل الشعب الليبي.
كما أن دعوة مصر لتسليح رجال القبائل تعد أمراً غريباً، في وقت فإن النظام الحالي في مصر، تقوم سياسته على إعلاء الجيوش العربية في مواجهة كل المكونات الأخرى.
ضوء أخضر من القبائل
خلال المؤتمر الذي نُظّم في أحد فنادق القاهرة، الشهر الماضي، حضر شيوخ القبائل الليبيون بعباءاتهم البيضاء وقد اعتمروا عمامات وطواقي بيضاء أو حمراء للقاء السيسي، خلال فعاليات بثّها التلفزيون الرسمي في القاهرة، حيث قابل 50 رجلاً من المشايخ والأعيان الرئيس المصري، بعد تصريحات كان قد أدلى بها، مفادها أن مصر لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه أي تحركات قد تشكل تهديداً للأمن القومي، مؤكداً أن خط سرت الجفرة هو خط أحمر بالنسبة لمصر.
وقال رئيس المجلس الأعلى للقبائل في ليبيا صالح الفندي لوكالة فرانس برس، إن "الجيش المصري قد أُعطي الضوء الأخضر من جانبنا ومن البرلمان، ليضرب فوراً إذا حرّكت الميليشيات ساكناً في (مدينة) سرت".
وقال الفندي، وكان ضمن الحاضرين في اللقاء، "أخبرنا السيسي عندما التقيناه أن مصر ستقدم لنا الدعم (العسكري) الجوي والبري، إذا تجاوز الأتراك الخط الأحمر في سرت".
ويقول جليل حرشاوي، الباحث في معهد "كلينغيندال" في لاهاي، إن "ما تخطط له مصر حالياً يعكس رغبةً من جانب القاهرة في إعادة تشكيل القيادة الليبية"، في شرقي البلاد.
وتأمل مصر، من وجهة نظر حرشاوي، أن يكون دعمها لزعماء القبائل في ليبيا بمثابة "صيد عصفورين بحجر واحد"، عن طريق قيامها بنزع الشرعية عن الوجود التركي أولاً، ثم التمكن من إبعاد حفتر عن الصورة السياسية على المدى الطويل.
ما السر وراء تهميش مصر لحفتر لصالح شيوخ القبائل؟
"القاهرة لا تريد المخاطرة بالاعتماد المفرط على خليفة حفتر، البالغ من العمر 77 عاماً، والذي يجده المصريون صعب المراس، حسبما قال حرشاوي لوكالة فرانس برس.
وأضاف أن "لذلك قد يرغب المصريون الآن في اختيار مجموعة من الشخصيات الليبية… أكثر مرونةً واستقراراً وأجدر بالثقة من منظور مصري".
ولا يعترف حفتر بشرعية حكومة السراج، التي تشكَّلت بموجب اتفاق الصخيرات في المغرب، بإشراف الأمم المتحدة، في ديسمبر/كانون الأول 2015.
واللافت أن هناك عدة أسماء طُرحت كبديل لحفتر، مثل عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، وهناك السفير الليبي السابق في الإمارات عارف النايض، الذي كان مبعوثاً شخصياً لرئيس البرلمان لدى الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والولايات المتحدة وبريطانيا، والذي يوصف بأنه مرشح الإمارات.
كما كشفت وكالة بلومبيرغ الأمريكية، أن روسيا تسعى لتنصيب نجل القذافي سيف الإسلام القذافي زعيماً لليبيا.
ولكن في المجمل، فإن سعي الحلفاء الدوليين لحفتر لتهميشه أو إقصائه ليس نابعاً فقط من كونه صعب المراس، أو بسبب فشله العسكري، بل أيضاً لأنهم يريدون بديلاً أكثر انقياداً، وبالتالي فإن البديل سيجعل التأثير الخارجي على قوات شرق ليبيا أكثر قوة.
وفي الحالة المصرية، فإن وجود حدود مشتركة طويلة، والعلاقة الخاصة التي تربط مصر بأقصى قبائل الشرق الليبي سيفتح الباب لإثارة شكوك حول الهدف من تهميش مصر حفتر لصالح القبائل، وهل هو يأتي في إطار رغبة السيسي في السيطرة على موارد ليبيا الضخمة، خاصة أن حفتر مشهور بأن لديه حساسية من أطماع دول الجوار في ليبيا، وهي حساسية لم يستثن منها مصر.
إذ سبق أن كان حفتر من دعاة الشوفينية الليبية، والتي ترى في كل المحيط العربي والإفريقي، بما في ذلك مصر، خطراً على هذه البلاد الغنية بالنفط (سبق أن قال: مصر والسودان وتشاد وليبيا ومالي هي أعداء لأنهم كلهم فقراء).
في المقابل، فإن حسابات زعماء القبائل دائماً ما تكون محدودة، ومرتبطة بمصالحهم الشخصية ومصالح قبائلهم على أقصى تقدير.
منافع متبادلة بينهم وبين السيسي
يمنح اكتساب ثقة زعماء القبائل ودعمهم، مصرَ، بيدقاً آخر في اللعبة السياسية، حسب الوكالة الفرنسية.
فبينما يتطلع زعماء القبائل الليبية إلى دعم عسكري من مصر، تسعى القاهرة إلى الاستفادة من نفوذ الشيوخ على الأرض.
وقال عبدالسلام بوحراقة الجراري، وهو من أبناء عشيرتي الأشراف والمرابطون في ترهونة جنوب طرابلس، إن مصر تقدم "طوق النجاة" لزعماء القبائل الليبية.
وقال "نحن كقبائل فإننا نعطي الشرعية للقوات المصرية لحماية الأمن القومي الليبي، والذي بدوره يُعد تأميناً لمصالح مصر".
وقال "نريد تدخلاً عسكرياً كاملاً"، مضيفاً دون توضيح أن "الاستعدادات" قد بدأت على طول الحدود الليبية المصرية.
قبائل حسب الطلب، هل يمثل هؤلاء الشعب الليبي؟
المشكلة أن الاعتماد على القبائل لن يعني استقراراً بأي حال، فإضعاف السلطة المركزية في بلد مثل ليبيا معناه مزيد من التفتت، وليس إلى شرق وغرب فقط كما هو الحال، بل إلى حالة أكثر تشظياً.
كما أن هناك إشكالية حقيقية في ادعاءات زعماء القبائل في ليبيا، فعملية الاختيار قامت بها كما هو معروف المخابرات المصرية، في ظل حقيقة أن تحديد من هو زعيم القبيلة مسألة نسبية.
ففي معظم القبائل في العالم العربي يوجد ثلة من الأشخاص، يستطيع أن يزعم كل منهم (وأحياناً يكون معه بعض الحق) أنه زعيم لقبيلته، ويستطيع أي طرف خارجي أن يختار بين قائمة طويلة من المدعين، ممن يمكن أن يوصف بأنه زعيم للقبيلة الفلانية.
كما أن هناك انتقادات ليبية وُجهت إلى مؤتمر القبائل الذي نظّمته مصر، حيث يقول البعض "إن أهم القبائل لم تحضر، وإن أحد المشاركين متهم بجرائم ضد الإنسانية".
ولكن اللافت أن السيسي كان قد رفض في نهاية يونيو/حزيران الماضي مقابلة 100 من المشايخ والأعيان الموالين لحفتر من قبائل شرق ليبيا.
ومحاولة اكتساب الشرعية من بعض الزعامات القبلية تتجاهل حقيقة أن قبائل ليبيا تشهد انقساماً منذ انطلاق عملية الكرامة بين مؤيد ومعارض، ما جعل بعض القيادات الاجتماعية الفاعلة في القبائل الليبية تتعرض للتهميش والغياب التام عن المشهد الاجتماعي الليبي.
هل ليبيا دولة عشائرية فقط؟
ولكن الأهم أن محاولة تقديم ليبيا أنها مجتمع قبائلي فقط أمر غير صحيح.
فالقول إن ليبيا دولة قبائل وليست دولة مدنية، فيه الكثير من التجني على الحقيقة، فمدن الساحل الليبي مثل طرابلس ومصراتة والزاوية وصبراتة (غرب)، وبنغازي ودرنة (شرق)، يغلب عليها الطابع المتمدن، وعاشت فيها أقوام وأجناس من نِحل مختلفة طيلة قرون، وانصهرت فيما بينها، ولو بحثنا في جذور الصراع فإنه في أحد تجلياته نزاع خفي بين الحضر والبدو، أو بين سكان الساحل وسكان الجبل، بحسب تحليل لوكالة الأناضول.
وفيما يخص الصراع السياسي الحالي، نجد أن أغلب القبائل البدوية ساندت خليفة حفتر، وقبله القذافي، بينما وقفت أغلب مدن الساحل مع مشروع الدولة المدنية، خاصة في المنطقة الغربية، لكن النزعة القبلية متجذرة في الشرق أكثر منها في الغرب، بدليل أن أول جمهورية في ليبيا تشكّلت في المنطقة الغربية (الجمهورية الطرابلسية) في 1918 بمدينة مسلاتة (100 كلم شرق طرابلس).
وعامة، يُنظر إلى زعماء القبائل التقليديين على أنهم يتمتعون بنفوذ أكبر في المناطق الريفية الشرقية، أكثر من المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية في الغرب.
من الواضح أن القاهرة تضيّق خياراتها في ليبيا، وتبحث عن اتباع لا حلفاء، عبر التركيز على قبائل شرق ليبيا، ما يعني الابتعاد عن غالبية الشعب، وتجاهل مصالح الغرب الليبي الذي يُشكل نحو ثلثي سكان البلاد .
فشرق ليبيا يمثل أقل من ثلث السكان، والشرق ليس كله قبائل.
هل يستطيع رجال القبائل حسم الصراع؟
"لدينا رجال يأكلون الحجارة ويبصقونها، لكننا في معركة غير متكافئة، ولهذا تراجعنا".
هكذا يقول عرفة الله دينوم الحرة، من قبيلة البراعصة من منطقة البيضاء الشرقية.
لكن الواقع يفيد بأن رجال القبائل المنضمين لقوات حفتر، كانوا من أكثر المتذمرين من طول معركة طرابلس.
لا يمكن إنكار شجاعة رجال القبائل عامة وقبائل شرق ليبيا خاصة.
ولكن رجال القبائل دائماً ما ترتبط شجاعتهم بشيئين، إما معارك ذات طبيعة قبلية مباشرة، وهو أمر لا يتوفر في المعركة الحالية، حيث يُطالب رجال قبائل شرق ليبيا بأن يحاربوا في معركة ليست معركتهم.
أما العامل الثاني، فهو وجود حافز ديني أو قومي، أو وطني يحرك رجال القبائل، مثلما كان الأمر مع قبائل ليبيا تحت قيادة عمر المختار في مواجهة المحتل الإيطالي وكان أغلبها متأثر بالحركة السنوسية.
ولكن الواقع أن غياب هذين العاملين، مع ملاحظة الثقل السكاني لغرب ليبيا، إضافة إلى أن المقاتلين الموالين لحكومة الوفاق هم المقاتلون الأكثر تمرساً في ليبيا بحكم حربهم مع القذافي، كما أنهم يدافعون عن أنفسهم في مواجهة قوى تريد إنهاء وجودهم تماماً، كل ذلك يجعل مقاتلي القبائل في شرق ليبيا مجرد حصان طروادة، أكثر من كونهم لاعباً حقيقياً على الساحة.
التقسيم أو الضم
تهميش مصر حفتر لصالح زعماء القبائل، مع محاربتها لحكومة الوفاق، يثير مخاوف من أن القاهرة تريد ألا يكون هناك شخصية ولا جهة قوية في ليبيا.
وفي هذا الإطار، سبق أن قال الناشط السياسي عمر التهامي قال لـ"عربي بوست" إن الحديث عن خط أحمر مصري يمتد من مدينة سرت (450 كلم شرق العاصمة طرابلس) إلى قاعدة الجفرة الجوية (650 كلم جنوب شرق طرابلس)، يعني عملياً جعل تقسيم ليبيا أمراً واقعاً.
وتابع أن التقسيم في هذه الحالة يخدم بالدرجة الأولى النظام المصري الذي ينظر إلى إقليم برقة، الغني بالنفط وقليل السكان، كمجال حيوي للتوسع. موضحاً أن عدد سكان مصر يفوق 100 مليون نسمة، لكن ثروات البلاد لا تكفي لحل أزمات الفقر والبطالة.
وأضاف أن نقل جزء من الكتلة البشرية من غرب مصر إلى شرق ليبيا، يمثل أحد الخيارات الاستراتيجية للقاهرة، خاصة وأن إقليم برقة يضم منطقة الهلال النفطي، التي تستحوذ على 80% من المنشآت النفطية، وأن خليفة حفتر، صرح في مايو/أيار 2019، عن سعيه لتوطين 10 ملايين مصري في ليبيا ما يعادل 5 أضعاف سكان الإقليم، ما أصبح يثير قلقاً جدياً عند بعض القبائل الليبية في برقة من توطين قبائل مصرية فيها خصوصاً بعد دعوة عبدالفتاح السيسي لتدريب وتسليح قبائل ليبية مهاجرة لمصر وتأليبها ضد حكومة الوفاق.