فقد حزب الله كثيراً من شعبيته داخل وخارج لبنان في العقدين الأخيرين، لكن تداعيات تفجير بيروت تمثل تحدياً وجودياً لبنية الحزب وقوته العسكرية والسياسية، بحسب محللين، فاشتراك مكتب التحقيق الفيدرالي الأمريكي (FBI) مؤشر خطير على حجم الضغوط التي يواجهها الطرف الأقوى في المعادلة الداخلية بلبنان، فما القصة؟
دخول أمريكا على خط التحقيقات
السبت 15 أغسطس/آب، دعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إجراء تحقيق شفاف وموثوق به في الانفجار الهائل الذي وقع بمرفأ بيروت، وقال ديفيد هيل وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية، بعد زيارة المرفأ: "لا يمكننا أبداً العودة إلى عصر كان يحدث فيه أي شيء في المرفأ أو على حدود لبنان، وهو ما أسهم في هذا الوضع".
هيل أشار إلى أن عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) سيَصلون في غضون أيام، بدعوة من لبنان؛ للمساعدة في معرفة ملابسات ما حدث بدقة وما أدى إلى وقوع الانفجار، وهذه الإشارة إلى التدخل الأمريكي بالتحقيق في تفجير المرفأ، تعتبر تطوراً لافتاً في إحدى أبرز القضايا الشائكة التي نتجت عن التفجير وهي طبيعة التحقيق فيما حدث.
الانفجار الذي وقع في الرابع من أغسطس/آب الجاري، أسفر عن مقتل 178 شخصاً وإصابة 6000 وتدمير مناطق واسعة من العاصمة اللبنانية وترك نحو 300 ألف بلا مأوى، وقالت السلطات اللبنانية إنه نتج عما يربو على 2000 طن من نترات الأمونيوم كانت مخزنة في المرفأ منذ أعوام دون مراعاة إجراءات السلامة.
وأجَّج الانفجار الغضب الشعبي ضد النخبة الحاكمة، التي تواجه بالفعل احتجاجات شعبية منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بسبب الفساد الذي أدى مؤخراً إلى انهيار مالي هوى بالعملة وقلَّص قيمة المدخرات وحرم المودعين من إمكانية السحب من أموالهم.
التحقيق الدولي مطلب شعبي
هول الصدمة من جراء الانفجار الضخم والغضب الشعبي العارم الذي تلاه، غيَّر المعادلة في لبنان بصورة لافتة، حيث اضطر رئيس الحكومة حسان دياب، إلى إعلان استقالة الوزارة المحسوبة على حزب الله- الطرف الأقوى في المعادلة الداخلية بنص تعبير رئيس الحزب حسن نصرالله، عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية العام الماضي- وأصبحت المطالبة بتحقيق دولي في ملابسات تفجير مرفأ بيروت القضيةَ الأبرز على الساحة.
في اليوم التالي للكارثة، أصدرت منظمة العفو الدولية بياناً تدعو فيه إلى إنشاء آلية دولية "على الفور"؛ للتحقيق في كيفية حدوث انفجار مرفأ بيروت، وتلا ذلك بيان مشترك صادر عن أربعة رؤساء حكومة سابقين في لبنان هم: سعد الحريري وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام، يدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية أو عربية لتحديد أسباب الانفجار، لتصبح طبيعة التحقيق، محلياً أم عربياً أم دولياً، النقطةَ الأبرز على الساحة فوراً.
ثم جاء رفض السلطة اللبنانية للتحقيق الدولي على لسان الرئيس ميشال عون يوم الأحد 9 أغسطس/آب، مشيراً إلى أنَّ الهدف من المطالبة بتحقيق دولي في قضية المرفأ هو "تضييع الوقت"، وتكرر الأمر نفسه على لسان حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله.
كيف تغير موقف حزب الله داخلياً وخارجياً؟
مجلة Newsweek الأمريكية رصدت تداعيات تفجير المرفأ على حزب الله بالتحديد، في تقرير بعنوان "في أعقاب تفجير بيروت، الضغط يتزايد على حزب الله"، تناول وضع الحزب داخلياً وخارجياً في العقود الأخيرة، وملقياً الضوء على كيف أن الانفجار الأخير ربما يمثل تهديداً وجودياً لبنية الحزب ذاته.
كان حزب الله يتمتع بشعبية جارفة، ليس فقط داخل لبنان؛ بل وخارجها في الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، على أساس أنه يمثل المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، ووقتها كان الحزب عبارة عن عدد من المقاتلين الذين يتصدُّون للعربدة الإسرائيلية، وهو ما وضع الحزب بمنزلة أعلى من نظرائه في حسابات السياسة الداخلية بلبنان.
وحتى عام 2006 وهي المرة الأخيرة التي وقعت فيها مواجهة كبيرة بين إسرائيل بعد انسحابها من الجنوب اللبناني والحزب، كانت تلك المكانة لحزب الله وأمينه العام حسن نصرالله في أعلى درجاتها، على الرغم مما خسره الحزب داخلياً في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005.
موقف أسلحة حزب الله
لكن ما يواجهه حزب الله حالياً هو بالقطع "موقف لا يريد أبداً أن يكون فيه"، بحسب نيكولاس بلانفورد الباحث بمعهد أتلانتيك كاونسيل، الذي أضاف إلى "نيوزويك": "حزب الله لا يريد أن يكون متورطاً في تعقيدات ومساومات السياسة اللبنانية الفاسدة، فالحزب يريد الاحتفاظ بأسلحته".
ويرى بلانفورد أن أسلحة حزب الله تمثل مشكلة طويلة الأجل، فربما يكونون قادرين على تحقيق انتصار تكتيكي على المدى القصير، "لكن على المدى البعيد تمثل هذه معضلة (الأسلحة) ضخمة للمنظمة (حزب الله) التي وجدت نفسها فجأة تمتلك محلاً لم تكن تريد امتلاكه"، وإشارة بلانفورد هنا هي إلى الحكومة اللبنانية المستقيلة التي أصبحت محسوبة بالكامل على حزب الله.
فوضع حزب الله كزعيم لجبهة المقاومة للاحتلال الإسرائيلي أكسبه شعبية جارفة حتى بين اللبنانيين من غير الشيعة، ويرى بلانفورد أنه في ذلك الوقت "حتى أولئك المتشككين في هوية الحزب وأجندته كانوا يحترمون حقيقة أن أعضاءه يضحون بحياتهم من أجل تحرير الأرض المحتلة من إسرائيل".
لكن منذ انسحاب إسرائيل، بدأت شعبية حزب الله في التراجع، ثم جاءت الثورة في سوريا ضد نظام بشار الأسد وإرسال حزب الله مقاتليه للوقوف إلى جانبه في مواجهة المعارضة، وأيضاً إرسال حزب الله مقاتليه إلى العراق واليمن، ليلقي بمزيد من الشكوك حول هوية الحزب ومدى "أولوية المصلحة اللبنانية على أجندته".
ويلخص بلانفورد الموقف الآن بأن حزب الله قبل ربع قرن "كان صغيراً ومُركزاً بالكامل على محاربة الإسرائيليين في جنوب لبنان، وكانت سمعته نظيفة لا تشوبها شائبة من ناحية الفساد الذي كان وصمة أساسية للطبقة الحاكمة في لبنان. لكنه اليوم أصبح قوة عسكرية هائلة تمتلك آلاف المقاتلين وترسانة هائلة من الصواريخ تهدد إسرائيل"، وأضاف بلانفورد أن "حزب الله اليوم منخرط كلياً في السياسة، وأصبح جزءاً من النظام اللبناني.. أصبح الحزب يعاني من الفساد أيضاً".
وبالتالي أصبح الحزب في موقف المدافع عن نفسه على الساحة اللبنانية، فبالنسبة للمحتجين حزب الله جزء أساسي من الطبقة الأساسية الفاسدة التي يريدونها أن ترحل، وظهر ذلك في شعارات الحراك منذ أكتوبر/ تشرين الأول، وفي أعقاب تفجير المرفأ كان حسن نصرالله أحد من تم تعليقهم على المشانق الشعبية.
الآن وقد أصبحت بيروت مفتوحة أمام محققين من فرنسا وأمريكا
ومع وصول محققين من مكتب التحقيق الفيدرالي (FBI) إلى بيروت الأحد 16 أغسطس/آب، كما أعلن هيل وأكدته الرئاسة اللبنانية، إضافة إلى وجود محققين من فرنسا أيضاً، يجد حزب الله نفسَه في مواجهة معطيات جديدة تماماً تتمثل في شقين: الأول هو تقوية معارضيه في الداخل اللبناني الساعين إلى تجريده من السلاح وحصر السلاح بيد الجيش والأجهزة الأمنية شأن كل الدول الطبيعية، والثاني وجود محققين أمريكيين على الأرض في بيروت، حتى وإن كانت تحركاتهم مقيدة وتحت أعين أعضاء الحزب يظل ذلك خطراً كبيراً لم يتمكن الحزب من منع حدوثه رغم الرفض المطلق لأي تحقيق دولي.
وربما يمكن قراءة إشارة حسن نصرالله في خطابه السبت 15 أغسطس/آب، عندما قال إن أنصاره يشعرون بالغضب وإنه طلب منهم ضبط النفس للحظة يحتاجون فيها هذا الغضب، حيث يرى المحللون أن ذلك تهديد مبطن بأن الحزب إذا ما زادت الضغوط عليه فإنه قد يلجأ إلى القوة للسيطرة على الداخل اللبناني.
وهنا نتذكر ما قاله نصرالله في أعقاب اندلاع الاحتجاجات الشعبية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في خطابه الأول وقتها، عندما قال: "في المعادلة الداخلية.. المقاومة هي أقوى طرف.. أنا ماعم هدد حداً (عامية لبنانية تعني لا أهدد أحداً)"، والمقاومة هي حزب الله الذي يعتبر دولة داخل الدولة ويسيطر بالكلية على المعابر الحدودية في لبنان.
وبالتالي فإن الدعوات الغربية -الأمريكية والفرنسية- بضرورة السيطرة على المعابر الحدودية في لبنان تهدد بحدوث مواجهة مع الحزب لا أحد يمكنه توقع إلى أين قد تصل، لكن المؤكد هو أنه في ظل الأوضاع المعيشية المنهارة والوضع الاقتصادي المنهار في البلاد، إضافة إلى التدمير الذي تسبب فيه تفجير المرفأ، فإن حزب الله أصبح في موقف ضعيف لا يمكن إنكاره أو القفز عليه، والسؤال الآن هو: هل يستسلم حزب الله لدعوات تسليم أسلحته والاقتناع بأن يكون حزباً سياسياً ضمن المنظومة اللبنانية ويتخلى عن دوره كذراع لإيران في المنطقة، أم أن الخيار سيكون الاستمرار في الهروب للأمام وتحدي معارضيه داخليا وخارجياً؟