لماذا لم يتخلص السيسي من شيخ الأزهر كما فعل مع حلفائه السابقين الذين اختلف معهم؟، بدأ هذا السؤال يطرح مجدداً في مصر بعدما عاد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يستهدف الأزهر مرة أخرى.
إذ إن السيسي الذي استكمل في الشهر الماضي يونيو/حزيران 6 سنوات في رئاسة أكبر دولة عربية، يشعر بالضجر من التحديات القادمة من الأزهر، أهم مؤسسة دينية في مصر والأكثر احتراماً في العالم الإسلامي.
وبعد صدامات عديدة، قام السيسي بقص أجنحة واحدة من هذه المؤسسة.
ففي الأسبوع الماضي، وافق البرلمان المصري على مشروع قانون مصمم لفصل دار الإفتاء عن الأزهر الشريف ونقل تبعيتها للحكومة.
وكان مشروع القانون في البداية ينص على تبعية دار الإفتاء وهو ما رفضه الأزهر الشريف حيث اعتبر أن دار الإفتاء وكل المؤسسات الدينية تتبع الأزهر الشريف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة الوطن المصرية.
وفي النهاية وافق مجلس النواب برئاسة علي عبدالعال، على تعديل المادة الأولى من مشروع القانون حيث تمت الموافقة على مقترح عدد من النواب بأن تكون تبعية دار الإفتاء لمجلس الوزراء بدلاً من وزارة العدل، ورفض المجلس مقترح من بعض النواب بتبعية الدار للأزهر الشريف.
واعتبرت هيئة كبار العلماء بمشيخة الأزهر القانون اعتداءً على استقلالية الأزهر وخلق كيان موازٍ له.
فخلال مناقشة المشروع أرسل الأزهر عبر هيئة كبار علمائه خطاباً أعلن فيه رفضه للمشروع، مقترحًا بعض التعديلات التي تتسق مع أحكام الدستور وتحفظ للمشيخة استقلاليتها، إلا أنه من الواضح لم يؤخذ بها، بعدما أقر المجلس بصفة مبدئية نقل تبعية الدار لمجلس الوزراء، ضارباً بتحفظات الهيئة عرض الحائط.
هكذا يواصل السيسي إضعاف الأزهر
وتعد دار الإفتاء المؤسسة الدينية المسؤولة عن الأحكام الدينية وتفسير القوانين الدينية وهي تابعة للأزهر. وبعبارة أخرى، سوف تكون دار الإفتاء بموجب القانون الجديد تحت إشراف الحكومة المصرية مباشرةً.
هيئة كبار العلماء أوضحت أن الأزهر كان الجهة الوحيدة المسؤولة عن الأمور الدينية برمتها، وفي الصدارة منها الإفتاء، فكان يتولى البت في المسائل الشرعية والرد على الاستفسارات كافة وتقديم الآراء بشأن المعاملات المعاصرة، بجانب التصدي للشبهات والتعامل معها.
يعني ذلك أن الأزهر سوف يُطلب منه توفيق أحكامه مع سياسة الرئيس، وسوف يُختار المفتي ويُعين عن طريق الرئيس، الذي سوف يقرر حتى مدة بقائه في المنصب. وسوف تكون ميزانيته جزءاً من ميزانية الدولة، وبالتالي سوف يصير هيئة دينية منافسة تحجب بظلالها سلطة الأزهر، حسب وصف صحيفة Haaretz الإسرائيلية.
وألغى القانون المقدم الهيئة المتعلقة بتعيين مفتي الجمهورية، حيث كانت الهيئة ترشح 3 شخصيات بواسطة كبار أعضائها ويتم الاقتراع وانتخاب أحدهم لشغل المنصب، لكن في التعديل الجديد يكون تعيين المفتي بقرار من رئيس الجمهورية، مع إمكانية التجديد له بعد بلوغ السن القانونية، دون تحديد مدة، كل هذا دون العرض على هيئة كبار العلماء ولا المشيخة.
ويرى شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب على نحو مبرر أن هذا القانون خطوة لن تقتصر على تقويض مكانته وحرمانه من سلطة تعيين المفتي ومنح البلاد فرعاً تنفيذياً دينياً، بل يتهم كذلك الحكومة بمخالفة مواد الدستور التي تجعل الأزهر المصدر الوحيد لجميع الأحكام والتفسيرات الدينية، وتمنحه الاستقلالية الكاملة في قراراته. بحسب تفسير الطيب، سوف يكون الدين حينئذ تحت سيطرة الدولة. ومن ثم سوف يتمم الرئيس إحكام قبضته على مؤسسات البلاد.
الأمر بدأ منذ مذبحة رابعة
دخل الرئيس السيسي في خصومة مع الأزهر وشيخه منذ عام 2013، عندما أطاح سلفه الرئيس الأسبق الراحل محمد مرسي، أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وسيطر فعلياً على الحكومة حتى صار منصبه دائماً في انتخابات رئاسية عُقدت في عام 2014.
فالبرغم من تأييد الطيب إطاحة مرسي، لأنه كان خائفاً من استيلاء الإخوان المسلمين على مؤسسات البلاد وعلى رأسها الأزهر، فإنه وجّه بعد الإطاحة بمرسي بوقت قصير انتقادات شديدة للعنف الذي مارسته قوات الأمن ضد المتظاهرين الذين احتجوا على هذه الخطوة: وهي حملة قمعية قُتل فيها حوالي 1000 شخص وأصيب الآلاف (على رأسها مذبحة رابعة العدوية).
ثم الخلاف حول التكفير
لم ينس السيسي هذه الانتقادات، التي أُضيفت إلى اشتباكات كلامية عديدة أخرى بين الرئيس والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب.
على سبيل المثال، رفض الطيب الحكم بتكفير مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). إذ يرى أن تكفير الناس أمر خطير لأن داعش نفسه برر قتل المسلمين عن طريق تكفيرهم.
وأثار رأي الطيب معارضة وموجة انتقاد واسعة من جانب الحكومة. وفي مقابلة تلفزيونية عام 2015، طالب الباحث إسلام البحيري بعزله.
وبعد عامين، ظهر شقاق آخر عندما أعلن السيسي تفضيله تبني تفسير أكثر تحرراً للإسلام وطالب بوضع حد لأساليب الوعظ والدعوة المتطرفة، وطالب بحظر الطلاق الشفوي والقضاء بوجوب الطلاق بموجب وثيقة مكتوبة.
أوضح السيسي أن حوالي 40% من الزيجات السنوية في مصر، البالغ عددها 900 ألف زيجة، تنتهي بالطلاق: وأغلبها تحدث عندما يتلفظ الزوج قائلاً لزوجته "أنت طالق" ثلاث مرات. رفض الطيب هذا الطلب مستنداً إلى أسباب دينية وأخرى تتعلق بالتقاليد، ولذا صار "عدو" الخطاب الديني الجديد الذي أراد السيسي الترويج له.
إنه مؤمن بالإسلام، ولكن يريد السيطرة على الدين كما سيطر على السياسة
يختلف السيسي مع الطيب كذلك حول مسألة وضع التفسيرات الدينية. يعتقد السيسي أن الناس يجب أن يسترشدوا بالقرآن وأن التفسيرات هي ما سببت تزايد الحركات المتطرفة والإرهابية، استناداً إلى ما يقول عنها إنها تفسيرات دينية متطرفة.
وعلى النقيض، يعتقد الطيب أنه من المستحيل بدون التفسيرات مراعاة قوانين الشريعة وتوفيقها مع الأزمنة المعاصرة. وقال: "لا توجد آية واحدة يتبين منها المسلم كيف يصلي ولا كيفية الصلاة ولا عدد ركعاتها ولا عدد السجدات، ولذلك لا يمكن معرفتها إلا من السنة النبوية التي هي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام".
السيسي مؤمن بالإسلام، لكنه كذلك يعتقد أن مصر في حاجة إلى زعيم قوي، لا يستطيع تحمل التعثر بين قواعد الديمقراطية التي لا تعد ولا تحصى، وحرية التعبير عن الرأي، وحقوق الإنسان. فقد نجح في إضعاف خصومه السياسيين، واعتقل منتقديه.
وإذا كانت هناك حاجة لوضع نهاية لحرية التفسيرات الدينية وتوفيقها مع معاييره، فإنه لا يتردد في الأمر.
لماذا لم يتخلص السيسي من شيخ الأزهر كما فعل مع حلفائه السابقين الذين اختلف معهم؟
وفي واقع الأمر، كان أحد التساؤلات التي شغلت خلد المعلقين المصريين هو لماذا لم يتخلص من شيخ الأزهر.
إذ إن ذلك ما فعله الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في عام 1961 عندما أصدر قانون إعادة تنظيم الأزهر الشريف وحوّله إلى مؤسسة حكومية، وأعطى الرئيس حق تعيين شيخ الأزهر.
كما أن السيسي له تاريخ طويل في التخلص من حلفائه السابقين عند أدنى خلاف، بدءاً من تقربه للرئيس المعزول محمد مرسي ليعينه وزيراً للدفاع بدلاً من قائده محمد حسين طنطاوي وصولاً إلى الانقلاب على زعيم المعارضة الليبرالية محمد البرادعي وعزل صهره رئيس الأركان الفريق محمود حجازي واعتقال قائده السابق سامي عنان (رئيس الأركان الأسبق الذي أراد الترشح للرئاسة).
لكن ما كان ممكناً في الستينيات، صار تطبيقه أصعب اليوم بالنسبة لشيخ الأزهر.
فالأزهر الشريف مؤسسة تتمتع بمكانة دولية، ولدى الطيب علاقات متميزة مع قادة العالم، بمن فيهم بابا الفاتيكان البابا فرنسيس. ويعد الأزهر مسؤولاً عن أكثر من 150 ألف مسجد، بجانب مسؤوليته عن شؤون جامعة الأزهر المرموقة التي تضم آلاف الطلاب من جميع أنحاء العالم. وما لا يقل أهمية أن شيخ الأزهر يتمتع بدعم حاكم الإمارات، وهو حليف عسكري ودبلوماسي للسيسي.
يمكن أن يؤدي عزل شيخ الأزهر إلى احتجاج شعبي خطير بدون داعٍ.
ويكفي للسيسي أن يسيطر على محتوى الأحكام الدينية بدون تقويض مكانة وهيبة شيخ الأزهر.
في عام 1919، أعلن سعد زغلول، الشخصية التاريخية الثورية الذي صار لاحقاً رئيس الوزراء، أن "الدين لله، والوطن للجميع"، عندما حاول توحيد الشعب المصري بمجتمعاته الدينية العديدة، وذلك خلال نضاله ضد المستعمر البريطاني. لكن السيسي على ما يبدو اتخذ خطوات نحو تبني هذا الشعار ولكن بقليل من التصرف، ليصير معه: الدين لله، يخضع لتفسيرات الرئيس.