تبدو أهداف أطراف الصراع في شرق المتوسط معقدة، حيث يتداخل فيها الاقتصادي، بالجغرافي والتاريخي بالشخصي، وخلف التحالفات المعروفة توجد مواقف لكثير من الدول، تختلف عما هو معلن.
وأصبحت منطقة شرق المتوسط محط أنظار العديد من الدول، ومن ضمنها بلدان من خارج المنطقة، بما فيها روسيا وفرنسا وبصورة أقلّ الولايات المتحدة، بعدما أظهرت الاكتشافات أنها تحوي العديد من المناطق الغنية بالغاز الطبيعي، وظهور الحديث عن إنشاء خط للغاز سُمي خط غاز شرق المتوسط للتصدير لأوروبا.
ويقدّر تقرير لهيئة المسح الجيولوجية الأمريكية عام 2010 وجود (122 تريليون قدم مكعبة) أو 3455 مليار متر مكعب من الغاز، وكذلك 1.7 مليار برميل من النفط في المنطقة.
منذ اكتشاف احتياطي ضخم من الغاز الطبيعي بشرق المتوسط في 2009، انهمكت الدول الساحلية في نزاعٍ مرير على ترسيم الحدود البحرية. وفي قلب النزاع يكمن غياب تعريف متفق عليه للمناطق الاقتصادية الخالصة لكلٍّ منها، وهي المساحات البحرية التي تُطالب الدول بحقوقٍ خالصة لها في استغلال الموارد الطبيعية فيها، مثل الغاز الطبيعي.
في هذا التقرير نرصد أهداف ومواقف وأدوات كل طرف من أطراف شرق المتوسط.
أهداف أطراف الصراع في شرق المتوسط
تركيا: لن نقبل بنتائج لوزان
لتركيا أهداف واضحة توجِّه موقفها في الصراع شرق المتوسط.
الهدف الأول جغرافي تاريخي، ترى تركيا أن اتفاقية لوزان التي وقَّعها مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك في نهاية حرب الاستقلال، قد ظلمتها، إذ منحت الاتفاقية اليونان أعداداً هائلة من الجزر الصغيرة، بعضها كان جزءاً تاريخياً من قلب الدولة العثمانية.
فبعد هزيمة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تم توزيع بعض الأراضي والجزر التي كانت تمتلكها تركيا على بعض الدول الأوروبية، ومن ضمنها جزيرة كاستيلوريزو التي أصبحت تحت السيادة اليونانية، رغم أنها تبعد عن السواحل التركية بميل واحد تقريباً.
وترى تركيا أن ترسيم الحدود البحرية أو تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة من خلال تطبيق معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار على هذه الجزر (التي تعد بالآلاف وأغلبها ضئيل المساحة)، يجعل شرق المتوسط بحيرة يونانية.
وترى أنه من غير المنطقي أن تحصل بعض الجزر اليونانية على مساحة جرف قاري ومنطقة اقتصادية تعادل أضعاف مساحتها.
على غرار أمريكا
وترى تركيا أن هناك توجهات في القانون الدولي تحدد حدود المناطق الاقتصادية بناء على المسافة من البر الرئيسي وليس الجزر، وهو ما تستند إليه في اتفاقياتها مع ليبيا.
كما أن بعض الدول التي لم توقع معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار ومنها أمريكا
وتقول إنه لا يمكن القبول بأن تركيا بمساحتها البالغة أكثر من 800 ألف كيلومتر وشواطئها الطويلة على البحر المتوسط، أن يتم حصرها في مساحة اقتصادية بَحرية محدودة كما تريد اليونان.
وما يقوِّي موقف تركيا أن هناك العديد من الدول التي رفضت مثلَها التوقيع على المعاهدة الدولية للحدود البحرية، ومن بينها الولايات المتحدة نفسها.
وبينما تستخدم تركيا لغةً وأسلوباً خشناً خاصة ضد جارتها اليونان، فإنها تعرض التفاوض مع جارتها اللدودة وفي إطار إقليمي وأوروبي، إلا أنها تريد من الاتحاد الأوروبي أن يكون محايداً.
ومؤخراً، دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى عقد اجتماع تحضره دول البحر المتوسط كافة، لإيجاد صيغة مقبولة تحمي حقوق الجميع في المنطقة، بعد أن أعلن أن الاتفاقية المصرية اليونانية لترسيم الحدود لا قيمة لها.
ناجحة اقتصادياً فقيرة في الطاقة
أما المحدِّد الثاني، بالنسبة لتركيا، فهو اقتصادي.
فرغم النجاحات الكبيرة التي حققتها البلاد في عهد حزب العدالة والتنمية، فإن البلاد تعاني من حظ جيولوجي عاثر.
فعكس أغلب جيرانها في القوقاز والشرق الأوسط والبحرين الأسود والمتوسط، فإن تركيا فقيرة في الطاقة الأحفورية، ويمثل استيراد الغاز والنفط عبئاً يُثقل كاهل الميزان التجاري للبلاد.
ومن هنا تسعى تركيا إلى أن تكون مركزاً وممراً لتوزيع الطاقة في المنطقة، لكي تحصل على رسوم عبور إضافة إلى معاملة تفضيلية من المُصدِّرين.
وفي هذا الإطار سارت التوجهات التركية مع أذربيجان وإيران وروسيا، ولكن تركيا أصبحت تعتمد على روسيا أكثر مما ينبغي، وهو الأمر الذي يثير قلق أنقرة سواء بسبب تقلُّب علاقتها مع روسيا، أو بسبب الضغوط الأمريكية للابتعاد عن موسكو، إضافة إلى تأثرها بالحصار الأمريكي على إيران.
كما أن تركيا تريد أن يكون لها نصيب في ثروات الغاز والطاقة في البحر المتوسط عبر إعادة ترسيم الحدود البحرية بطريقة أكثر إنصافاً لها.
"لن نقبل بأن تُظلَم قبرص التركية مرتين"
أما الهدف الثالث لتركيا: فهو ضمان مصالح قبرص التركية، التي ترى أنقرة أنها طرف مظلوم من قِبل قبرص الرومية والاتحاد الأوروبي، وذلك بالنظر إلى أن القبارصة الأتراك تعرَّضوا للظلم مراراً من القبارصة اليونانيين خلال فترة انضوائهم تحت مظلة الدولة القبرصية الموحدة.
فغزو تركيا لقبرص في السبعينيات جاء كردِّ فعل على انقلاب عسكري من قِبل قوميين متطرفين أرادوا ضمّ قبرص إلى اليونان، وضرب التفاهمات التي تحفظ للأقلية التركية حقوقها.
كما أن القبارصة الأتراك بعد تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا، كانوا قد وافقوا في استفتاء، على المبادرة الأممية لحل الأزمة بينما رفضها القبارصة اليونانيون، وهو الأمر الذي كان يستوجب معاقبة القبارصة اليونانيين وليس الأتراك.
ومن هنا ترى أنقرة أنها وحكومة قبرص التركية هما المخول لهما حماية حقوق قبرص التركية في البحر المتوسط.
عرض لمصر وإسرائيل أفضل مما تقدمه اليونان
تركيا تقول إن عروضها لتقسيم الحدود البحرية على مصر وإسرائيل أفضل بكثير مما تقدمه اليونان.
وهذا أمر منطقي، فبما أن اليونان تريد رسم الحدود على أساس أن تكون للجزر مناطق اقتصادية مهما كان حجمها، فإن أي دولة من شرق المتوسط ترسم الحدود البحرية بالمعيار اليوناني، فإن الأمر سيكون لصالح أثينا بسبب كثرة جزرها.
وقد ظهر هذا في الاتفاقية التي أبرمتها تركيا مع ليبيا والتي أعطت مصر مساحة بحرية إضافية.
اليونان: تدخل المعركة بجزرها وتحريض الآخرين
تحاول اليونان الاستفادة من امتلاكها آلاف الجزر لتوسيع حدود منطقتها الاقتصادية، كما تحاول توريط الاتحاد الأوروبي في خلافها مع تركيا، في ظل فارق القوة الهائل بين البلدين.
والمفارقة أنه بينما تسعى اليونان لتوتير العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي فإنها غالباً لا تستجيب لكل التفاهمات التي تُبرم بوساطة أوروبية مثلما فعلت أخيراً مع الوساطة الألمانية.
كما أن اليونان تعمد إلى تهدئة التوتر مع أنقرة التي تتشارك معها في حدود ومصالح مشتركة.
على سبيل المثال، فإن اليونان طلبت من تركيا في أبريل/نيسان 2020، بإعادة 3 بحارة يونانيين، من جيبوتي، بعدما تقطعت بهم سبل العودة إلى بلادهم، بسبب توقف حركة الطيران من جراء تداعيات فيروس كورونا، ولكنها لم تقل للرأي العام اليوناني أن أنقرة هي من أعادتهم.
وتقوم اليونان بمحاولات مماثلة مع مصر لاستغلال الخلاف الأيديولوجي بين تركيا ومصر والشخصي بين الرئيسين المصري عبدالفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان.
إذ تحاول اليونان توريط مصر في خلافها الحدودي المعقد مع تركيا، كما استغلت الجفاء بين البلدين، لدفع القاهرة إلى توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بناء على معايير اليونان، وهو أمر سيمنح مصر، الدولة القارية قليلة أو عديمة الجزر، أقل كثيراً مما ستمنحه تركيا الدولة الأشبه بمصر بطبيعتها شبه القارية قليلة الجزر.
ولكن رغم محاولات اليونان الاستقواء ببعض الدول الأوروبية لاسيما فرنسا، وبعض الدول العربية المعادية لتركيا بسبب دعمها للربيع العربي، فإن هناك محدودية لفاعلية الدعم المتوقع من هذه الدول في الميدان.
اليونانيون يعلمون أن الدعم المنتظر لهم كلامي بالأساس
ويعلم كثير من قادة اليونان أن حملاتهم تأثيرها دعائي بالأساس.
وفي هذا الإطار، قال وزير الدفاع اليوناني السابق، إيفانجيلوس أبوستولاكيس، إنه لا يوجد أي طرف سيفسد علاقاته مع تركيا من أجل اليونان.
وأكّد أبوستولاكيس أن اليونان ستبقى على الأرجح وحيدة في التوتر الذي تشهده حالياً مع تركيا حول شرق البحر الأبيض المتوسط.
وأشار الوزير اليوناني السابق إلى أن الضغوط القادمة من بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، خفيفة في الوقت الراهن.
واعتبر أبوستولاكيس أن أي صراع محتمل في المنطقة لن يكون متوافقاً مع مصالح تركيا واليونان.
وأقر بأن "أنقرة تريد جذب اليونان إلى طاولة المفاوضات حول جميع القضايا الثنائية".
وحديث عن تقديمها تنازلات قليلة لمصر
وبعيداً عن تمسُّك اليونان المعلن بمعيار معاهدة الأمم المتحدة لترسيم الحدود البحرية، فإن ما تسرَّب من اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان يشير إلى أن أثينا قد تراجعت عن مطالبها.
إذ ينقل الباحث سعيد الحاج عن البروفيسور سيرتاتش باشَران، أحد أبرز الأسماء التركية في ملف شرق المتوسط وأحد المساهمين في الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، قوله إنه إذا صحت الخرائط التي نشرتها بعض وسائل الإعلام اليونانية حول الاتفاق المصري-اليوناني، فاليونان قد تخلت عن رسم الحدود من جزيرة "مييس" الصغيرة ورسمتها من جزيرة "رودس".
وهذا يعني أولاً أنها تنازلت بشكل كبير لصالح مصر في هذا الاتفاق عن مطالبها السابقة التي كانت مصر ترفضها، ويعني كذلك أنها ستكون في موقفٍ أضعف أمام تركيا في أي حوار أو ترسيم مستقبلي.
البروفيسور يرى أن مصر أخذت في هذا الاتفاق أكثر مما كانت اليونان تعرضه سابقاً، لكنه يبقى أقل مما كانت ستحصل عليه في حال رسّمت حدودها البحرية مع تركيا أولاً.
مصر: الأيديولوجيا أم التاريخ والجغرافيا؟
يبدو أن ما تقوله مصر في شرق البحر المتوسط مختلف عما تريده، وفي كل الأحوال ما تريده وما تقوله أقل مما يمكن أن تحصل عليه.
وعكس الشائع، فإن مصر غير مستفيدة وغير متحمسة على الأغلب من خط غاز شرق المتوسط الذي يظل مشروعاً بعيد الاحتمال تواجهه عوائق كثيرة.
ولكن بالنسبة لمصر فإن لديها وضعاً مشابهاً لتركيا.
فرغم الاكتشافات الغازية المصرية الأخيرة، فإنها تظل أقل كثيراً على الأرجح، مما اكتُشف لدى إسرائيل ودول أخرى بالمنطقة.
وبالتالي فإن احتمالات التصدير على نطاق واسع ليست عالية بالنسبة لمصر.
فمشروع غاز شرق المتوسط مشروع إسرائيلي قبرصي يوناني، ولم يُطرح اسم مصر بشكل أساسي فيه.
بل العكس فإن مصر تطرح مشروعاً منافساً يقوم بالأساس على تصدير الغاز المسال عن طريق المنشآت المصرية، لتصبح مصر مركزاً لتصدير وتسويق الغاز بالمنطقة مع التركيز على الغاز المسال.
وبالتالي فإن عدم إنشاء الخط سيعزز وضع مصر كمركز لتسييل الغاز، خاصةً الإسرائيلي وقد يكون القبرصي وحتى اليوناني في مرحلة لاحقة.
وسبق أن علَّق وزير البترول والثروة المعدنية، طارق الملا، على خط أنابيب الغاز المُقتَرح بين قبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا (خط غاز شرق المتوسط)، قائلاً إنَّ عملية إعداد دراسة جدوى للمشروع قد تستغرق ما يصل إلى عامين، "وهذه بحدّ ذاتها رفاهية لم تعد تتحمّلها المنطقة".
وأضاف أنَّ مصر هي الخيار الأقل تكلفة لتصدير الغاز الطبيعي الموجود في المنطقة. ففي حين لا يوجد خط أنابيب لإعادة تصدير الغاز من مصر، تملك البلاد محطتين لتسييل الغاز من شأنهما تمكينها من البدء في إعادة التصدير دون الحاجة لاستثمارات، وباستثمارات قليلة، في البنية التحتية.
تحركات تركيا أفادت القاهرة
المفارقة هنا أنه على الرغم من أن مصر قد بادرت بإقامة منتدى غاز شرق المتوسط مع اليونان وقبرص وفرنسا نكايةً في أنقرة، فإنها استفادت من المواقف التركية التي تقف حائلاً دون إقامة خط غاز شرق المتوسط.
كما أن مصر استفادت من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا (اللافت أن وزير الخارجية المصري سامح شكري اعترف بأن بلاده تُعارضها رغم أنها لا تمس حقوق القاهرة).
وبينما يصور الإعلام المصري الخلاف على أنه بالأساس تركي-مصري، فاللافت أنه لم يجرِ الحديث عن أي خلاف مباشر بين البلدين على الإطلاق بشأن ترسيم الحدود البحرية الثنائية.
لم يقل الإعلام أو المسؤولون السياسيون المصريون إن خطوات أنقرة انتهكت السيادة المصرية مثلاً أو استولت على مياه إقليمية مصرية.
ولكنَّ هناك اعتراضاً مصرياً دوماً بشأن مواقف تركيا تجاه ترسيم حدودها البحرية مع دولة ثالثة مثل اليونان أو ليبيا.
وفي هذا الإطار جاءت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان لتمثل موقفاً مخالفاً للتقاليد الدبلوماسية المصرية في هذا الملف.
فنتيجة الوضع المعقد في شرق المتوسط لم ترسم مصر حدودها البحرية إلا مع قبرص في عام 2003، ولم ترسم مصر حدودها البحرية مع إسرائيل ولم ترسم حدودها كذلك مع اليونان، على الرغم من طلب الأخيرة ترسيم الحدود أكثر من مرة، ولكن رُفضت جميع الطلبات في عهد مبارك، وسبب الرفض المصري يعود إلى فهم مصر لطبيعة الأزمة بين تركيا واليونان، وإدراك القاهرة أن ترسيم حدودها مع أي من الطرفين يجب أن يكون بعد وصول الطرفين التركي واليوناني لتفاهم حول حدودهما البحرية.
لكن السبب الرئيسي لرفض مصر السابق ترسيم حدودها البحرية مع اليونان، هو أن الأخيرة قد سعت في عهد مبارك لترسيم حدودها البحرية مع مصر وفقاً للرؤية اليونانية، لكن القاهرة لم توافق مطلقاً، وظل الأمر معلَّقاً، بسبب إدراك مصر أن طريقة ترسيم أثينا للاتفاقية ستكون نتيجتها خسارة مصر جزءاً من المناطق الاقتصادية الخالصة الخاصة بها، وهو ما يعني خسائر احتياطات غاز محتملة في هذه المياه يمكن أن توفر مكاسب اقتصادية هائلة لمصر، بالإضافة إلى مزيد من الأهمية الجيوسياسية في شرق المتوسط.
وأفادت تقارير بأنه كانت هناك توصية مصرية داخلية برفض الطرح اليوناني لترسيم الحدود، لتمسُّكه بمواقف قد تؤدي إلى خسارة مصر مساحات من مياهها الاقتصادية، مع استمرار المفاوضات للتوافق والاستفادة من الموارد.
يبدو مما تسرب من الاتفاق المصري اليوناني أن القاهرة قد قللت الطلبات اليونانية، ولكن على الأرجح تظل مكاسب مصر حتى بعد تنازلات أثينا، أقل مما قد تعرضه أنقرة عليها.
ببساطة لأن أنقرة ستعرض ترسيم الحدود من جانبها من البر الرئيسي، وهو الأمر الذي يعطي حدوداً أطول لمصر، بينما ترسيم الحدود من الجانب اليوناني سيكون بداية من الجزر، وهو ما يقلل طول الحدود الممنوحة لمصر.
والمفارقة هنا أن الاتفاقية المصرية اليونانية حسب ما تسرب عنها، قد تكون أكثر فائدة لتركيا من القاهرة.
ولكن اللافت أن القاهرة ما زالت تُعلي الاعتبارات الأيديولوجية الخلافية الطارئة مع أنقرة على ثوابت التاريخ التي تجعل تركيا أقرب لمصر، وحقائق الجغرافيا التي تجعل مصالح مصر وتركيا أكثر تقارباً، وموازين القوى التي تجعل الاتفاق مع دول غير قوية مثل اليونان بدلاً من تركيا أمراً غير ذي جدوى على أرض الواقع.
تنسيق مصري قبرصي في مواجهة إسرائيل
وتعمل مصر وقبرص من خلف ظهر إسرائيل لإحراز تقدُّم بشأن الخطط المتعلقة بغاز يمر تحت البحر المتوسط، حسبما قالت صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
فقد وقَّعت قبرص ومصر، في سبتمبر/أيلول 2010، اتفاقاً لإنشاء خط غاز تحت البحر لنقل الغاز الطبيعي من حقل أفروديت القبرصي إلى مصر.
وتقول صحيفة Haaretz، إن مصر لم تقم بجهدٍ يُذكَر لإخفاء طموحاتها في البدء بخط الأنابيب القبرصي قبل بناء خط أنابيب شرق المتوسط، وهو ما سيُحوِّل مصر إلى مركز للطاقة من شأنه توزيع الغاز الطبيعي للمنطقة، وضمن ذلك الغاز الإسرائيلي، على العملاء في أوروبا والشرق الأوسط.
تل أبيب تخاطب الجميع
وكان قادة قبرص واليونان وإسرائيل اتفقوا على المضي قُدُماً بمشروع خط أنابيب شرق المتوسط. وصنَّفه الاتحاد الأوروبي باعتباره "مشروعاً للمصلحة المشتركة"، وكلَّفت المفوضية الأوروبية بتقييمه.
ولكن الخلافات عادت مجدداً حول ترسيم الحدود.
ففي عام 2010، قامت إسرائيل وقبرص بترسيم الحدود البحرية بينهما، وفي عام 2012 تم اكتشاف حقل أفروديت في قبرص الذي يمتد جزء صغير منه داخل إسرائيل، وقامت إسرائيل بتطوير هذا الجزء تحت اسم حقل يشاي.
بدأ الخلاف منذ عدة سنوات، عندما ادَّعت إسرائيل أن حقل يشاي يُفترض أن يكون أكبر من حجمه الحالي طبقاً للترسيم البحري بين البلدين.
بمعنى أن إسرائيل تدَّعي أن لها حقاً في جزء من حقل أفروديت القبرصي وتطالب بضمه إلى حقل يشاي. تدَّعي إسرائيل أنَّ حجم حقل يشاي من المفترض أن يكون 3 أضعاف حجمه الحالي بعد استرداد حقوقها من قبرص.
وقامت إسرائيل باتخاذ خطوات جادة في ادعائها أحقيتها في جزء من حقل أفروديت، وأرسلت مذكرة للشركات الثلاث أصحاب حق الامتياز في حقل أفروديت (شل ونوبل إنيرجي وديليك)، تخبرها بأنه ليس من حقها تطوير وتنمية الحقل إلا بعد الوصول إلى تفاهم واتفاق مع إسرائيل.
أي إنها تخبرها بمنع التنمية في حقل أفروديت. وزير الطاقة القبرصي ردَّ على الموقف الإسرائيلي بتأكيده أن الاتفاق والتفاهم بين الجانبين غير مرتبطين بتنمية حقل أفروديت، وأن تنمية الحقل ستستمر، وحتى هذه اللحظة لم يُعلَن عن أي بوادر لتسوية هذا الخلاف، غير تأكيد كل طرفٍ موقفه.
قد يكون من محصلة هذا النزاع توقُّف صفقة الغاز بين مصر وقبرص، وعدم اكتمال إنشاء خط الغاز بين مصر وقبرص، وفقدان مصر لمكاسب اقتصادية واستراتيجية.
هذا الموقف الإسرائيلي الأخير قبل البدء في إجراءات تصدير الغاز القبرصي لمحطات التسييل المصرية، يمثل انقلاباً من تل أبيب على أكبر حليفين لها في شرق المتوسط: مصر وقبرص.
تراهن إسرائيل بشكل أساسي، على مشروع غاز شرق المتوسط، ولكن ما يعرقل المشروع ليس الخلافات السياسية وبالتحديد الموقف التركي، ولكن أيضاً عراقيل فنية وارتفاع تكلفة المشروع مقابل تراجع أسعار الغاز وتزايد المنافسة من الغازين الروسي والأمريكي.
تركيا وإسرائيل.. العلاقة مع حماس تمنع التطبيع
هناك عديد من الأزمات بين تركيا وإسرائيل كذلك، فقد ظلت العلاقات متوترة منذ غارة إسرائيلية قتلت ناشطين تركيين على متن أسطول يسعى لتقديم المساعدات إلى غزة في 2010. وقد عطَّلت تركيا كل الاتفاقيات العسكرية مع إسرائيل وطردت سفيرها من أنقرة بعد رفض إسرائيل الاعتذار عن الواقعة. ولعبت اعتبارات الطاقة دوراً في إعادة البلدين النظر في علاقاتهما الثنائية.
ففي 2016، أعلنت تركيا وإسرائيل أنهما قد توصلتا إلى اتفاقٍ لتطبيع العلاقات، لكن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وفشل الجهود الساعية إلى حل مسألة قبرص، إضافة إلى رد فعل تركيا القوي تجاه قرار الولايات المتحدة نقل سفارتها في إسرائيل إلى القدس- حالت جميعها دون جهود التطبيع.
لكن الأشهر الماضية شهدت علامات إيجابية على تحسُّن الأوضاع. فقد قررت إسرائيل عدم توقيع بيان صادر عن فرنسا واليونان وقبرص والإمارات ومصر يدين تحركات تركيا في شرق المتوسط. وكذلك نشر الحساب الرسمي لإسرائيل تغريدة تمدح العلاقات الدبلوماسية مع تركيا.
ويتحول خط أنابيب شرق المتوسط، الذي باتت فرص نجاحه ضعيفة بسبب التكلفة والتحديات الهندسية، ليصبح أضغاث أحلام إسرائيلية. ومن دونه، لن تكون إسرائيل قادرة على تصدير كميات كبيرة من الغاز الطبيعي بما يجذب مزيداً من عمليات التنقيب والحفر.
فالمشروع الذي لم يكن مُجدياً اقتصادياً منذ البداية، انخفضت جدواه أكثر في السياق الحالي؛ نظراً إلى ارتفاع تكلفة التشييد وتراجع أسعار الطاقة.
والخيار الأفضل هو إنشاء خط أنابيب يمر عبر تركيا، حسب المجلة الأمريكية بشرق المتوسط، حسبما ورد في تقرير لمجلة National Interest الأمريكية.
لكنَّ مصدراً دبلوماسياً إسرائيلياً- فضل عدم ذكر اسمه- قال إن "خطاب تركيا تجاه إسرائيل ودعم تركيا لحماس" يظلان عقبتين في وجه تطبيع العلاقات.
فرنسا: دوافع سياسية وشخصية ومصالح مع المستبدين
في وقت تحاول فرنسا أن تقدم نفسها كوصيَّة على المنطقة وتقوم بتجييش الاتحاد الأوروبي ليتبنَّى سياستها، فالواقع أن فرنسا ليست جزءاً من شرق المتوسط، بل إن إيطاليا أقرب إلى المنطقة ولها مصالح أكبر، ومواقفها من أزمات المنطقة مختلفة تماماً عن فرنسا.
يحرِّك فرنسا في شرق المتوسط، عدة دوافع متناقضة.
ليست لشركات فرنسا حتى الآن مصالح مباشرة كبرى معروفة في مشروع غاز شرق المتوسط (الشركات الإيطالية تقوم بدور أكبر)، عكس ليبيا التي تتعارض مصالح الشركات الفرنسية فيها بشكل واضح مع الإيطالية؛ وهو ما يدفع باريس إلى دعم الجنرال خليفة حفتر.
أما في الخلاف بشرق المتوسط فيبدو أن أبرز دوافع باريس هو العداء الشخصي من الرئيس إيمانويل ماكرون لنظيره التركي رجب طيب أردوغان، متضافراً مع العداء التقليدي للعلمانية الفرنسية المتطرفة ضد الإسلام السياسي حتى لو أن بديل هذا الإسلام هو التطرف الديني المسلح.
ولكن الأهم في دوافع فرنسا، أن باريس عززت في عهد ماكرون توجهاً لا تخجل منه بأنها صديقة المستبدين العرب (وهو توصيف أصبح شائعاً في الإعلام الغربي).
فمثلما كان ساركوزي صديقاً للزعيم الليبي معمر القذافي، فإن ماكرون لا يخفي صداقته للثلاثي السعودي المصري الإماراتي، وهي صداقة تبدَّت في عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند، عبر صفقة مليارية اشترت بموجبها مصر طائرات رافال من فرنسا وكانت أول تطبيع للعلاقات بين مصر والغرب بعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي؛ (دفع عزل مرسي واشنطن إلى حظر تصدير السلاح لمصر).
هل هناك حل؟
بالنسبة لجميع الأطراف في شرق المتوسط، يمثل الموقف الحالي مأزقاً يضرها جميعاً. فالصراع بين تكتل تركيا والتكتل المناهض لها يؤذي مصالح الطاقة بالنسبة للجميع، وهو ما يجعل الاستثمار في المنطقة أعلى تكلفة على شركات الطاقة.
وبالإضافة إلى التحركات التركية السياسية والعسكرية، فإن أسعار الطاقة الجديدة في عالم ما بعد كورونا أدت إلى تحسين موقف تركيا، وفي الوقت ذاته فإن التصعيد الأوروبي ضد أنقرة سيدفع الأخيرة إلى الرد تحديداً على اليونان، التي لاتستطيع مواجهة أنقرة وحدها، وستدفع الأخيرة إلى مزيد من التقارب مع روسيا.
ما يعلمه الجميع أنه لا يمكن استبعاد دولة كبيرة مثل تركيا من المعادلة، كما أن أنقرة بدورها لا تستطيع فرض حل على دول شرق المتوسط.
ومع أن الجميع لا يريد نشوب حرب، إلا أن التصعيد المتبادل قد يخرج عن السيطرة، وحتى لو لم يخرج عن السيطرة فإنه يرفع التكلفة على الجميع عبر تأخير الاستفادة من موارد المنطقة، وتوتير العلاقة بين شعوبها.