حين أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم الثلاثاء 11 أغسطس/آب، أن روسيا طوَّرَت لقاحاً ضد فيروس كورونا المُستجَد -دون دليلٍ من تجارب سريرية واسعة النطاق- أثار ذلك قلق خبراء اللقاحات.
القفز عن مراحل التجارب
يقول دانيال سالمون، مدير معهد سلامة اللقاحات بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية للصحيفة New York Times الأمريكية: "أعتقد أن هذا مخيفٌ حقاً. إنه خطرٌ بالفعل". وقال الدكتور سالمون، وغيره من الخبراء، إن روسيا تتَّخِذ خطوةً خطيرةً بالقفز على ما يُسمَّى التجارب ذات المراحل الثلاث، التي يمكنها تحديد ما إذا كان اللقاح يعمل أفضل من الدواء الوهمي، ولا يسبِّب أيَّ ضررٍ لبعض الناس الذين يتلقوه.
وعلى عكس العقارات التجريبية التي تُعطى للمرضى، فإن المُستهدَف بالنسبة للقاحات أن تُعطى لأعدادٍ غفيرةٍ من الناس الأصحاء. لذا لابد أن تكون على مستوى عالٍ من معايير السلامة. وإذا تلقَّى مئات الملايين من الناس لقاحاً، فقد تظهر آثارٌ جانبية نادرة لدى آلاف فقط من الأشخاص.
وإذا لم تُظهِر تجارب المرحلة الأولى أيَّ مشكلاتٍ خطيرة تتعلَّق بالسلامة، ينتقل الباحثون عادةً إلى تجارب المرحلة الثانية، التي يحقنون فيها مئات الأشخاص باللقاح من أجل رصدٍ أكثر تفصيلاً.
لماذا قد تفشل هذه التجارب بالمرحلة الثالثة؟
بدأت التجارب السريرية الأولى على لقاحات فيروس كورونا المُستجَد في مارس/آذار، والآن هناك 29 لقاحاً في طريق البحث، ومن المُتوقَّع إطلاق المزيد في القريب العاجل. وتبدأ شركاتٌ مثل أسترا زينيكا، وموديرنا، ونوفافاكس، وفايزر في مشاركة النتائج المُبكِّرة المُبشِّرة، فحتى الآن شهدوا فقط أعراضاً جانبية خفيفة أو معتدلة، ولا وجود لأعراضٍ شديدة. وأفرَزَ المُتطوِّعون أيضاً أجساماً مضادة ضد الفيروس، وفي بعض الحالات كانت هذه الأجسام المضادة أكثر حتى من تلك التي لدى أناسٍ تعافوا من العدوى. لكن بصرف النظر عن مدى نجاح هذه النتائج المُبكِّرة، قد تؤول تجارب المرحلة الثالثة إلى الفشل.
ويجعل التوقيت الذي أعلنت فيه روسيا عن اللقاح، "من غير المُرجَّح أن لديها بياناتٍ كافية عن كفاءة المُنتَج"، على حدِّ قول ناتالي دين، خبيرة الإحصاء الحيوي والأمراض المعدية بجامعة فلوريدا الأمريكية، التي حذَّرَت من التسرُّع في عملية الموافقة على اللقاح. لاحظت الدكتورة دين أن حتى اللقاحات التي ظهرت لها بياناتٌ واعدة من التجارب المُبكِّرة على البشر قد أخفقت في مراحل لاحقة. وفي تجربة تحكُّم عشوائي واسعة، أعطى الباحثون اللقاح أو الدواء الوهمي لعشرات الآلاف من الناس، وانتظروا حتى يواجهوا الفيروس في العالم الحقيقي.
يقول الدكتور ستيفن بلاك، خبير اللقاحات في قوة العمل من أجل الصحة العالمية: "تنتظر لترى ما إذا كانوا سيمرضون أم لا، وهل سيموتون أم لا". إذا كان اللقاح فعَّالاً، سيمرض عددٌ من المُتطوِّعين الذين تلقوا اللقاح أقل من أولئك الذين تلقوا الدواء الوهمي. لم يبدأ الباحثون الروس بعد هذا الاختبار الحاسم.
"يدفعون اللقاح سريعاً إلى التصنيع"
في يونيو/حزيران، سجَّلَ معهد غماليا لأبحاث الوبائيات والأحياء الدقيقة بوزارة الصحة الفيدرالية الروسية تجربةً مشتركة للمرحلة الأولى والثانية على لقاح يُسمَّى Gam-COVID-Vac Lyo. وخطَّط الباحثون لاختباره على 38 مُتطوِّع.
قالوا إن اللقاح مصنوعٌ من فيروسٍ غداني -فيروس بارد غير ضار- يحمل جين فيروس كورونا المُستجَد مشابه لما تستخدمه شركتا أسترا زينيا وجونسون آند جونسون في لقاحاتهما. وتُعَدُّ هذه التقنية جديدةً نسبياً، إذ صُدِّقَ على أول لقاحٍ لفيروسٍ غداني لأول مرةٍ لفيروس الإيبولا في يونيو/حزيران.
ومنذ ذلك الحين، يدَّعي مسؤولون روس أنهم سوف يدفعون اللقاح سريعاً إلى التصنيع. وقد جَعَلَ إعلان بوتين هذا الأمر رسمياً يوم الثلاثاء الماضي، غير أن المعهد لم ينشر قط بيانات تجربة المرحلة الأولى والثانية.
وفي إعلان بوتين، أعلن ميخائيل موراشكو، وزير الصحة الروسي، أن "كافة المُتطوِّعين أُفرِزَت لديهم كمياتٌ كبيرة من الأجسام المضادة لكوفيد-19. وفي الوقت نفسه، لم تظهر على أيٍّ منهم آثارٌ وخيمة للتحصين المناعي".
هذا هو شكل النتيحة الذي نتوقَّعه من تجربة المرحلة الأولى. إنه لا يخبرنا بما إذا كان اللقاح فعَّالاً حقاً. يقول جون مور، عالم الفيروسات بكلية طب ويل كورنل في نيويورك: "هذا أكثر من غباء. بوتين ليس لديه لقاح، إنه فقط يدلي بتصريحٍ سياسي".
وفي يوم الثلاثاء، أنشأ المعهد الروسي موقعاً إلكترونياً يدَّعي أن تجربة المرحلة الثالثة سوف تبدأ في اليوم التالي وتتضمَّن أكثر من 2000 شخصٍ في روسيا، وفي دولة الإمارات والمملكة السعودية والبرازيل والمكسيك.
فرق كبير في حجم التجارب
وفي الجهة المقابلة، تُعَدُّ كافة تجارب المرحلة الثالثة الجارية حالياً للقاحات فيروس كورونا المُستجَد أكبر بكثير من هذه التجربة، إذ تتضمَّن كلُّ تجربةٍ منها 30 ألف مُتطوِّع.
وقالت الدكتورة نيكول لوري، المساعدة السابقة لوزير الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكي لشؤون التأهُّب والاستجابة، والتي تعمل حالياً مستشارةً بمؤسسة تحالف ابتكارات التأهُّب الوبائي، إن الدرس الذي على الحكومة الأمريكية استخلاصه من إعلان بوتين واضحٌ. وقالت: "هذا بالضبط هو الوضع الذي يتوقَّع الأمريكيون من حكومتهم أن تتجنَّبه".
ولعلَّ حقن اللقاح في جسد ابنة الرئيس الروسي (وقيل إن الأثر الجانبي الوحيد هو حمى طفيفة استمرَّت على مدار يومٍ واحد) أمرٌ مناسبٌ لعناوين الصحف الرئيسية، لكنه ليس بديلاً عن أشهرٍ من التجارب العشوائية الواقعية على آلاف الأشخاص من مُختَلَف الأعمار والحالات الطبية.
وقال الدكتور سالمون: "من غير الكافي بالنسبةِ لي أن أقول إن لدينا مُنتَجاً عظيماً. قبل أن نستخدمه، نحن بحاجةٍ إلى أناسٍ آخرين ينظرون بدقَّةٍ إلى البيانات ويقتنعون بمنافعه التي تفوق المخاطر".
وحتى بعد ترخيص أيِّ لقاح، لا يزال على الباحثين أن يتفحَّصوه للتأكُّد تماماً أنه آمن. وبينما يُعطى اللقاح لملايين الأشخاص، قد تظهر أعراضٌ جانبية نادرة مع مرور الوقت. ومن الممكن أيضاً أن يتَّضِح أن فئاتٍ معينةً من الناس، مثل الأطفال أو كبار السن، تواجه أخطاراً لم تكن واضحةً من تجارب المرحلة الثالثة.
مخاوف غربية علنية
في السياق، تقول صحيفة Financial Times البريطانية، إنه كان من المُتوقَّع ألا تحيد الاستجابة الغربية عن التهنئة على التوصُّل إلى العقار المزعوم. يقول ينس شبان، وزير الصحة الألماني، إنه كان "مُتشكِّكاً للغاية" من مثل هذا القرار "الخطير"، بينما علَّقَ نظيره الأمريكي أليكس عازار، قائلاً: "إنه ليس سباقاً لمن يصبح الأول".
من الواضح أن الكرملين لا يتَّفِق مع الوزير عازار. وليس من قبيل المصادفة أن اللقاح سُمِّيَ باسم القمر الصناعي السوفيتي الذي فاز في سباق الفضاء في الحرب الباردة، بتفوُّقه على الولايات المتحدة -سبوتنيك 5. على مدار العقود الماضية، تراجَعَت ثقة الغرب في روسيا. وأنكرت موسكو أدلةً واقعية على التدخُّل الروسي في الانتخابات الأمريكية، أو التورُّط في محاولة اغتيال العميل المزدوج سيرجي سكريبال، أو إسقاط كائرة الخطوط الجوية الماليزية MH17.
أدَّى هذا الإنكار المتواصل إلى تآكل الثقة بما يقوله الكرملين. وتُقابَل معظم المبادرات الروسية بتشكُّكٍ من جانب الغرب. وحين أرسلت موسكو فرقاً طبية لمساعدة إيطاليا في كفاحها ضد الجائحة في مارس/آذار، حذَّرَ بعض المُحلِّين من أنها مهمةٌ شائنةٌ لسرقة أسرار تتعلَّق بالدفاع. وتسبَّبَ التبرُّع الروسي بأجهزة تنفُّس لنيويورك في صداعٍ دبلوماسي.
سينضم اللقاح بلا شك إلى هذه القائمة. واعترف كيريل ديميترييف، الذي كان رئيساً لصندوق الثروة السيادية الروسي الذي دَفَعَ تكاليف تطوير سبوتنيك 5، بهذا الأمر، إذ قال لصحيفة Financial Times البريطانية إنه رأى "جهوداً غربيةً مُنسَّقة لوقف أيِّ شيءٍ روسي".
وقد يعني هذا أنه لا يزال هناك طريقٌ طويل أمام اللقاح ليقطعه. وقال زعماء الفلبين وصربيا بالفعل إنهم سيستخدمونه، بينما وافَقَت الإمارات والمملكة السعودية والبرازيل والمكسيك على إجراء تجارب. وقال ديميترييف إن 20 دولة طلبت مليار جرعة من اللقاح.