لقد مرّ لبنان بأوقات عصيبة من قبل، ولكن لم يسبق أن واجه اللبنانيون اختباراً صعباً مثل الذي واجهوه بعد تفجير بيروت المروع.
ففي يوم الثلاثاء 4 أغسطس/آب، عاش اللبنانيون كابوساً يشبه نهاية العالم جاء نتيجة عقود من الخلل السياسي، وثقافة شيطانية من الإهمال الإجرامي والفساد، والنهب الاقتصادي للموارد والممتلكات العامة على يد تحالف منيع لا قانوني من عائلات سياسية إقطاعية، وجنرالات حرب سابقين وحاليين، وطبقة أوليغارشية جديدة، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وبلغ هذا الفساد ذروته في التفجيرات التي دمرت منطقة مرفأ بيروت بالكامل وتسببت في أضرار جسيمة في دائرة نصف قطرها حوالي 5 كيلومترات. وطال الدمار صومعة الحبوب الضخمة في المرفأ عدا جزءاً منها ظل منتصباً كما لو كان أطلالاً قديمة شاهدة على بقايا حضارة بائدة. وأعداد القتلى ستبلغ المئات، وتجاوز عدد الجرحى 6000 بالفعل. وستستمر تداعيات هذا الزلزال الصناعي لسنوات عديدة قادمة.
استقبلوا الغزاة بالورود
منذ عام 1975، غزت الدولتان القويتان المجاورتان للبنان، سوريا وإسرائيل، البلاد واحتلتا عاصمتها بيروت، وتركت هجماتهما المتكررة ندبةً لا تُمحى في الذاكرة الجماعية للبنانيين. وكانت الجيوش الأجنبية مثل جيش الولايات المتحدة وفرنسا والقوى الأوروبية الأخرى، إلى جانب فرق من دول عربية أخرى، تُرسَل إلى بيروت بين الحين والآخر لاستعادة الاستقرار. لكنها فشلت كلها.
غير أن كل جيش دخل لبنان سواء بغزو أو دعوة، وجد جماعة أو جماعات لبنانية تمطر جنودها بالأرز والزهور وتعهدات الدعم. وظن الساسة اللبنانيون المخادعون أن بإمكانهم استغلال الغرباء لخدمة أهدافهم المحدودة.
إقصاء الجميع لصالح حزب الله ليصبح أقوى طرف غير حكومي في العالم
واستمرت البلاد خاضعة لتجاذبات وتقاسم نفوذ للميليشيات من الطوائف إلى أن جاء قرار إيران وسوريا وحلفائهما المحليين باستبعاد حزب الله من التسريح الذي طال الميليشيات الأخرى بعد عام 1990 وضع لبنان على طريق الهلاك، وسمح للحزب بالانفراد بالسيطرة على البلاد.
ففي السنوات اللاحقة، تنامى حزب الله ليصبح أقوى طرف فاعل غير نظامي في العالم. إذ تنشط خلاياه الاستخباراتية والمالية في خمس قارات، وتدر أموالاً غير مشروعة من خلال التهريب وغسيل الأموال، لا سيما في أمريكا اللاتينية وإفريقيا.
وتطورت ميليشيا حزب الله التي ساهمت إيران في إنشائها وتوجيهها وتمويلها إلى ساتراب فارسي (لقب فارسي قديم لحكام المقاطعات) كامل الأركان في لبنان منح النظام الديني في طهران نفوذاً في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط (لأول مرة منذ الحروب الفارسية اليونانية).
وتحول إلى قوة تدخل سريع تدعم وتغيث النظام الاستبدادي لبشار الأسد في سوريا، فضلاً عن تدريب الميليشيات الموالية لإيران في العراق واليمن. وأصبح أي قرار يؤثر على السياسة الخارجية أو الاقتصاد اللبناني لا يُتخذ دون موافقة حزب الله، الذي سُمح له بتشييد بنيته التحتية الخاصة باتصالاته واقتصاده المحلي.
وها هو يسيطر على البلاد، ولن يسمح بتحقيق جدي في تفجير بيروت
وأصبح حزب الله الآن متغلغلاً في كل المؤسسات اللبنانية الرسمية، بما فيها القوات المسلحة ومعظم أجهزة الأمن الداخلي، وله قواعده الراسخة في مرفأ بيروت ومطارها. وأي تحقيق جاد ومستقل في انفجارات الموانئ لا بد أن يتوصل إلى قدرة حزب الله على الوصول غير المقيد إلى الميناء؛ لأن مخزون نترات الأمونيوم المصادرة التي دمرت المرفأ ومساحات كبيرة من العاصمة يمكن استخدامها في التفجيرات التجارية وغير التجارية.
ورفض الرئيس اللبناني ميشال عون، يوم الجمعة، لأي تحقيق دولي في تفجيرات المرفأ الكارثية يخبرنا بالكثير عن العقلية الجماعية للمسؤولين اللبنانيين: الإنكار والتعتيم والتستر على الحقيقة وإنكار المسؤولية، وكل ذلك أدى إلى إهمال إجرامي جسيم. ولا يصعب رؤية تأثير حزب الله على الدولة اللبنانية البائسة. ولن يأتي خلاص لبنان، ناهيك عن بناء دولة مدنية ونظام حكم رشيد، حتى يتقلص النفوذ لحزب الله أو ينتهي بالكامل.
وغضب الشعب اللبناني قد يخرج عن السيطرة
وما يزال اللبنانيون في حالة ذهول من التأثير الفوري للكارثة التي حلت بهم. غير أنه يوجد الكثير من الأدلة، كما رأينا في المظاهرات الأخيرة، على أن موجة غضب متصاعدة تتشكل ضد طبقة سياسية مجرمة شيدت بناءً هشاً من الأكاذيب والأوهام والمخاوف والفساد وانعدام المساواة.
وفي ظل التضخم المفرط، والعملة المتهاوية، والجوع، ونقص السلع الغذائية والدوائية الأساسية، سيكون الغضب عفوياً وعشوائياً لأنه لا يمكن ترجمته إلى عمل سياسي هادف من قبل جماعات المعارضة المنظمة، مما قد يؤدي إلى أعمال عنف متفرقة، وتفشي الجرائم والأعمال الانتقامية. وستحل الفوضى، ونعم، ستسيل الدماء.
والحل أن تقدم المساعدات بعيداً عن الحكومة
ومن جانبها، يتعين على الدول الديمقراطية الغربية التي ما تزال مهتمة بمساعدة اللبنانيين أن تصر على إجراء تحقيق دولي شفاف في تفجيرات بيروت.
ويتعين على الولايات المتحدة أن تساهم بخبرتها الفنية الكبيرة في التحقيق. وبعيداً عن توفير مواد الإغاثة الفورية مثل الطعام والإمدادات الطبية والمأوى المؤقت للمصابين والمشردين، يجب ألا تُقدَّم مساعدات اقتصادية أو مالية لأي وكالة رسمية لبنانية، لأنه من المحتمل أن تُسرق أو تُبدَّد أو يُساء استخدامها.
وفي المستقبل المنظور، ينبغي تقديم المساعدة الدولية من خلال المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية. ويُشار إلى أنه قبل هذه الانفجارات، أصيب المسؤولون في صندوق النقد الدولي بالإحباط إزاء القائمين على النظام السياسي الفاسد لأنهم أصروا على رفض الإصلاحات الأساسية اللازمة لضمان الشفافية والمساءلة.
وبعد التفجيرات، لا بد أن يكون صندوق النقد الدولي أكثر إصراراً على شروطه. ولنا أن نتوقع رفض الساسة اللبنانيين للإصلاحات الجادة إذا كان من شأنها فضح مكاسبهم غير المشروعة.
ونأمل أن تكون هذه الكارثة الجديدة التي حلت ببيروت الدافع الأخير للشعب اللبناني ليتوحد ويبدأ التفكير والعمل. لقد حان الوقت ليزلزل الشعب اللبناني البلاد مجدداً بصرخته الثورية "كِّلهن يعني كِّلهن"، وعليه هذه المرة أن يعمل بها.