يثير إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزم بلاده إرسال قوة بحرية وجوية إلى شرق المتوسط في خضم الأزمة بين تركيا واليونان، تساؤلاً جوهرياً: هل من حق فرنسا تطبيق القانون الدولي شرق المتوسط من دون كل دول العالم؟
ولكن هذا ليس التساؤل الوحيد الذي تثيره الأزمة، ولكن السؤال الآخر: من انتهك القانون الدولي في هذه الأزمة تركيا أم اليونان أم فرنسا القادمة بحماسها لتسعير الصراع.
وأعلنت الرئاسة الفرنسية مؤخراً أن الرئيس ماكرون قرر تعزيز الوجود العسكري الفرنسي مؤقتاً في شرق البحر المتوسط خلال الأيام المقبلة، بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين، بمن فيهم اليونان، وذلك في مسعى منه إلى "تقدير الوضع في هذه المنطقة من البحر الأبيض المتوسط بشكل أفضل، ومن أجل إظهار رغبته في ضمان احترام القانون الدولي".
وقالت وزارة القوات المسلحة الفرنسية، الخميس 13 أغسطس/آب 2020، إن فرنسا ستنشر طائرتين مقاتلتين من طراز رافال والفرقاطة لافايت بشرق البحر المتوسط في إطار خطتها لدعم وجودها العسكري في المنطقة، وذلك بالتزامن مع بدء تركيا عمليات المسح الزلزالي شرق المتوسط بواسطة السفينة أوروتش رئيس.
هل من حق فرنسا تطبيق القانون الدولي شرق المتوسط والتصرف كشرطي المنطقة؟
السؤال الذي أثاره تحرك ماكرون: هل من حق فرنسا إرسال قوة عسكرية لإنفاذ القانون الدولي؟ علماً بأنه أصلاً فإن القانون الدولي لا يستطيع تقديم قول حاسم في النزاع التركي اليوناني.
ومن أعطى فرنسا التفويض لتكون شرطي البحر المتوسط، وما يترتب على ذلك من استخدام القوة أو التهديد بها من قبل باريس؟
وينص ميثاق الأمم المتحدة في المادة 2 (4) على ما يلي:
يمتنع جميع الأعضاء في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأية دولة ، أو بأي طريقة أخرى تتعارض مع أهداف الأمم المتحدة.
يعتبر هذا المبدأ الآن جزءاً من القانون الدولي العرفي، وله تأثير حظر استخدام القوة المسلحة باستثناء حالتين مصرح بهما بموجب ميثاق الأمم المتحدة.
أولاً: يجوز لمجلس الأمن، بموجب السلطات الممنوحة في المادتين 24 و 25 ، والفصل السابع من الميثاق، أن يأذن بالعمل الجماعي للحفاظ على السلم والأمن الدوليين أو فرضهما.
ثانياً: الحق الطبيعي في الدفاع الفردي أو الجماعي عن النفس في حالة وقوع هجوم مسلح ضد دولة ما"، حسب المادة 51 .
وحدد ميثاق الأمم المتحدة في ديباجته هدفاً: "تهيئة الظروف التي يمكن في ظلها الحفاظ على العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي".
والجهات المكلفة بذلك أي بإصدار أحكام خاصة بالقانون الدولي أو تنفيذه هي:
هي المحاكم، والهيئات القضائية الدولية، والمعاهدات المتعددة الأطراف، ومجلس الأمن، الذي يمكنه الموافقة على بعثات حفظ السلام، أو فرض عقوبات، أو التصريح باستخدام القوة عندما يكون هناك تهديد للسلم والأمن الدوليين.
فميثاق الأمم المتحدة لا يعطي حقاً لأي دولة أو كيانات لتنفيذ القانون الدولي إلا الجهات المشار إليها.
ومن الملاحظ أن مجلس الأمن لم يصدر أي قرار بشأن الأزمة التركية اليونانية.
أما فيما يتعلق بالدفاع عن النفس، فلم يحدث اعتداء من تركيا على اليونان، بل ما حدث هو قيام أنقرة بالتنقيب في مناطق متنازع عليها، وليس محسوماً أنها مياه يونانية.
الخطير أن موقف فرنسا بتقديم نفسها كشرطي البحر المتوسط أو الوصية على الدول التي تعتبرها أقل شأناً، هو امتداد لسلوك استعماري قديم لفرنسا وبريطانيا وورثته بعد ذلك الولايات المتحدة.
فعلى مدار القرنين الماضيين قصفت بريطانيا وفرنسا مدناً آمنة واحتلت بلداناً مستقلة بدعاوى واهية ومثيرة للضحك أحياناً باسم القانون، والدفاع عن النفس.
فعشية احتلال بريطانيا لمصر، كانت إحدى الذرائع الفاضحة هي اعتبار الأسطول الإنجليزي قيام مصر بترميم قلاع الإسكندرية عملاً عداونياً.
الاتحاد الأوروبي يخالف القانون الدولي
ولكن اللافت والغريب أن الاتحاد الأوروبي الذي يفترض أنه يمثل قلعة الليبرالية والعدالة والمساواة والقانون يحاول أن يرث هذا الدور أحياناً وفرنسا تحاول توريطه فيه بالأكثر.
فعلى سبيل المثال، فإن الاتحاد الأوروبي قرر تشكيل العملية البحرية "إيريني" لمراقبة حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا.
وليس الغريب فقط في هذه العملية أن حظر تصدير السلاح المبتغى اقتصر على السلاح القادم من البحر لمنع تركيا من إمداد حكومة الوفاق بالسلاح لإنقاذ نفسها، تاركاً السلاح قادم من مصر لحفتر ينساب بسلاسة.
ولكن الأغرب أن الاتحاد الأوروبي نصب نفسه منفذاً للقانون الدولي بتطبيق الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة بدون تفويض منها أو من مجلس الأمن، الأمر الذي انتقدته روسيا واعتبرته انتهاكاً للقانون الدولي.
وخلال مناقشة عملية إيريني بمجلس الأمن الدولي، 8 أبريل/نيسان، شككت حتى دولة مثل جنوب إفريقيا تحظى باحترام دولي كبير، في أن قرار مجلس الأمن يشمل العملية الأوروبية الجديدة.
وفي الأزمة التركية اليونانية، فإنه من الواضح أنه هناك عدم حماس من قبل أغلب دول أوروبا لرغبات أثينا وباريس في التصعيد مع أنقرة، والدليل على أن العملية الفرنسية لم تلقِ أي تجاوب من الدول الأوروبية الأخرى بما في ذلك الدول الأوروبية المتوسطية الكبرى مثل إيطاليا وإسبانيا (الدولتان كانتا تجريان مؤخراً مناورات عسكرية مع تركيا).
ولكن تظل هناك إشكالية قانونية وتاريخية كبيرة، لماذا تنصب فرنسا نفسها منفذاً للقانون الدولي وهي قد تكون أكبر دول العالم اختراقاً لهذا القانون منذ ظهوره، عبر احتلالها لعشرات الدول الإفريقية ومذابحها في الجزائر وغيرها من الدول التي احتلتها، وتنفيذها تجارب نووية في الدول النامية التي تحتلها أو جزرها المحيطية أو تخطيطها لانقلابات عسكرية في دول إفريقية وبيعها السلاح لدول متهمة بارتكاب جرائم حرب أو لأنظمة انقلبت للتو على الديمقراطية.
من انتهك القانون الدولي في الأزمة اليونان أم تركيا؟
السؤال الجوهري الذي تثيره الأزمة في شرق المتوسط يظل هو: مَن انتهك القانون الدولي في الخلاف الحالي، تركيا أم اليونان؟
والحقيقة أن هناك محاولة في الإعلام الأوروبي (المنحاز بطبيعية الحال لليونان بحكم أنها دولة أوروبية مسيحية)، لتصوير الأزمة بأنها تنمر تركي على أثينا، وهو موقف تتبناه بعض وسائل إعلام الدول العربية المعارضة للدعم التركي للربيع العربي، رغم دعوات تركيا الواضحة للحوار، والتي آخرها دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعقد اجتماع لدول حوض البحر المتوسط لمعالجة الأزمة.
ولكن يجب فهم جذور الأزمة لتوصيفها، إذ هناك خلاف معقد بين تركيا واليونان له جذور تاريخية، كما هناك اختلاف حول المعيار المتبع لحل النزاع.
جزر تركية انتقلت من إيطاليا لألمانيا لبريطانيا لليونان
جغرافياً تحيط الجزر اليونانية (أغلبها ضئيلة الحجم) بتركيا، وتريد اليونان أن تخلق منطقة بحرية اقتصادية واسعة لهذه الجزر تمثل أضعاف مساحتها، تاركة لأنقرة مساحة اقتصادية ضئيلة لا تتناسب مع طول سواحلها على البحر المتوسط.
ومن المعروف أن اليونان ودول غربية أخرى احتلت أجزاء من تركيا عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وبعد تحرير البلاد من قبل كمال أتاتورك فقدت تركيا عدداً كبيراً من الجزر عبر معاهد لوزان التي وقعها أتاتورك، بعضها لصالح اليونان، والبعض الآخر لصالح إيطاليا، إذ قامت تركيا بتسليم جزر بحر إيجة لإيطاليا، مقابل تعهد روما بنزع السلاح في الجزر القريبة من الحدود التركية.
وانتقلت هذه الجزر إلى يد ألمانيا خلال الحرب العالمية وبعد الهزيمة في الحرب سلم الألمان هذه الجزر للبريطانيين، الذين سلموها بدورهم إلى اليونان، وتم تثبيت ذلك في معاهدة السلام بين الحلفاء وإيطاليا عام 1947، مع إنكار حق تركيا رغم كونها انتزعت من الدولة العثمانية بالأصل، وتشكل امتداداً جغرافياً طبيعياً للأناضول.
وبالتالي فإذا كان هناك سند قانوني لانتقال ملكية بعض هذه الجزر إلى اليونان، وفقاً لمعاهدة لوزان التي يرى الأتراك أصلاً أنها ظالمة، ولكن الجزر التي نُقلت ملكيتها لإيطاليا ثم ألمانيا فبريطانيا ثم أخيراً اليونان وضعها القانوني مختلف، فليس هناك سند قانوني لنقلها لليونان من قبل قوى هي بالأساس استعمارية وضعت يدها عليها بالقوة.
القانون الدولي يقول إن معاهدة الأمم المتحدة لعالم البحار ليست ملزمة لأنقرة
الأمر الثاني الذي قد لا يلتفت إليه الكثيرون في هذا الصراع أن اليونان تقدم تصوراتها للنزاع بناءً على عضويتها في معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، بينما تركيا ليست عضواً فيها.
وقد يظن البعض أن هذا يجعل وضع اليونان القانوني أفضل من تركيا، ولكن هذا غير صحيح، إذ يمكن أن تُلام أنقرة فقط إذا كانت عضواً في المعاهدة ولم تلتزم بها، ولكن تركيا لم تنضم المعاهدة مثلها مثل دول أخرى من بينها الولايات المتحدة الأمريكية.
وأحد مبادئ القانون الدولي أن المعاهدات ملزمة فقط لأطرافها، كما أن مبادئ القانون الدولي لا تلزم دولة بانضمام لمعاهدة ما، ولكن تفترض أنه يمكن إلزام الدول المنضمة للمعاهدة فقط ببنودها (يفترض أن كل معاهدة تضع آلية إلزامية لأطرافها).
وبالتالي تركيا لم تخالف القانون الدولي في هذه الأزمة لأنها لم تنضم للمعاهدة المنظمة لهذه المسألة أصلاً.
كما أن الوضع القانوني الدولي قبل هذه المعاهدة كان أقرب لوجهة نظر أنقرة، من حيث رسم حدود المناطق البحرية الاقتصادية بناءً على البر الرئيسي وليس الجزر.
واليونان بدورها لم تخالف القانون الدولي لأنها انضمت لهذه المعاهدة، لكن لأن المعايير القانونية للبلدين مختلفة فإنه لا أحد منهما يستطيع احتكار الحقيقة ويقول إنه على حق والطرف الآخر على باطل، ولا بديل عن التفاوض أو التحكيم (علماً أن التحكيم ليس إجبارياً في القانون الدولي).
وبالفعل كان هناك مفاوضات جارية بوساطة ألمانية، أفضت إلى إقناع تركيا بوقف التنقيب في المناطق المتنازع عليها، ولكن اليونان فاجأت الجميع بتوقيع معاهدة ترسيم الحدود مع مصر رغم أن المفاوضات كانت جارية ما دفع أنقرة إلى الرد.
اليونان تؤكد وجهة نظر تركيا
إحدى الإشكاليات الرئيسية أن اليونان لديها عدد كبير من الجزر الصغيرة التي تريد أثينا منحها منطقة اقتصادية تبلغ أضعاف مساحتها لتحول شرق المتوسط لبحيرة يونانية.
وفي هذه النقطة، تفسر تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لبّ الخلاف بين أنقرة وأثينا بقوله إن "الادعاء بأن جزيرة يونانية مساحتها 10 كم مربع لها الحق بجرف قاري مساحته 40 ألف كيلومتر مربع هو أمر مضحك ولا أساس له في القانون الدولي، وأدعو اليونان مجدداً لاحترام حقوق ومصالح تركيا"، مضيفاً أن "موقف اليونان في بحري المتوسط وإيجه مبنيّ على سوء النية ومطالبتها بالجرف القاري استناداً إلى جزيرة "مييس" لا يمكن تفسيره بالعقل والمنطق".
والمفارقة أنه ما تسرب من معاهد ترسيم الحدود بين مصر واليونان، يؤيد وجهة نظر تركيا.
إذ ينقل الباحث سعيد الحاج عن البروفيسور سيرتاتش باشَران، أحد أبرز الأسماء التركية في ملف شرق المتوسط وأحد المساهمين في الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، قوله إنه إذا صحت الخرائط التي نشرتها بعض وسائل الإعلام اليونانية حول الاتفاق المصري-اليوناني، فاليونان قد تخلت عن رسم الحدود من جزيرة "مييس" الصغيرة ورسمتها من جزيرة "رودس" أي في الحقيقة نفذت ما يقوله الرئيس التركي.