مشهد رجال أمن ملثمين ومسلحين بصورة مرعبة يجرُّون متظاهرين ويقيدونهم ويضعونهم في سيارات دون لوحات، ثم يأخذونهم لأماكن غير معلومة، هو مشهد معتاد في الدول البوليسية، لكن مَن يصدِّق مشهداً كهذا في الولايات المتحدة الأمريكية؟ نعم، حدث هذا، والمرجَّح أنه سيتكرر كثيراً قبل أقل من 100 يوم على الانتخابات الأمريكية، فما القصة؟
ترامب يصف المحتجين بالإرهابيين
هذا المشهد الذي حدث أمس السبت، 25 يوليو/تموز 2020، في شوارع مدينة بورتلاند، في ولاية أوريجون، أثار عاصفةً من الانتقادات وصلت إلى حدِّ وصفِ الرئيس دونالد ترامب بـ"الديكتاتور"، وفتحت النقاش بشأن "تعريف الإرهابي"، ولم يقتصر الأمر على وسائل الإعلام الأمريكية، حيث نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً بعنوان "أمريكا إلى قانون الطوارئ"، تناول ما حدث في بورتلاند، وكيف أنه يمثل تهديداً للديمقراطية ذاتها، بحسب مشرّعين أمريكيين طالبوا بفتح تحقيق في الكونغرس حول أساليب القوات الفيدرالية التي تتصرف بناء على أوامر ترامب لقمع الاحتجاجات ضد العنصرية.
وبحسب شبكة CNN الأمريكية، اتَّضح أنَّ القوة التي تُشبه في أدائها أداء الفرق شبه العسكرية، ولا يحمل أفرادها رقعة إظهار الاسم والرتبة وجهة العمل، كانوا من ضباط وزارة الأمن الداخلي التي تم إنشاؤها في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، للتعامل في الأساس مع الإرهاب، وبتحديد أكثر، تلك القوة من هيئة الجمارك وحماية الحدود ضمن الوزارة، والتي يفترض أنها مكلفة "بحماية الحدود الأمريكية" من الأشخاص الخطرين، وكذلك تهريب المواد الخطرة إلى البلاد.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات ضد العنصرية، في أعقاب مقتل جورج فلويد، المواطن الأمريكي من أصل إفريقي، بعد أن جثم شرطي أبيض بساقه على رقبته لأكثر من 9 دقائق فاختنق ومات، كرَّر ترامب في عديد من المناسبات وصفَه للمحتجين ضد العنصرية في البلاد بأنهم "إرهابيون"، والأسبوع الماضي وعد بإرسال المزيد من وحداته العسكرية إلى بورتلاند وغيرها من المدن التي يحكمها ديمقراطيون للتصدي للمتظاهرين.
أساليب تهدد الديمقراطية
أرسل أعضاء الكونغرس عن ولاية أوريجون خطاباً شديدَ اللهجة إلى وزارة الأمن الداخلي، وجَّهوا فيه انتقاداتٍ لاذعة للرئيس ترامب، شبَّهوا فيه ما قام به الضباط من دفع لمحتجين في سيارات مجهولة بأساليب تُستخدم في البلاد ذات الأنظمة السلطوية.
"هذه الأساليب تشمل نشر عملاء فيدراليين لا يحملون شاراتِ تعريف الشخصية، في محاولة واضحة لتجنب الشفافية والمحاسبة، وخطف الناس من الشوارع دون سبب واضح للقبض عليهم، واستخدام ذخائر قد تكون قاتلة لإصابة محتجين سلميين.. هذه الأفعال خارجة عن السيطرة، وتعكس أساليب حكومة يرأسها ديكتاتور، وليست حكومة تدير جمهوريتنا الديمقراطية"، وأضاف المشرعون في خطابهم أن تلك الأساليب تحمل "تشابهاً مرعباً مع أساليب الحكومات الديكتاتورية التي تخفي قسرياً منتقديها ومعارضيها".
وفي مقابلة مع الغارديان، قال عضو الكونغرس رون وايدن -ديمقراطي- إن الأساليب السلطوية التي استخدمتها الحكومة الفيدرالية في بورتلاند ومدن أخرى تمثل تهديداً "ضخماً" للديمقراطية، بينما وصفها زميله السيناتور جيف ميركلي بأنها "هجوم شامل بأسلوب عسكري" على معارضين سلميين.
وقد أعلنت الجهات الرقابية المستقلة في وزارتي العدل والأمن الداخلي أنها ستفتح تحقيقات في استخدام القوة من جانب القوات الفيدرالية، بما فيها وقائع خطف ضباط ملثمين ومسلحين لمتظاهرين من الشوارع، ووضعهم في سيارات مجهولة إلى أماكن غير معلومة.
لكن ترامب لم يُبدِ أي إشارة على أنه سيتراجع عن موقفه، بل أعلن أنه سيزيد من إرساله للقوات الفيدرالية إلى شيكاغو ومدينة كانساس، حيث الاحتجاجات التي تنظمها حركة "حياة السود مهمة" في تصاعد مستمر، وهو ما يصفه المنتقدون لترامب بأنه استغلال لشعار فرض "النظام والقانون" لأغراض انتخابية تنتهك الحريات المدنية.
ترامب صديق الديكتاتورين حول العالم
ومع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، في 3 نوفمبر/تشرين الثاني -أي بعد أقل من 100 يوم- يرى المراقبون أن الرئيس الأمريكي، الذي تُظهر جميع استطلاعات الرأي أنه متأخر بفارق يزداد اتساعاً كل يوم عن منافسه الديمقراطي جو بايدن، قد بدأ في بلورة استراتيجيته الانتخابية، لتتمحور حول شعار "فرض القانون والنظام"، وتصوير معارضيه على أنهم يسعون للفوضى.
وفي الوقت الذي تواجه فيه إدارة الرئيس الأكثر جدلاً في التاريخ أزمةً ثلاثية الأبعاد -وباء كورونا، وانكماش الاقتصاد الناتج عنها، والاحتجاجات ضد العنصرية- يبدو أن ترامب وحملته يعولان على الهجوم وليس الدفاع في الأزمات الثلاث؛ الوباء والاقتصاد تسببت فيهما الصين، والاحتجاجات يقودها إرهابيون يسعون للفوضى وهدم الثوابت والاستقرار في أمريكا.
وفي ظل تاريخ ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض، وتصريحاته المتكررة التي تنم عن الإعجاب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينغ، والكوري الشمالي كيم جونغ أون، وعلاقة ترامب القوية مع ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي -الذي وصفه ترامب بأنه ديكتاتوره المفضل- في ظل كل هذا يخشى المراقبون أن يكون الرئيس الجمهوري قد قرّر اتّباع نفس الأساليب التي يتّبعها "أصدقاؤه" لضمان الفوز بفترة رئاسية ثانية.
ما فرص نجاح استراتيجية ترامب؟
أشار تقرير CNN لبعض النماذج في تعامل "أصدقاء ترامب" مع المعارضين في بلادهم، حيث تم رصد الاختفاء القسري، واعتقال عشرات الآلاف من المعارضين بتهم "الإرهاب" أو التشجيع عليه، سواء في مصر أو روسيا أو السعودية أو الإمارات أو الصين، حيث أصبح محتج يطالب بالديمقراطية في هونغ كونغ وعمره 23 عاماً فقط، هو أول شخص يخضع للمحاكمة بموجب قانون الأمن الوطني الجديد، الذي أقرّته بكين قبل أسابيع، للقضاء على الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية في هونغ كونغ.
كان البعض يقلل من خطورة تصريحات ترامب التي يصف فيها المحتجين بالإرهابيين، على أساس أنها نابعة من شخصيته المندفعة والانفعالية، ولا تعني أكثر من ذلك، لكن إصراره على تصنيف "أنيفا" -حركة يسارية لا توجد لديها قيادة أو مقر بل مجرد فكرة- على أنها حركة إرهابية، ومشاهد القمع والخطف في أوريجون، تُظهر أن الرجل يريد بالفعل أن يطبّق أسلوب وصم المعارضين بالإرهاب، وليست فقط مجرد تصريحات انفعالية.
وهذا هو السبب الرئيسي وراء حالة الثورة التي انتابت المعسكر الديمقراطي، وحتى المراقبين المحايدين، في أعقاب تلك المشاهد غير المعتادة على الأراضي الأمريكية، حيث إنه مع اقتراب موعد الانتخابات الأكثر شراسة في تاريخ أمريكا أصبح واضحاً أن ترامب سيُصعّد من أسلوب وصف المحتجين ضد العنصرية بالإرهابيين، وسيتعامل على هذا النحو.
وعما إذا كانت أساليب ترامب الديكتاتورية في قمع المعارضة تحمل فرصة للنجاح، يرى بعض المراقبين أن ذلك يتوقف بالأساس على كيفية تصرُّف المتظاهرين، ففي حالة لجوء المتظاهرين للعنف على الأرجح سيساعد ذلك ترامب كثيراً في خلق رأي عام سلبي ضد الاحتجاجات، وبالتالي يصبّ في صالحه في صناديق الاقتراع.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة نوتردام بإنديانا، لويس شوميريني، قال لشبكة CNN، إن هناك احتمالاً أن يكون هدف ترامب من تطبيق تلك الأساليب القمعية هو استفزاز المتظاهرين، وتحويل الاحتجاجات من تجمعات صغيرة ضد العنصرية إلى حركة احتجاج أكبر ضد الحكومة بشكل عام، وهو ما قد يتحول إلى مظاهر للعنف والفوضى، تنقلها وسائل الإعلام للأغلبية الصامتة في المنازل، ومن ثم يتكون ذلك الانطباع السلبي عن الاحتجاجات.
لكن خطورة هذا الأسلوب تتمثل في حجم العنف الذي قد تصل إليه الأمور، ففي حالة خروج الأمور عن السيطرة قد يضر ذلك ترامب، لأنه سيصبح وقتها "الرئيس العاجز عن فرض النظام والقانون"، وبالتالي ترتد استراتيجيته عليه، لذلك يرى المراقبون أن الأمر كله مقامرة انتخابية غير مضمونة النتائج، لجأ إليها ترامب في ظل نفاد ما في جَعبته حتى الآن.