حين اغتيال عملاء الموساد القيادي الكبير في حركة حماس محمود المبحوح، في يناير/كانون الثاني من عام 2010، في دبي، كان الدبلوماسي الإسرائيلي بروس كشدان في الإمارات في ذلك الوقت. ولم يُكلِّف رئيس الموساد آنذاك مئير داغان نفسه عناء إبلاغ كشدان بالاغتيال مسبقاً، لذا عَلِمَ عنه من وسائل الإعلام، كما تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية. ولاحقاً، أخبر ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد آل نهيان، الحاكم الفعلي للإمارات، كشدان أنه يعرف أنَّ إسرائيل لم تبلغه مسبقاً بعملية الاغتيال.
ويوضح هذا المثال "الثقة الكبيرة" التي تراكمت على مدى السنوات الـ25 الماضية بين كشدان، الذي يعمل بموجب عقد خاص هناك ولقبه الرسمي "مستشار"، وقادة الإمارات ودول الخليج.
تقول الصحيفة، إن إسرائيل والإمارات يجمعهما تاريخ طويل من العلاقات الوثيقة السرية، التي شهدت تقلبات. ويذكرنا رفع ستار السرية الأخير بالاتفاق بين الأردن وإسرائيل في عام 1994، الذي أعطى الضوء الأخضر للبدء في علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين. وتستمر العلاقات بين البلدين منذ ما يقرب من 3 عقود، التي تضمنت اجتماعات سرية بين قادة إسرائيليين والملك حسين.
وعلى غرار ما حدث مع دول الخليج الأخرى، بدأت علاقات إسرائيل مع الإمارات في الستينيات. وكان المسؤول عنها رئيس الموساد ومعاونيه في فرقة Tevel المسؤولة عن العلاقات السرية. إلى جانب ذلك، زار مسؤولو الموساد تحت قيادة ناحوم أدموني، الذي أصبح فيما بعد رئيس الموساد، عمان ضمن هذه العمليات السرية. وحتى قبل ذلك ساعدوا مع البريطانيين في تدريب القوات الخاصة وإنزال الأسلحة بالمظلات للقوات الملكية في اليمن، بعلم السعوديين.
علاقة مبكرة جداً مع دول الخليج
من الناحية العملية، التقى كل رئيسٍ للموساد منذ نهاية الستينيات بقادة الخليج ونظرائهم من هذه الدول، بما في ذلك السعودية، وليس لمرة واحدة فقط. إذ تحتاج دول الخليج إلى إسرائيل بسبب خوفها من إيران بما في ذلك تطلعاتها النووية وخططها للهيمنة الإقليمية.
وعلى هذا الصعيد، قدَّمت إسرائيل لدول الخليج "إسهامات أكثر بكثير مما تلقته في المقابل" كما تقول هآرتس. ففي عام 2017، شارك سلاح الجو الإماراتي في مناورة عسكرية في اليونان مع عدد من القوات الجوية، بما في ذلك القوات الجوية الإسرائيلية. وأخبر رئيس الموساد السابق شبتاي شافيت، الذي زار دول الخليج عدة مرات، الصحيفة: "إنهم يعتبروننا شكلاً من أشكال المناطق الخلفية الاستراتيجية".
لكن العلاقة مع الإمارات، وفي الواقع مع معظم الدول العربية، تُعتَبر أيضاً أحد أفرع المشكلة الفلسطينية. "فحتى لو سئم معظم القادة العرب من هذه المشكلة وتعبوا من هذا العبء، فهم مجبرون على الاهتمام الظاهري بالقضية خوفاً من أن تثور الجماهير عليهم".
كان العرب يبحثون عن فرصة لتطبيع العلاقة مع إسرائيل
ولهذا السبب في كل مرة يُحرَز تقدم في الاتفاق بين إسرائيل وفلسطين يمتدح القادة العرب النتائج، ويتوسطون، ويقترحون مبادرات، ويعززون علاقاتهم مع إسرائيل. ووصلت هذه الممارسات إلى ذروتها في التسعينيات بعد اتفاقيات أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية باعتبارها الخطوة الأولى على طريق إنشاء الدولة الفلسطينية. إذ توجهت بعدها عشرات الدول في آسيا وإفريقيا، من بينها دول عربية، لتجديد أو تطبيع علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
وفي غضون ذلك، طار رئيس الوزراء إسحاق رابين مع شافيت وعدد من مساعديه إلى دول من بينها عمان والمغرب وإندونيسيا. وفي عام 1996، فتحت إسرائيل مكاتب مصالح في قطر، وتفاوضت على شراء الغاز الطبيعي. وافتُتِح مكتب مماثل في عمان، لكنه أُغلِق مع اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000. أما قطر، التي عمَّقت منذ ذلك الحين علاقاتها مع حركة حماس والإخوان المسلمين، وخاصة في تركيا -وبعد ذلك مع الجماعات المقربة من تنظيم القاعدة- فطردت مسؤولين إسرائيليين في عام 2009 بعد حرب غزة التي استمرت ثلاثة أسابيع، وسميت بـ"عملية الرصاص المصبوب".
وفي المقابل، لم تتضرر العلاقات السرية مع دول الخليج بسبب تقلبات العلاقات الإسرائيلية مع الفلسطينيين. إذ كشفت وثيقة أمريكية، سُرِّبَت إلى ويكيليكس، أنَّ الحاكم البحريني تفاخر في عام 2005 بأنه سمح للموساد بفتح مكتب في المملكة. وفي وثيقة أخرى، تعود لعام 2009، نقل دبلوماسي أمريكي عن حاكم الإمارات قوله إنَّ بلاده تتمتع بعلاقات جيدة مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية في ذلك الوقت تسيبي ليفني.
تجارة الأسلحة والصفقات السرية في الإمارات
بيد أنَّ اغتيال المبحوح تسبب في توتر كبير مع الإمارات، حتى إنها ألغت صفقة أسلحة كبيرة مع شركة Aeronautics الإسرائيلية لصناعة الطائرات بدون طيار ومقرها؛ ولهذا السبب وعد الموساد بأنَّ إسرائيل لن تفعل شيئاً كهذا مرة أخرى على أراضيها، وأصلحت العلاقات.
وعلى عكس الساحة الدبلوماسية والاستراتيجية ارتبط قطاعا الأعمال والأمن في إسرائيل بعلاقات عميقة مع الإمارات لسنوات؛ إذ يُسمَح لمئات من رجال الأعمال وتجار الأسلحة والخبراء الإلكترونيين بدخول الإمارات وممارسة الأعمال التجارية في الإمارات السبع في الدولة.
وتبلغ قيمة هذه المشاريع مليارات الدولارات، ومعظمها في مجالات الاستخبارات والأمن والحرب الإلكترونية. ولا يزال المسؤولون السابقون في الموساد وجهاز الأمن العام (الشاباك) والجيش الإسرائيلي يدخلون غالباً إلى الإمارات بجوازات سفر أجنبية وإسرائيلية، حيث يقومون بأدوار المستشارين والخبراء. وقدَّموا نصائح حول كيفية الحماية المادية والإلكترونية لقصور الحكام والفنادق والمؤسسات العامة الأخرى هناك، كما تقول هآرتس.
الجنرالات الإسرائيليون يعملون في الإمارات بعد تقاعدهم
فلننظر على سبيل المثال إلى ماتي كوتشافي، الذي وظفت شركته Logic Industries عاموس مالكا، وهو رئيس سابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية؛ وإيتان بن إلياهو، وهو قائد سابق للقوات الجوية، ومسؤولين تنفيذيين كبار من شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية. وعملوا في الإمارات على تركيب أنظمة الأمن الداخلي لحماية مرافق الغاز الطبيعي، وكذلك تركيب نظام "فالكون آي" للمراقبة والأمن. إلى جانب ذلك، أبرم كوتشافي صفقة لبيع طائرتي استطلاع بريطانيتين قبل أن يخسر محبة قادة الإمارات.
وجاء بدلاً منه آفي لويمي، أحد ملاك شركة Aeronautics السابقين، وديفيد ميدان، الذي ترأس عدداً من الوحدات في الموساد.
علاوة على ذلك، وافق رجل أعمال أوروبي يحمل الجنسية الإسرائيلية على منح مكتبه في دبي لشركة Elbit Systems الإسرائيلية، ووصل اثنان من موظفيه في بروكسل إلى دبي بجوازات سفر إسرائيلية وأجنبية. وسعت أيضاً شركة Rafael Advanced Defense Systems للقيام بأعمال تجارية في الإمارات.
وحصلت جميع صفقات التصدير الدفاعي مع الإمارات على موافقة وتشجيع "وزارة الدفاع" والموساد؛ ما أدى إلى إنشاء قناة مفتوحة بين الطرفين، استطاع من خلالها المسؤولون الإسرائيليون معرفة ما يجري في الخليج، وبعد تقاعدهم تأسيس أعمال هناك. لقد أغرت الأموال الطائلة وسهلة المكسب الكثير منهم، وفي حالات قليلة اندلعت خلافات مالية بين شخصيات سابقة في الموساد وزملاء أمنيين آخرين أسسوا شراكات أعمال هناك. وهناك عدد من الدعاوى القضائية متعلقة بهذا الشأن، مطروحة أمام المحاكم الإسرائيلية، أو أُحيلت للتحكيم أو الوساطة.
تجنب تكرار الأخطاء
وبعيداً عن النشوة التي تشعر بها إسرائيل بسبب الاتفاق الجديد، يجب ألا تنسى أنَّ علاقاتها مع الإمارات أشبه بالأرجوحة. وكانت هناك مناسبات أُرسِل فيها مسؤولو دفاع، نيابة عن نتنياهو، إلى دولة خليجية للتفاوض على خطة سلام تهدف إلى دفع المفاوضات مع الفلسطينيين من دون علمهم. وفي المقابل، كان من المقرر إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية وسياحية مع العديد من الدول العربية.
وبارك نتنياهو الخطة الجديدة، كما فعلت معظم الدول العربية التي علمت بالاتصالات السرية، وكل ما تبقَّى هو أن يُلقي رئيس الوزراء الإسرائيلي، والزعيم العربي المسؤول عن المفاوضات خطابيهما في الجمعية العامة للأمم المتحدة ويعلنان الاتفاق، لكن قبل أسابيع قليلة من انعقاد الجمعية العامة تراجع نتنياهو. ولم يُخفِ المسؤول العربي خيبة أمله، وقال لأحد المقربين منه إنَّ نتنياهو غير جدير بالثقة.
وحين سألت شافيت إذا كان من الممكن أن تتكرر هذه الواقعة، قال: "مصالح بنيامين قصيرة المدى، لذا إذا تغير الموقف وأصبح من الواضح له أنَّ هذا الاتفاق لم يعد يخدم مصالحه، فلن يتردد في تغيير قراره".
ولم تكن الخطوة الأخيرة مع الإمارات قرار نتنياهو وحده، بل كانت أيضاً نابعة من رغبة شديدة من ترامب، الذي يعتزم إقامة حفل تنصيب في حديقة البيت الأبيض، الشهر المقبل، يضم قادة عرب آخرين، وسعوديين أيضاً.
ويمكن أن ينكث نتنياهو بوعوده لوزرائه، بما في ذلك غانتس أو أشكنازي، أو حتى التراجع عن الاتفاقات مع القادة الأوروبيين (يُذكر أنَّ الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وصفه بأنه كاذب)، لكنه لن يجرؤ على فعل ذلك مع ترامب. وإن فعل فسيكون الثمن الذي تدفعه إسرائيل باهظاً للغاية، كما تقول الصحيفة الإسرائيلية.