كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أول المحتفلين بما سماه إنجازاً ضخماً لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، وتلاه ولي عهد أبوظبي والحاكم الفعلي للإمارات محمد بن زايد، متحدثاً عن "وقف ضم أجزاء من الضفة الغربية" كإنجاز يُحسب له، فيما تحدَّث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن "تأجيل" وليس وقف أو تعليق، فما قصة تلك التناقضات وتفاصيلها؟
موقع Responsible Statecraft الأمريكي نشر تقريراً بعنوان: "الإمارات تراهن على وعدٍ هشٍّ بأن تعلّق إسرائيل خطوات الضم الرسمي للضفة الغربية"، تناول التناقضات الواضحة بين تصريحات نتنياهو وترامب وبن زايد، وما تكشف عنه تلك التناقضات من كواليس ذلك التحرك الذي يمكن اعتبار عنوانه "نقص المصداقية".
ماذا قال ترامب؟
جاء إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن التوصل إلى اتفاق بشأن "تطبيع كامل للعلاقات" بين إسرائيل والإمارات، ليبدو، للوهلة الأولى، إنجازاً مثيراً للإعجاب لرئيس احتاجت "رؤيته من أجل السلام" التي لطالما تباهى بها، إلى دفعة تمنحها قدراً من المصداقية. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن هذا الإنجاز مهم له من الناحية الرمزية، في ظل أنه يواجه احتمال إجراء انتخابات رابعة في غضون تسعة عشر شهراً، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
على الجانب الآخر، من المرجح أن تصوّر الإمارات الاتفاقيةَ على أنها اتفاق يتماشى مع تأكيدها المعلن ذاتياً لدعوات "الاعتدال" و"التسامح"، لا سيما فيما يتعلق بالحوار والتعاون بين الأديان، وهي الشعارات التي شكلت مكونات رئيسية في الرسائل الأخيرة للإمارات وخطابها على المستوى الدولي.
تضمَّن البيان الصادر عن ترامب إعلاناً بأن إسرائيل ستعلّق خططها لضم مناطق من الضفة الغربية، مقابل إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية مع دولة الإمارات، التي ستصبح ثالث دولة عربية فقط بعد مصر عام 1979 والأردن عام 1994- وأول دولة خليجية تضفي الطابع الرسمي الطبيعي على العلاقات مع إسرائيل.
إنجاز شخصي لرئيس يفتقد المصداقية
وتماشياً مع الأهمية التي ينظر بها ترامب إلى الاتفاق، ولا شك مع رغبته في الحصول على الفضل فيه، فقد جاء البيان ليجعله في صدارة ومركز الاتفاقية، وأكد "تفانيه من أجل تحقيق السلام بالمنطقة، والمقاربة البراغماتية الفريدة التي انتهجها لإنجاز ذلك الاتفاق". ومع ذلك، فإن الإعلان لا يرقى على أي نحو، إلى مستوى اتفاق السلام الشامل الذي ادَّعى ترامب مراراً أنه قادرٌ على الوفاء به، كما أنه قد لا يغير الكثير على أرض الواقع من الناحية العملية.
وفي حين تباهى ترامب بإعلان إنجاز الاتفاق على تويتر، بعد نقاش ثلاثي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو وولي عهد أبوظبي وحاكمها الفعلي محمد بن زايد، ووصفه بأنه "إنجاز ضخم" و"اتفاق سلام تاريخي"، فإن التعليقات اللاحقة من جانب المسؤولين الإماراتيين والإسرائيليين جاءت أكثر تحفظاً إلى حد ما.
كيف ناقض نتنياهو ما ادعاه بن زايد؟
وفي بيان محمد بن زايد الخاص بشأن الاتفاق على موقع تويتر، لم يُشر إلى "التطبيع الكامل للعلاقات" الذي صرح به ترامب، بل إلى "تعاون ووضع خارطة طريق نحو إقامة علاقات ثنائية طبيعية"، كما جاء بيانه الصادر باللغة العربية أكثر تحفظاً حتى من ذلك. على الجانب الآخر، وفي خطاب متلفز بعد ساعات قليلة، أكد نتنياهو أنه لا يزال ملتزماً بوعوده بشأن ضم أجزاء جديدة من الضفة الغربية، وأن خططه لفعل ذلك "تأجلت مؤقتاً"، فقط لتمكين التوصل إلى اتفاق مع الإمارات.
يتناقض تصريح نتنياهو بأن خطوات الضم قد تأجلت فقط، مع ادعاء محمد بن زايد بأنها قد توقفت. ومن هنا، فإن الاختلافَ الملحوظ في لغة الخطاب التي يستخدمها ترامب ومحمد بن زايد ونتنياهو لطرح نسخهم الخاصة بشأن ما تم الاتفاق عليه، لافتٌ للنظر ويعكس مختلف الاعتبارات المحلية التي يتعين على كل منهم التعامل معها.
فمن جانب، يصارع كل من ترامب ونتنياهو من أجل بقائهما السياسي، ويأمل كل منهما أن يؤدي "الإنجاز" على مستوى السياسة الخارجية إلى تعويض التراجع على مستوى بعض تحدياتهما الداخلية على الأقل، في حين قد ترى الإمارات في الصفقة فرصةً لاستعادة زمام المبادرة والصدارة على المستوى السياسي الإقليمي، بعد بضعة أشهر مليئة بالتحديات والانتكاسات لطموحات الإمارات الإقليمية في اليمن وليبيا.
التطبيع الكامل يسير على قدم وساق
وبطبيعة الحال، فإن هناك بالفعل سبلاً لتعاون مستمر ومتزايد بين إسرائيل والإمارات، وقد أوضح الإعلان كثيراً منها، خاصةً التعاون بشأن إنتاج لقاح مضاد لفيروس كورونا على سبيل الأولوية، كما أنه مع انتشار جائحة كورونا الذي تسبب في معاناة متفاقمة لجميع اقتصادات المنطقة، قد يأمل المسؤولون في إسرائيل والإمارات أن يؤدي تطبيع العلاقات بينهما، أو على الأقل السير نحوه، إلى تحقيق مكاسب اقتصادية مشتركة، في قطاعات مثل التكنولوجيا الطبية والطاقة المتجددة، التي يمكن أن تؤتي ثمارها في وقت قريب، إضافة إلى أنه في عالم ما بعد الجائحة، يمكن أن يوفر إنشاء روابط السفر والسياحة بين البلدين دفعةً اقتصادية تشتد الحاجة إليها في البلدين، هذا إلى جانب أن التنسيق متحقق بالفعل في مجالات أخرى، مثل التعاون المعروف ضمنياً في مجال تقنيات المراقبة، والذي من المرجح أن يستمر حتى من دون اتفاق.
ومن بين الأطراف الثلاثة للإعلان عن الاتفاق، ربما تواجه الإمارات المهمةَ الأكثر حساسية للمضي قدماً فيه، إذ إن أي قرار قد يتخذه نتنياهو بإلغاء تأجيل التزامه بخطوات الضم لأراضي الضفة الغربية من شأنه أن يضع الإمارات ومحمد بن زايد في موقف شديد الصعوبة ويجعل الإمارات عرضة للاتهامات بأنها ضحّت بالورقة الرابحة (على أكثر من معنى) مقابل مكاسب قليلة أو معدومة.
والأمر هنا هو أنه إذا توجهت إسرائيل إلى انتخابات أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني، فقد يشعر نتنياهو بأنه في حاجة إلى متابعة تعهده الذي أعلنه مراراً بشأن ما يسميه "استعادة السيادة" على أراضي الضفة الغربية، وفي هذه الحالة من الأرجح أن يبني قراره على مصلحته السياسية الخاصة، لا مصلحة الإمارات. وقرارٌ كهذا يترك الإمارات عرضةً لاعتبارات سياسية خارج قدرتها على السيطرة، إذ سيكون من الصعب التراجع عن تصريحات شخصيات إماراتية بارزة في الأشهر الأخيرة، والتي وجهت تحذيرات صريحة ومباشرة ضد عمليات الضم لأراضي الضفة الغربية وغور الأردن.
وفي هذا السياق، كانت رسالة سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، في مقال نُشر بالعبرية في إحدى الصحف الإسرائيلية في يونيو/حزيران الماضي، صريحةً على نحو خاص فيما يتعلق بوصف أي تحرك للضم بأنه "استيلاء غير قانوني على أراضٍ فلسطينية"، من شأنه أن "يتسبب في موجات صدمة بجميع أنحاء المنطقة".
يكمن الخطر فيما يتعلق بالقيادة الإماراتية في أن الاتفاق يعني أن الإمارات نفسها أصبحت الآن عرضةً لموجات الصدمة الإقليمية التي قد تنجم عن أي قرارٍ يتخذه نتنياهو أو أي حكومة إسرائيلية مستقبلية للتحرك نحو الضم، وهي الموجات التي كان التأثر بها من قبل سيقع بالأساس على عاتق الأردن ودول الجوار الأخرى.
علاوة على ذلك، في حين أثار البيان الثلاثي احتمالية حدوث "إنجازات دبلوماسية إضافية مع دول عربية أخرى"، فإن هذا في واقع الأمر قد يحدث فقط، عملياً، مع البحرين، كما أنه قد ينطوي على اختبار يضغط على التحالف الذي بناه محمد بن زايد مع القيادة السعودية، على الأقل ما دام الملك سلمان لا يزال رسمياً على العرش.