كانت الانتخابات البرلمانية السورية في المعتاد شأناً يمكن التنبؤ به؛ إذ يخوضها مرشحون مختارون في هيئة تشريعية شكلية تضم بلا هوادة أغلبية كبيرة من حزب البعث الحاكم، غير أن الانتخابات السورية التي عُقدت هذا الأسبوع اتَّضح أنها شيء مختلف. مع بدء ظهور النتائج، بدأ يظهر أن هناك نوعاً من الاضطراب في الانتخابات، كما تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية.
قادة الميليشيات في مجلس الشعب
فقد خرج بعض من "النخب الحضرية" التقليدية التي شغلت مقاعد مجلس الشعب السوري لسنوات، وحل محلها بعض من قادة الميليشيات والمستفيدين من الحرب، الذين صعدوا إلى صدارة المشهد على مدى السنوات التسع الماضية، التي شهدت صراعاً ارتبط باستياء السوريين بمناطق النظام، الذين انهارت مستويات معيشتهم بسبب الدمار الذي خلّفته الحرب.
جميع الفائزين والخاسرين يؤيدون بإخلاص رئيس النظام بشار الأسد. وتنص القواعد الانتخابية في سوريا على أن المرشحين يجب فحصهم واعتمادهم عن طريق الهيئات الأمنية، ما يضمن وجود هيئة تشريعية موالية ومذعنة.
ومن ثم لم تشكل النتيجة أي مفاجأة: كانت الغالبية العظمى من المقاعد البالغ عددها 177 مقعداً، التي فازت بها قائمة "الوحدة الوطنية"، تتكون من الأحزاب السياسية الرئيسية المؤيدة للنظام، مع حصول حزب البعث على نصيب الأسد (166 مقعداً)، وهو الحزب الذي هيمن على مجريات السياسة في سوريا على مدى الـ57 عاماً الماضية.
حتى الموالون للأسد يتحدثون عن التزوير
لكن الاحتجاجات التي استقبلت عديداً من النتائج، تشير إلى بعض الشقوق التي برزت بين دوائر الموالين، في الوقت الذي صار فيه النضال من أجل إنقاذ الاقتصاد المنهار ذا أولوية مقدّمة على قتال المعارضة المسلحة.
أثار المرشحون الخاسرون مزاعم بتزوير الانتخابات، وملء صناديق الاقتراع بأصوات مزورة، والتدخل السياسي. وقد أثيرت الدهشة بسبب أعداد الأصوات الكبيرة برغم روايات الشهود بأن المشاركة كانت منخفضة، وشكا بعض المرشحين من أن أسماءهم شُطبت من بطاقات الاقتراع في اللحظات الأخيرة، لسبب غير مفهوم، من أجل إفساح المجال أمام الشخصيات المفضلة لدى النظام.
كانت المرشحة سندس ماوردي بين هؤلاء الذين اكتشفوا قبل ساعات من التصويت يوم الأحد 19 يوليو/تموز، أن اسمها استُبدل به حسام قاطرجي، الذي يُعَدّ أحد الأغنياء الجدد من رجال الأعمال، والذي فرض عليه الاتحاد الأوروبي عقوبة لتهريب القمح والدقيق نيابة عن النظام.
في سلسلة من المنشورات على موقع فيسبوك، كذَّبت سندس التقارير التي تشير إلى أنها انسحبت بإرادتها ووجهت اتهامات تقول إن المرشحين الفائزين اشتروا مقاعدهم بالمال.
وكتبت في أحد المنشورات تناشد الأسد لتأسيس لجنة تحقق في مزاعمها وتذكره بولائها: "بعض المرشحين… وصلوا إلى هذا المجلس عن طريق دفع الملايين". وأضافت: "ودمتم ذخراً لهذا الوطن وهذا الشعب الذي يكاد يختنق من كثرة انتشار الفساد والفاسدين".
"مستويات فاضحة من الفساد"
أحد أبرز الخاسرين هو فارس الشهابي، رئيس غرفة صناعة حلب، الذي استخدم مكانته بوصفه عضواً برلمانياً سابقاً من أجل الدعوات للحصول على تمويلات إعادة إعمار حلب ومن أجل أن يكيل المديح للأسد.
وكتب على صفحته في فيسبوك: "تعرّضت للإقصاء بمؤامرة خبيثة ومكشوفة وبأساليب قذرة فاضحة… ولو كنت خسرت فعلاً في انتخابات شفافة ونظيفة لكان الأمر مختلفاً".
لم يسبق قط أن سارت العملية الانتخابية في سوريا بطريقة شفافة، لكن هذا التصويت أظهر مستويات فاضحة من الفساد، وذلك حسبما قال صحفي سوري مؤيد للحكومة ويعيش في سوريا، تحدث عبر تطبيق مراسلة بشرط عدم الكشف عن هويته خوفاً من المخاطر المرتبطة بالحديث مع صحفيين أجانب.
وأوضح أنه برغم أن أسماء مرشحي حزب البعث كانت معروفة دائماً مسبقاً، ضمّت الانتخابات السابقة على الأقل بعضَ المقاعد التي أُتيحت للمرشحين المستقلين الذين استطاعوا الفوز عن طريق الحصول على أعلى نسبة من الأصوات. وأضاف: "هذه المرة كلها كانت معروفة".
وقال النظام إن الانتخابات كانت حرة ونزيهة، ونقلت الوكالة العربية السورية للأنباء عن سامر زمريق، رئيس اللجنة القضائية العليا للانتخابات: "لم يُسجَّل وجود أي خروقات أو مخالفات في سير العملية الانتخابية".
ومع ذلك، نادراً ما كانت مثل هذه الاتهامات بوجود مخالفات تُسمع بصوت عال. صار السوريون خلال السنوات الأخيرة صاخبين على نحو متزايد من ناحية توجيه الانتقادات إلى الممارسات الفاسدة الملحوظة لنظامهم، بسبب تنامي الإحباط من الاقتصاد المزري. فقدت الليرة السورية 60% من قيمتها هذا العام، ويعيش أكثر من 80% من السكان في حالة فقر، وذلك حسبما تقول الأمم المتحدة.
انقسامات جديدة بين أتباع الأسد وفي مناطق سيطرته
وكشفت الانتقادات اللثام عن أحد الانقسامات الجديدة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، بين النخب البرجوازية التقليدية التي وقفت بجانب الأسد خلال الحرب وبين الأغنياء الجدد من أمراء الحرب والمهربين الذين ساعدوه بفاعلية في الانتصار فيها. والآن صار أمراء الحرب هم من يُكافأون بالمقاعد البرلمانية، وفقاً لما أوضحه جوزيف ضاهر، الأستاذ المشارك في معهد الجامعة الأوروبية.
قالت روان الرجولة، المحلِّلة السورية المستقرة في واشنطن، التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع دمشق: "الوجوه هي التي تغيّرت. إنهم أثرياء الحرب الجدد، الذين انتسبوا إلى الميليشيات والذين جنوا المال من الحصارات ونقاط التفتيش".
وقالت إن قليلاً من السوريين الذين تعرفهم تعاملوا مع الانتخابات بجدية، إذ إن المقاعد البرلمانية كانت تُباع وتُشترى في الماضي، وقليلون هم من قد يتفاجأون من ظهور هذه الممارسات للعلن. ولكن بالنسبة للسوريين الذين راودهم الأمل بأن انتهاء الحرب قد يبشر بعهد جديد، شكّلت الانتخابات مصدر إحباط آخر بالنسبة لهم، وذلك بحسب طالب جامعي من ضواحي دمشق، تحدّث بشرط عدم الكشف عن هويته. إذ قال: "لم يكن فساد الانتخابات شيئاً صادماً، كانت هذه حكاية تحدُث كل أربع سنوات منذ أن وُلدت، لكن هذه المرة يصاحبها شعور سيئ لأننا نسأل أنفسنا: هل حقاً السنوات التسع من إراقة الدماء والدمار لم تُغير أي شيء على الإطلاق؟!".